لبرهةٍ وجيزةٍ انقطعَ الحديثُ، وانتقلتِ الكرةُ إلى ملعبِ ليلي، لكنّها آثرتِ الصمتَ، محافظةً على ملامحِها المهذّبة.
كانَ آيدن هو مَن دعاها إلى الخروج، وهو مَن قادَ مجرى الحوار، ولو أنها لم تُجِب، لتهاوى كلُّ شيءٍ في النهاية.
‘تمامًا كما يحدثُ مع المشاعر.’
خفضت ليلي بصرها وحدّقت في سطح المائدة.
‘حتى لو طرق أحدهم البابَ من الخارج، يمكنني التظاهرُ بأنني لم أسمع، وأمتنعُ عن فتحِه. الناسُ يملّون في النهاية.’
كانت تعلم أنّ هذا نهجٌ سلبيٌّ إلى أقصى حدّ، لكن ما الذي كان بوسعها أن تفعله غير ذلك؟
لو أنهُ اعترفَ بمشاعرهِ صراحةً، لكانت ردّتْ عليهِ بوضوحٍ ولباقة، لكنها لم تتلقَّ اعترافًا، ولا تملكُ الآنَ حريّةَ قطعِ العلاقةِ أو تغييرِ عملِها.
وفوقَ ذلك، كانت كفّتَا الميزانِ في قلبِها متساويتين، لا تميلُ لأيِّ جانبٍ.
لو كانَ آيدن كاشيمير مالكَ مكتبةٍ، أو مديرَ مصنعِ طوبٍ، أو تاجرًا في نقابةِ التجار، لما كانتْ تعذّبت بهذا الشكل.
أو لو كانت هي أبسطَ قليلًا، من أولئك الذين يلقون بأنفسهم في الحبِّ دون تفكيرٍ في العواقب، ويعيشون اللحظةَ فحسب.
لو أنها، كما حين هرعت إلى المبنى الرئيسيّ بعقلٍ خاوٍ، استطاعت أن تركّز على الشيءِ الأهمِّ فقط…
[أعلمُ أنني لستُ نافعًا كثيرًا.]
قالها آيدن بنبرةٍ متواضعةٍ تحملُ شيئًا من السخريةِ الذاتية.
فأجابت ليلي تلقائيًّا دون أن ترفع رأسها. “ليسَ الأمرُ كذلك.”
في كلِّ الأحوال، كانَ بفضلِ آيدن أنّهما تمكّنا من العثورِ على خيطٍ يقودهما إلى الحقيقة، وأنّ وولفرام لم يعُد يحتقرُها، وأنها لم تقع في فخّ يولياس.
لكنّ ردَّها بدا في أذنَي آيدن خاليًا من الصدق، فلم يُبدِ أيّ ردّة فعل، بل واصل كلامه بهدوء.
[ليسَ لي سوى هذا الجسد، ومع ذلك لا أُحسنُ استخدامَه. أيُّ امرأةٍ يمكن أن ترى في رجلٍ كهذا خيرًا، وهو لا يُسدي نفعًا سوى الجلوسِ بهدوءٍ دون إزعاج؟]
‘حقًّا؟! هل سيقولها بهذا الشكل كي لا أجدَ سبيلًا للهروب؟’
لم تستطعْ منعَ نفسها من رفعِ رأسها لترى وجهَ مَن تجرّأ على قولِ هذا.
فإذا بآيدن كاشيمير يبتسمُ بتلك الابتسامةِ التي خُلِقت لأجلِ كلمةِ برفق، يستخدمُ ما يملكهُ من سحرٍ بمهارةٍ تثيرُ الإعجاب.
[لكنّ الإصغاءَ إلى صوتكِ وأنا جالسٌ هكذا… هذا أمرٌ أجيدُه أكثرَ من أيِّ أحدٍ آخر. لذا، إنْ رغبتِ يومًا في الفضفضةِ أو في التخفيفِ عمّا يثقلكِ، فتذكّريني. في أيِّ وقتٍ، وأينما كنتِ.]
الآن، هو مجرّدُ شبحٍ لديه متّسعٌ من الوقتِ والفراغ، فيعرضُ نفسهُ كحائطِ مبكًى مؤقتٍ.
