الفصل 11
إن كان سيغضب، فليغضب فحسب، أمّا إن كان سيتحرّك وهو يراقب كلّ حركةٍ منّي بهذا الشكل، فما الداعي إذًا لأن يُحضرني معه من الأساس.
بصراحة، لو استمرّ نيريوس في التصرّف هكذا، فربّما يتبدّد ما تبقّى من الخوف في داخلي كلّه.
ومع ذلك، سواء كان يعلم ما يدور في صدري أم لا، ظلّ نيريوس يراقب ردود فعلي بحرصٍ شديد.
“آه، فهمتِ، أليس كذلك؟ لارا أعني احم— إياكِ أن تخبري غيل أو آيزاك، حسنًا؟ ما قاله أبوكِ أمامكِ هذا سرٌّ مطلق.”
“أمم، سأفكّر في الأمر.”
“أيّ طفلةٍ في السادسة تستعمل كلمة ‘أفكّر’ أصلًا؟ هل أنتِ عبقريّة حقًّا؟ لا، ليس هذا… لكن، ألا يمكنكِ أن تقولي إنّكِ ستتجاوزين الأمر قليلًا؟”
“هممم….”
حين أطلقتُ همهمةً متردّدة، بدا أنّ نيريوس قد عقد العزم أخيرًا، فأطلق زفيرًا طويلًا وقال بإعلانٍ حاسم:
“إن أغلقتِ فمكِ الآن وتجاوزتِ الأمر، فسأعطيكِ حصّتكِ كاملةً من كعكة الشوكولاتة وكريمة البف.”
“…….”
“ومعهما بودينغ أيضًا.”
حين ظللتُ أحدّق به بصمت، أضاف البودينغ محاولًا إتمام الصفقة.
‘هل يحاول رشوة ضابطة بحريةٍ سابقة؟’
نظرتُ إلى نيريوس وذراعاي معقودتان، ثمّ أطلقتُ تنهيدةً كبيرة.
“حسنًا، سأتغاضى عن الأمر.”
لم يكن ذلك لأنّني انخدعتُ بالحلويّات التي عرضها نيريوس، بل لأنّ تصرّفه اليائس هذا كان يبعث على الشفقة.
‘لستُ طفلةً إلى الحدّ الذي يجعلني أُفتن ببضع حلويّاتٍ سكّريّة.’
“أبي، قبل الكعكة، علينا أن نُنهي أمر هذا البستان أوّلًا.”
كان واضحًا أنّ نيريوس، وقد صبّ كامل انتباهه عليّ، نسي أمر مالك البستان نسيانًا تامًّا.
ولمّا نبّهتُه، قال “آه!” وأعاد ضبط مسدّسه.
“إذًا، هل أدركتَ ذنبك؟”
بعدما رأى ما فعله نيريوس، كان من المفترض أن يخفّ رعبه قليلًا، لكنّ حارس البستان ظلّ يرتجف وهو يضرب رأسه بالأرض.
“نـ-نعم.”
نيريوس مخيفٌ بالفعل.
بالنسبة لي، هو شخصٌ أحمق يتخبّط كلّ مرّة، لكن ملامحه شرسة بما يكفي لتُخيف الآخرين.
شعرٌ داكن كأعماق البحر، عينٌ واحدة مكشوفة بسبب العصابة، تتلألأ بحمرةٍ مخيفة، جسدٌ ضخم مليء بالندوب، ووجهٌ قاسٍ تعلوه لحيةٌ خشنة.
أيّ شخصٍ لا يعرفه كان سيظنّه مجرمًا دون تردّد، وكان صورةً مثاليّة لما يخطر بالبال عند سماع كلمة ‘قرصان شابّ’.
‘قالوا إنّ الأطفال الذين لا يبكون عند رؤية نيريوس نادرون جدًّا. صحيح… لو رأيته وأنا رضيعة، لبكيتُ حتمًا.’
“همم؟”
في تلك اللحظة، شعرتُ بوخزٍ حادٍّ وقصير في رأسي.
‘ما هذا؟’
وسط إحساسٍ غامضٍ بأنّ شيئًا ما على وشك الظهور في ذاكرتي، رأيتُ إنسانًا يزحف نحوي ببطء.
“أ-أرجوك… اعفُ عنّي..”
“تسك.”
حين بدأ مالك البستان يزحف نحوي، نقر نيريوس بلسانه وحملني مجدّدًا بين ذراعيه.
“قذر، قذر. لا تتنفّسي قربه ولو قليلًا.”
“أمم، لكن من الأساس أنتَ من أحضرني من مكانٍ بعيد إلى هذا البستان، يا أبي.”
“……”
تجنّب نيريوس النظر إليّ للحظة، ثمّ قال:
“هـ-هذا تـ-تعليمٌ مبكّر.”
‘تعليمٌ لأيّ شيء؟’
أيّ تعليمٍ مبكّر هذا بحقّ السماء.
