ما إن تمكّنت ليلي من تهدئة نفسها بصعوبة، حتى اجتاحها الغضبُ حين أبصرت آيدن يتبعها بابتسامةٍ هادئةٍ أنيقةٍ تعلو محيّاه.
‘أيها الأحمق، كيف لك أن تبتسمَ الآن؟’
بعد أن أفسد الفرصة التي بالكاد استطاعت أن تخلقها، ما الذي يبعثُ على ابتسامته بهذا الرّضا؟
كانت نوايا يوليوس مريبةً على نحوٍ واضح. فالأرجح أنه كان شريكًا في حادثة لَعنة دوق كاشيمير، ولن تكون له أدنى رغبة في أن يتعافى آيدن.
ظلّ يوليوس يُلحّ. يجب أن يذهبا إلى العاصمة معًا، يجب القضاء على قائد الطائفة، وعندها فقط سيتمكّنان من النجاة.
لكنّ ليلي لم تكن ساذجة لتصدق كلماته كما هي. فقد كان واضحًا أن يوليوس لا يرغب إلّا في استعادة جسده بأيّ ثمن.
وذلك بالتحديد ما كانت تُركّز عليه ليلي. رغبتهُ الجامحة في العودة إلى جسده، مهما كلّف الأمر.
إن حدث كلّ ما قاله يوليوس وعاد الرجلان إلى جسديهما بعد القضاء على قائد الطائفة، فذلك سيكون جيداً.
لكن حتى لو لم يحدث، فالأمر لا يهم. فقد خططت ليلي لأن تُقلّد عملية تعافي يوليوس وتُطبّقها على آيدن.
تلك كانت الطريقة الوحيدة لإعادته. غير أن تنفيذها بات مستحيلًا لأنه تمسّك بها، يتحدث عن الوعود وما شابهها.
‘وماذا الآن؟ الكتابُ المحرّم لم يكن سوى هراء، والهراطقة الذين جمعهم هو بنفسه… ما العمل الآن؟!’
سواءٌ فهم مشاعرها أم لم يفهمها، بدا آيدن في غاية الرّضا.
لم يجرّب حتى الخيار الأكثر وعدًا قبل أن يتخلّى عنه، فكيف له أن يكون مسرورًا هكذا؟ أترى أنه لا يريد العودة إلى جسده أصلًا؟
ضيّقت ليلي عينيها. لا يُعقل أن يرغب في البقاء على هذه الحال للأبد، ومع ذلك بدا هادئًا أكثر مما يجب.
أتُراها أثّرت عليه تأثيرًا سيئًا؟ ربما ظنّ أن الأمر لا بأس به ما دام قادرًا على التواصل مع العالم الخارجي وأنّ أمور القصر تسير على ما يرام.
لكن ذلك لا يشبه آيدن قط. فلو كانت الفرصة سانحة حقًّا، لكان من الطبيعي أن يشكرها بحرارة، ويُعلن أنها أمله الوحيد، ويتعهّد بردّ الجميل، ويدفعها للأمام بكلّ كلمات الإطراء الممكنة.
‘لو كنا قد تبادلنا الأدوار، لما ترددتُ، حقًّا، ولا لثانيةٍ واحدة… أُمم…’
وإذ بها تُدرك بدهشةٍ أنه لو كانت مكان آيدن، لما سمحت له هو بالذهاب إلى العاصمة أيضًا.
لأنه كان جليًا للجميع مدى خطورة الأمر.
كيف لها أن تدعه يذهب وحيدًا إلى هذا الخطر؟ لن تكون قادرة على حمايته أو مساعدته.
كانت لتتأكد أولًا من أنه مستعدّ تمامًا، وإن لم يكن، لبحثت عن وسيلةٍ أخرى. لم يكن بالنسبة إليها مجرّد قطعةٍ تُحرّك وتُضحّى بها، فقد وهبته من قلبها أكثر مما ينبغي.
حكّت ليلي عنقها في حرجٍ وهي تفكر أنّ آيدن أوقفها للسبب ذاته، مما جعل الخجل يتسلّل إليها.
‘مجدداً، مجدداً، مجددًا! ها أنا أعود للينِ والمشاعرِ الرقيقةِ مجددًا!”