لكن لا أحدَ يحبُّ مَن يشكو باستمرار، أليس كذلك؟ كم يمكن للأبوين أن يحتملَا طفلًا لا يكفّ عن التذمّر؟ فكيف بالغريب؟
متى بالضبط ظنّ أنه أصبح يعرفني إلى هذا الحدّ؟ متى تعمّقتْ مشاعرُه المزعومة؟ ما الذي يعرفه عني أصلًا؟
‘إن كنتَ تصرُّ، فلنفتحِ الصندوقَ إذًا، كما تشاء.’
فكّرت ليلي بمرارة.
‘أنا أُحبّك يا صاحبَ السمو، لكنّك تبدو لي كشجرةٍ شاهقةٍ لا تُطال. أتنوي أن تصنع منّي حبًّا خالدًا يتجاوزُ الطبقات؟ هل أنتَ واثقٌ؟ كم ستحتملُ امرأةً تأكلُ بالشوكةِ وحدها، واعتادتِ الركوعَ والدَّعك أكثرَ من التأمّل في الجواهر؟’
شبكت يديها المتخشّنتين ذواتَي الأظافر القصيرة في حجرها، محاولةً إخفاءهما.
‘لو قلتُ إنني أموتُ غيرةً من الفتياتِ ذواتِ البشرةِ الناعمةِ كلّما وقفتُ أمامك، أما كان ذلك ليُطفئَ من وهجِ قلبِك قليلًا؟ إلى متى سنحتملُ نظراتِ الناسِ التي تحدّقُ بنا كما لو كنّا أمرًا غريبًا يدعو إلى الفضول؟ لا، حقا إلى أيّ مدى فكّرتَ بالأمر؟ لا تقل إنك تخطّطُ لجعلي دوقةً، أليس كذلك؟’
السرُّ في سعادةِ بعضِ الناس أنّهم لا ينظرونَ إلا لما يُسعدُهم.
إن أردتَ الفرحَ، والبهجةَ، والطمأنينةَ، فاملأ قلبَك بما يوافقُ ذلك.
اصرفْ نظركَ عن الأحلامِ البعيدة، واكتفِ بما بين يديك، فستنالُ سلامًا صغيرًا لكنه أكيد—سعادةَ العيشِ المتواضع.
أو ربّما… فكّر في النهاية؟
كانت تركضُ نحوَ شفاءِ آيدن كاشيمير بكلِّ ما أوتيت من عزم، مستعدةً لبذلِ ذاتها دونَ تردّد.
فلو أثمرتْ جهودُها، لكان ذلك نهايةً سعيدة.
لكنّ الحبَّ مع آيدن كاشيمير… تلك نهايةٌ أخرى تمامًا.
كانت ليلي تُحبُّ القصصَ الخيالية، لكنها لم تظنّ يومًا أنّ حياتها واحدةٌ منها.
وكمن يُعيدُ بناءَ قلعةِ رملٍ تتداعى، كرّرتْ على نفسها الموعظةَ ذاتها، مرارًا وتكرارًا.
‘إن كنتَ تعلمُ ما هو الصوابُ، فافعله. لِمَ التردّد؟ تتصرّفُ هكذا لأنك في أعماقِك لا ترغبُ حقًّا بما يكفي للمخاطرة. فإن لم يكن فيك حزمٌ، فلتتحرّكْ سريعًا على الأقل. لا تُضِع الوقتَ في التردّد، انتقلْ إلى الفعلِ التالي. أم ستصحو بعد أن ينهارَ كلّ شيء؟’
بعدَ أن قستَ على نفسها بتلك الكلمات، شعرتْ ليلي أخيرًا بأنها قادرةٌ على إنهاءِ هذا العذاب.
فتحتْ فمها لتقولَ الحقيقة.
“يا صاحبَ السمو، الحقيقةُ هي…”
في تلك اللحظةِ أضاء وجهُ آيدن بابتسامةٍ تشعُّ فرحًا صادقًا.
“لماذا… لِمَ تنظرُ إليّ هكذا؟”
[هم؟ ماذا تقصدين؟]
سألها بالوجهِ المشرقِ ذاته، كأنه لم يفهمْ ما تعني.
“إنك تبدو… سعيدًا للغاية.”
[آه، وهل كان الأمرُ ظاهرًا إلى هذا الحد؟]
مرّر يده على خدّه، غير أنّ البهجةَ والخجلَ لم يبرحاه، بل بقيا ينسابان منه بهدوء.