ظللتُ أحدّق فيه دون كلام، فبدت عليه علامات الارتباك، وكأنّه كان يلفّ ويدور فعلًا.
فأخذ يسعل بصوتٍ عالٍ.
“عـ-على أيّ حال! لارا، ألم تقولي إنّكِ تحتاجين شيئًا؟ قولي لي. سمعتُه لكنّي نسيتُ.”
“أبي، أنتَ غبيّ.”
“إذًا لارا تشبه أباها و هي غبيّةٌ أيضًا؟”
“ماذا تقول؟ أنا أذكى منك بكثير، حسنًا؟”
“حقًّا؟ إذًا، كم ناتج 512 + 695 + 124؟”
“1331.”
“…هل أنتِ عبقريّة فعلًا؟”
قرص نيريوس خدّي برفق، وهمس بإعجابٍ صغير.
كان منظرنا يبدو كأبٍ وابنته في مشهدٍ دافئ.
‘لو لم يكن هناك إنسانٌ يضرب رأسه بالأرض تحتنا، لكان الأمر مثاليًّا.’
“أحتاج إلى جذور شجرةٍ مصابة بداء التنّين الأبيض، وإلى عصارة شجرة برتقالٍ سليمة.”
“هل سمعتَ؟”
حين ذكّرتُه بما أحتاجه، ابتسم نيريوس لي، ثمّ قال لمالك البستان وهو يبتسم ابتسامةً مائعة:
“أحضِر ما تطلبه أميرتنا فورًا، إن لم تكن ترغب في أن تُدفن تحت الأرض.”
كلماتٌ مرعبة خرجت من وجهٍ أحمقٍ مبتسم.
“…!”
عندها فقط فهم مالك البستان الموقف، فنهض مسرعًا وركض بكلّ ما أوتي من قوّة.
نظرتُ إليه وهو يبتعد، وسألت:
“ماذا لو هرب؟”
“لا تقلقي. لدى بابا دائمًا طريقة.”
“مثل التواصل مع قراصنةٍ آخرين تضرّروا مثلنا، و وضعه في قائمة المطلوبين بين القراصنة أنفسهم؟”
“نعم، هذه الفكرة كانت متاحة…. ابنتي ذكيّة فعلًا.”
طبعًا، وبالنظر إلى أنّ القراصنة غالبًا ما تكون علاقاتهم فاترة أو سيّئة، فإمكانيّة تطبيق ذلك مسألةٌ أخرى.
ومع ذلك، هزّ نيريوس رأسه وكأنّه لم يفكّر في هذا الخيار أصلًا.
“أميرتنا الصغرى الجميلة لا تحتاج إلى معرفة هذه الأشياء~”
وبينما كان يداعبني بنبرةٍ تجمع بين الملاطفة والمزاح، أمال رأسه فجأةً إلى الخلف.
“أبي؟ ما الأمر؟”
“…لا شيء.”
حتى لو قال إنّه لا شيء، وهو يحدّق في مكانٍ آخر، لم يكن كلامه مقنعًا.
“حقًّا لا شيء؟”
“طبعًا، لا داعي لأن تقلقي.”
واصل نيريوس التحديق في مكانٍ آخر، وهمس: “شخصٌ واحد… لا، بل أصغر من ذلك.”
ما الذي يحاول تقديره؟
نظرتُ إليه بعينٍ مرتابة، لكنّي لم ألحّ بالسؤال أكثر.
‘قبل ذلك، أحتاج إلى موادّ أخرى أيضًا، فهل سأتمكّن من الحصول عليها؟’
من حيث المبدأ، كان من الممكن الحصول على الموادّ.
لم تكن شيئًا خطيرًا لا يُباع للعامة.
لكن المشكلة كانت في أحد المكوّنات الأساسيّة و هي’أوراق كاكو’.
كانت أوراقًا لا تنمو إلّا في جزيرةٍ تُدعى أودلورا، بعيدة قليلًا عن القارّة الغربيّة، وكنتُ أذكر أنّها كانت باهظة الثمن بشكلٍ مزعج حين كنتُ في البحريّة.
‘دواءٌ ممتاز متعدد الاستخدامات، لكن لماذا من أودلورا تحديدًا…’
“لارا–”
“…….”
بينما كنتُ غارقةً في التفكير، ضغطت يدٌ كبيرةٌ وخشنة على خدّيّ بقوّة.
ضحك نيريوس بخفّة حين رأى شكلي المضحك.
“لو رآكِ سمكٌ، لسلّم عليكِ بسعادة وهو يعتقدُ أنّكِ منهم.”
“توكف.”
بسبب ضغط خدّيّ، لم يخرج النطق سليمًا.
ضحك نيريوس بصوتٍ عالٍ، ثمّ رفع يده وأنزلني على الأرض.
“في ماذا تفكّرين بعمقٍ هكذا، أيتها الصغيرة ذات الستّ سنوات؟ فكّري فقط بما ستلعبين به.”