أرادت أن تضرب رأسها بيديها. لا تتوقف عن الانزلاق في تلك الأفكار الوردية مرارًا وتكرارًا.
أفاقت من شرودها وأجبرت صوتها على نغمةٍ مرِحة.
“سيكون الأمر مزعجًا قليلًا من دوني، أليس كذلك؟”
توقّعت منه أن يضحك قائلًا،
“بلى، كنتِ تعلمين ذلك سلفًا، أليس كذلك؟”
أو أن يتذمّر قائلًا،
“ولِمَ تقولين هذا أصلًا؟”
عندها كان بإمكانها أن تكبحَ نبضاتِ قلبها الحمقاء وتُبدّد أحلامها السخيفة.
غير أنّ ردة فعله كانت على غير المتوقّع.
فقد بدا، للحظة، كأنه كان على وشك أن يُدندن بسعادة، ثم وقف فجأةً مُحدّقًا بها، وقد تشققت ملامح وجهه الوسيم.
شعرت أن قولَ غير ذلك سيكون كارثة؛ سيتهدّم الجناح الشرقي كما تهدّم المبنى الرئيسي.
لكن آيدن لم يهدأ بسرعة.
“كنتُ أمزح، حقًّا أمزح… هاها…”
تمتمت بضحكةٍ متكلّفة، فتنفّس هو الصعداء.
[شكرًا لأنك سألتِ على الأقل. مجرّد تخيّل أنك تفكرين بذلك بنفسك…]
لمحَت في عينيه لحظةَ قلقٍ عميق، كأنّ قلبه انكسر للحظة.
[ليلي، بالطبع لم أمنعك من الذهاب إلا لأنني أُقدّرك. أنتِ شخصٌ بالغ الأهمية بالنسبة لي، لم أستطع أن أقف مكتوف اليدين وأدعكِ تتورطين في ألاعيب يوليوس. ظننت أن هذا واضح دون أن أحتاج إلى قوله.]
قالت ليلي وهي تُشيح بوجهها محاوِلةً التظاهر باللامبالاة.
“همم… كنتُ فقط اتذكر قليلًا لأني انزعجت.”
بدأ وجهها يحمرّ شيئًا فشيئًا.
‘اغه، أنا في ورطة حقيقية…’
لم تعرف من أين يستمدّ هذا الرجل ثقتَه ليقول مثل هذا الكلام. لو كانت فتاةٌ عاديّة فكّرت فيه بتلك الطريقة، لربما نفر منها هو نفسه.
وانقلبت تلك الفكرة في ذهنها إلى صورةٍ حيّة.
وجه آيدن المرتبك وهو يقول.
“أنا أقدّركِ، لكن… ليس بتلك الطريقة…”، وهدأت على الفور.
“سأخبر السيدة دينتا لاحقًا أنه لا حاجة لترجمة الكتب التي أحضرناها اليوم. لا بدّ أنها تفاجأت حين وصلتها بلا سابق إنذار.”
[ولِمَ؟ أريد أن أعرف ما في كل تلك الكتب. قولي لها أن تُترجمها جميعًا.]
قال آيدن بنبرة مقتضبة.
لم تتوقع منه أن يتذمّر بسبب شيءٍ قالته على سبيل المزاح.
تلعثمت ليلي.
“لِـ… لِمَ تتصرّف هكذا؟ أفهم مشاعرك، حقًّا. أعنيها. سواء اكتملت الترجمة أم لا، لن أرحل.”
بدأ آيدن يمشي بخطى سريعة، كأنه لا يريد سماع كلمةٍ أخرى. ظلّ وجهه صارمًا وهو يمرّ بجانبها، كمن يسعى لوضع أكبر مسافةٍ ممكنة بينهما ضمن حدود المسموح له.
“انتظر! فلنذهب معًا، يا صاحب السمو! أرجوك انتظر!”
أمسكت ليلي بطرف تنورتها وركضت خلفه.
***
في مساء ذلك اليوم، وفي غرفة جوليا، شرحت ليلي كلّ ما جرى بشأن كومة النصوص السولمونية.
“هكذا إذن كانت القصة.”
“نعم، أعتذر لإزعاجك بها.”
“لا داعي للاعتذار، فالأمر بسيط. لكنّ صاحب السمو… حقًّا…”
هزّت جوليا رأسها، وقد بدا على وجهها أنها تودّ قول الكثير لكنها آثرت الصمت.