ضحكَ آيدن بخفّةٍ.
[أنا سعيدٌ لأنني أستطيعُ أخيرًا استخدامَ موهبتي الوحيدة. إذًا، الحقيقة؟ يبدو أنك كنتِ تُخْفين شيئًا في قلبك، أليس كذلك؟]
خفّف من حماسه قليلًا، فحتى مَن ليسَ من النبلاءِ يدركُ أنّ الفرحَ الشديدَ بمصائبِ الآخرينَ غيرُ لائق.
‘هل أطرحُ عليهِ فكرةَ البحثِ عن شريكة له؟ عن أنسة نبيلةٍ يُفكّرُ بها؟’
في ذهنها، كانت الكلماتُ واضحة، وقد أعدّتْ نفسها للنطقِ بها… لكنّها علقت في حلقِها.
[في الواقع، أنا أعلمُ بالفعل.]
“أتعلم؟!”
[وأظنُّ أنني وجدتُ الجوابَ الصحيح.]
“وجدتَ… الجواب؟!”
شهقت ليلي، وبدأ فمُ آيدن يتحرّك ببطءٍ كما لو أن الزمنَ تجمّد.
راودها دافعٌ قويٌّ لأن تُسكتَه، لقد ظنّت أنّها ستكون بخيرٍ لو انتهى كلُّ هذا كحلمٍ، لكنّها الآن لا تريدُ أن يُحدَّدَ كلُّ شيءٍ فجأةً، وبهذا الوضوح المؤلم.
[لم تستطيعي التخلّي عن فكرةِ الذهابِ إلى العاصمة، أليس كذلك؟ أليس هذا ما يؤرّقك؟]
كان مخطئًا تمامًا، لكنه قالها بنبرةٍ رصينةٍ تُثيرُ الإعجاب.
“نعم، نعم، هذا صحيح.”
أومأت بسرعةٍ وكأنها وجدتْ طوقَ النجاة.
[كنتِ تودّين الذهابَ، لكنني منعتُكِ وجعلتُكِ تتراجعين. والآن بعد أن عرفتِ ضعفَ قائد الطائفة، لابدّ أنكِ رأيتِ فرصةً جديدة.]
“إذًا… الجوابُ الذي وجدته هو…؟”
[سأذهبُ إلى العاصمةِ أيضًا.]
كانت فكرتُها الأولى أنّ علاقتهما ستستمرّ لبعض الوقت، غير أنّ ذلك الأملَ تلاشى سريعًا، لأنّ اقتراحَه بدا غير واقعيٍّ إطلاقًا.
“لقد أمرني جلالتُه بالذهابِ وحدي. ثمّ إنّ هناك كذبةً أخبرتُه بها… ألا تذكر؟ يظنّ أن روحكَ قد فقدتِ صوابَها وأنها تُفسَدُ تدريجيًّا. لو انكشف الأمر، سيفقدُ ثقتهُ بي كذلك.”
[سأبتكرُ تفسيرًا. كما فعلتُ مع يولياس، كأنّ علاجكِ أثّر فيَّ أيضًا، أو كأنكِ تُستَغَلّين دونَ إرادتك. وإن كنتِ لا تزالين قلقةً، فسأتبعكِ سرًّا مع وولفرام.]
كانَ هذا اقتراحًا ساذجًا، لكنها رغم ذلك فكّرتْ في جميعِ الاحتمالات.
ومع ذلك، كانت تعلمُ أنّه التفافٌ طويلٌ حولَ الحلِّ الأقربِ والأوضح أمامَهما.
وشعرتْ بالذنبِ لأنها دفعتْ آيدن إلى قولِ شيءٍ كهذا.
وفي تلك اللحظةِ فقط أدركتْ ليلي الحقيقة.
‘أجل، هو يعلمُ أيضًا.’
يعلمُ كيف يعودُ إلى جسدِه—حتى الليلةَ لو أراد.
كلُّ ما تعرفُه يعرفُهُ هو كذلك…
ومع ذلك، لا يزالُ يقولُ إنّ عليها الذهابَ إلى العاصمة، وإنّ عليه مرافقتَها، مستعدًّا للمخاطرةِ دونَ داعٍ.
فسألته ليلي قبلَ أن تدركَ.
“هل ستكون بخيرٍ حقًّا مع هذا؟”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 49"