“لو أنّ هذه الصغيرة ذات الستّ سنوات فكّرت باللعب فقط ولم تفعل شيئًا، لماتت عائلتها كلّها.”
“حـ-حسنًا. نصنع الدواء ثمّ نلعب، نصنع الدواء ثمّ نلعب.”
آه— أليس هذا سيّئًا لنفسيّة طفل؟
تمتم نيريوس بكلامٍ غريب وهو يحكّ رأسه بعنف، فضحكتُ في سرّي.
‘أتصرفُ و كأنّي طفلةٌ فعلًا.’
مع أنّني كنتُ أعلم أنّني لا أبدو في عينيه سوى طفلةٍ في السادسة، اكتفيتُ بنفخ خدّيّ قليلًا.
كان شعورًا غريبًا.
إحساسٌ غير مريح في صدري، مزعجٌ بعض الشيء.
وفوق ذلك، لم أسمع قطّ، حتّى في أيّامي في البحريّة، عن قراصنةٍ يكرّسون أنفسهم لتربية الأطفال بهذا الشكل.
مع أنّني كنتُ أصلًا فردًا من كايلوم، إلّا أنّني لم أكن أعرف هذا الجانب حينها أيضًا، على أيّ حال.
وبينما كنتُ أضغط على صدري بيدي من شدّة الضيق، رأيتُ مالك البستان يركض نحونا من بعيدٍ وهو يلهث.
“أوه، جاء، جاء. لارا، هل نذهب ونفحص ما أحضره؟”
حين وضع ما أحضره، ابتسم نيريوس وربت بخفّة على رأسي.
“أنا؟”
“طبعًا، لارا هي من يجب أن تفحصه. أبوكِ ليس ذكيًّا مثلكِ، حتى لو نظر فلن يفهم شيئًا~”
لوّح نيريوس بيده وهو يبتسم ابتسامةً ماكرة.
نظرتُ إلى ابتسامته الطفوليّة المشاكسة، ثمّ توجّهتُ إلى حيث جمع مالك البستان الموادّ.
‘أحضر أشياء جيّدة فعلًا.’
كنتُ أتوقّع أن يُحضر موادّ رديئة بدافع الضغينة، خاصّةً وهو مهدَّد بالموت، لكنّه جلب موادّ ممتازة على غير توقّع.
وبينما كنتُ أتفحّص كلّ شيءٍ بدقّة، همس نيريوس لمالك البستان بنبرةٍ خفيّة:
“أحضرتَ ما هو صحيح، أليس كذلك؟”
“نـ-نعم. بالطبع.”
“إن فشل الدواء الذي تصنعه صغيرتنا، فسأعتبر أنّك أعطيتَنا موادّ فاسدة.”
“…….”
صوته المهدِّد، رغم همسه، كان عاليًا بما يكفي لأسمعه.
وبفضله، أدركتُ أنّه لم يكن يُخفِض صوته ليُخفي الأمر عنّي، بل ليتظاهر بذلك فقط.
‘إن فشل ما صنعتُه، فلن يكون الذنب ذنبي.’
مهما أنقذتُ العائلة على السفينة، ما زلتُ أبدو طفلةً في السادسة.
ومهما وثق نيريوس بعائلته، لم يكن هناك ضمانٌ بأنّ دواءً صنعته طفلةٌ في هذا العمر سينجح حتمًا.
أي أنّه، بإحضاري إلى هنا وجعلي أسمع ذلك الحديث، كان يحاول أن يُظهر لي بالفعل أنّ أيّ خطأٍ لن يكون ذنبي، وأنّه سيكون دائمًا في صفي.
تأثّرتُ بعنايته، لكن في الوقت نفسه أدركتُ أنّ هذا الحرص نابعٌ من عدم ثقته الكاملة بقدراتي، فشعرتُ بشيءٍ غريب.
‘صحيح، أنا الآن في السادسة. هذا طبيعيّ.’
كان إحساسًا لاذعًا.
ألم أكن أنا هي التي لم تثق بعائلتها قبل الرجوع بالزمن، وعشتُ عشر سنواتٍ ألومهم رغم أنّني كنتُ أتلقّى هذا الحبّ الصريح والكامل دون أن أدركه.
حين أدركتُ أنّني، في موقفٍ كهذا، كنتُ أتمنّى أن يثق بي نيريوس ثقةً مطلقة، ضحكتُ من نفسي.
‘لو عرف نيريوس يومًا حياتي قبل الرجوع بالزمن، هل سيسامحني؟ وهل سيتقبّلني؟’
رغم أنّني أتذكّر نظرته الحنونة لي قبل موته مباشرةً، لم أستطع الجزم.
شدَدتُ بلا وعيٍ على الجذور التي أمسكها، فتساقط التراب عنها.
وكان ذلك أشبه بفتاتِ مشاعري المتناثرة.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"