قالت ليلي ضاحكة.
“إنه ليس هنا الآن، يمكنكِ التحدث بحرّية.”
فقد أصبح آيدن قادرًا على التنقّل بحريةٍ نسبيّة بعد أن عثروا على التعويذة الحامية، لكن ذلك لا يعني أنه يمضي معها طوال الوقت.
بعد العشاء، تنتهي مهام اليوم الرسميّة، فيذهب آيدن حيث يشاء، وتأخذ ليلي قسطها من الراحة.
في البداية، كان آيدن يجد صعوبةً في تقبّل هذا الترتيب، وحاول إقناعها بقضاء ساعةٍ أو ساعتين على الأقلّ معًا بعد العشاء.
تذرّع بأنه لا يستطيع حتى قلب الصفحات بنفسه، وبأنّ عدم حاجته للنوم يُشعره بالملل، وما إلى ذلك.
لكنّ ذلك كان هراءً خالصًا. ففكرة أن تُدخل رجلاً إلى غرفتها في المساء مجنونةٌ بذاتها، فكيف إن كان رئيسها في العمل؟! سيكون الأمر غير معقولٍ تمامًا.
قالت له ليلي بحزم:
—
“يا صاحب السمو، حتى الأزواج السعيدون لا يمضون اليومَ كلَّه معًا.”
—
كانت كلماتها المنطقية تلك كالسهم في موضعه، فاتفقا على أن يفترقا بعد العشاء كل يوم.
لم تبدُ جوليا متحمّسةً للحديث عن رئيسها، حتى وإن لم يكن أحدٌ يستمع.
“ليس بالأمر الكبير حقًّا.”
“حسنًا… إذن سأخبرهم بأن يأتوا غدًا لجمع الكتب.”
“تفضّلي. آه، لكني احتفظت ببعض المجلدات، لا حاجة لنقلها. بعضها كنت أودّ قراءته مجددًا، وبعضها أسعدني رؤيته بعد طول غياب.”
أشارت جوليا إلى طاولةٍ عليها ثلاثة أو أربعة كتب موضوعة جانبًا.
وعلى الرغم من أنها قضت اليوم بطوله في ترجمة نصوص سولمون، إلا أنها كانت تقرأ كتبًا أجنبية كهواية.
شعرت ليلي، التي كانت تفخر بحبّها للقراءة، أنها هاويةٌ بالمقارنة مع جوليا.
اقتربت من الطاولة وقلّبت الكتب، وكانت جميعها في حالةٍ ممتازة.
ثم لمحت غلافًا مألوفًا.
“آه! هذا الكتاب!”
“ما زلتِ تذكرينه؟”
“بالطبع، كنتِ تقرئينه لي كثيرًا قبل النوم.”
أمسكته ليلي وعادت إلى الأريكة. العنوان كان حكايات التَّرحال، وهو مجموعة من الأساطير الشفهيّة المتوارثة عبر الأجيال.
ومن الغريب أن معظمها كان قصصَ أشباح، لكنّ ذلك بدا منطقيًّا إذ إنها مجموعة أساطير سولمونيّة.
كانت ليلي تكره الأشباح كرهًا شديدًا، حتى إنها كانت ترى كوابيسَ عنهم، لكنها كانت تحبّ هذا الكتاب بالذات.
فمقارنةً بباقي القصص التي كانت جوليا ترويها، كان هذا الكتاب يحوي حكاياتٍ مؤثرةً ورسوماتٍ بديعة.
ولهذا كانت الطفلة ليلي تتوسّل كل ليلة. أن تُروى لها حكايات الترحال قبل النوم. وإن كانت ستسمع قصةَ شبحٍ، فلتكن الأقلّ رعبًا على الأقل…
ذلك الكتاب، الذي رافق ليلي في طفولتها وحرَسَ نومها، كانت قد باعته منذ زمنٍ بعيدٍ إلى متجرِ كتبٍ قديمٍ لتغطية نفقات المعيشة.
لذا فقد مرّت أعوامٌ طويلة منذ أن رأته آخر مرة.
وامتلأ قلبها بالحنين وهي تقلّب صفحاته ببطءٍ، حتى بلغت قصتها المفضّلة. الأب الذي عاد.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 41"