[وحتى الآن، ما زلتِ تتقدّمين بخطى واثقةٍ إلى الأمام، لا أستطيع حتى أن أُخمِّنَ إلى أين تمتدّ حدودُ طيبتك.]
تلوّت ليلي في مقعدها من شدّة الإحراج.
هل قال حقًّا ‘حدودُ طيبتك’؟ هل سمعتْه على نحوٍ صحيح؟ رجلٌ وسيمٌ إلى حدٍّ لا يُعقَل نطق جملةً مأخوذةً رأسًا من روايةٍ عاطفيةٍ مبتذلةٍ… دون أن يطرف له جفن!
طوال حياتها، لم تسمع من الآخرين ثناءً يفوق قولهم.
“أنتِ بارعةٌ في التنظيف” أو “طبعُكِ هادئ”.
أمّا الآن، فلم تدرِ ما تصنع بنفسها.
[وبما أنّكِ فطِنةُ العقل، فأنا واثقٌ أنّكِ تدركين تمامًا المخاطر الكامنةَ وراء اقتراح يوليوس دون أن أحتاجَ إلى شرحها لك.]
لم يتوقّف المديح، بل ازدادَ رُقيًّا! شعرت بحرارةٍ تتسلّل من فروةِ رأسها حتى عنقها، ولو نظرت في المرآة لرأت وجهَها محمرًّا كحَبّةِ طماطم.
كان ضبطُ نفسها في تلك اللحظة أصعبَ من ضبطها حين جلست وجهًا لوجه أمام الإمبراطور في لقائهما المشحون.
كادت ليلي تذوب في الأريكة خجلًا، غير أنّ صوتَ آيدِن الرقيق ظلّ يتدفّق بهدوءٍ قاتل.
[ليلي، قراراتكِ كانت دائمًا تقود إلى نتائجَ حسنة. لطالما كنتُ منشغلًا بمخالفتها، لكنني أدركتُ أخيرًا أنّ الصوابَ هو في اتّباعك. أنتِ الحاملة التي حملت إليّ الحظَّ والنجاة.]
لم تكن تلك رقّةَ ثلجٍ يذوب، بل لهيبُ نارٍ يشتعل! كلُّ كلمةٍ منه كانت تحرقُها أكثر، حتى بدأت تتساءل إن كان يتحدّث بهذه المبالغة لمجرد التكلّف الأرستقراطيّ.
ففي عالمِ النبلاء، يُعَدُّ الشعرُ والتغنّي بالمحاسن أمرًا مألوفًا… فهل كانت هي الخادمةَ البسيطةَ التي أرهقها سحرُ الكلمات؟
لو أنَّ وولفرام هو من قال مثلَ هذا، لظنّتْه تناولَ شيئًا فاسدًا في فطورِه، وتجاهلتِ الأمر ببساطة.
[إذًا يا ليلي، حالما تُتمُّ السيّدةُ دينتا ترجمتها، يمكنكِ الانطلاق.]
“الترجمة؟”
[نعم. أنتِ ذاهبةٌ إلى العاصمة لمواجهة قائد طائفةِ سولمون — مانوُس، أليس كذلك؟ إذًا عليكِ جمعُ أكبر قدرٍ من المعلومات. الاستعدادُ الكاملُ خيرٌ من الندم.]
“نعم، نعم، معكَ حقّ.”
أجابت بسرعةٍ، علّها تُنهي هذا الحديثَ المُحرِج.
ومع أنّها فكّرتْ قليلًا، وجدتْ اقتراحَه منطقيًّا تمامًا. ففي وضعٍ كهذا، قد تكونُ كلُّ معلومةٍ سلاحًا.
وفوق ذلك، لم يتبقَّ سوى القليل؛ فجوليا كانت تعملُ على الترجمة بسرعةٍ جنونية، وقد أنجزت أكثرَ من نصفِ النصوص المقدّسة.
[جيّد، إذًا اتُّفِقنا. سترحلين إلى العاصمة ما إن تُنهي السيّدةُ دينتا عملَها.]
قالها آيدِن بنبرةٍ هادئةٍ مطمئنة.
“أجل، يا صاحبَ السموّ.”
[وسأحتاج إلى بعض الوقت لأُعِدَّ نفسي، فلا تُخلفي الوعد.]
“لن أفعل. أعدُك.”
أومأت بثقةٍ، وقد استراحتْ لكون الحديثِ قد انتهى، ولأنّهما توصّلا إلى اتفاقٍ واضح.
ابتسم آيدِن برضا، وطلب منها أن تُخبر وولفرام، فامتثلت.
سألها الأخير وهو يبدو متحيّرًا.
“أوافقَ سموُّه؟”
“نعم. لكن ليس في الحال. قال إنني أستطيع الذهاب بعد أن تُكملَ جدّتي عملَها.”
“ما أعنيه… هل وافقَ أصلًا على ذهابكِ إلى العاصمة برفقة الإمبراطور؟”
“أجل، سيدي.”
ظهرت على وجهه علاماتُ الحيرة، ثم توجّه بنظره إلى الفراغ وكأنّه يخاطبُ شخصًا لا يُرى.
“في تلك الحالة، كما قالت الآنسةُ دينتا، على سموِّه أن يبقى هنا. إن انكشف أن مرضَه مجرّدُ ادّعاء، فسينكشف أيضًا أنّ الآنسةَ دينتا تعمل في خدمته سرًّا.”
كانت ليلي تخشى الأمرَ نفسه.
“إن علمَ بذلك، لا أحد يدري كيف سيتصرّف. وفي أسوأِ الأحوال… قد يحاولُ أن يُهلكَنا جميعًا معه.”
لكن آيدِن ظلّ هادئًا.
[لقد أخذتُ كلَّ شيءٍ بالحسبان.]
“يقولُ إنه أخذ كلَّ شيءٍ بالحسبان.”
تنهّد وولفرام، ثم انحنى احترامًا.
“سأمتثلُ لأمرِ سموّه.”
وهكذا انتهى النقاشُ الحادّ، وعادَ كلٌّ منهم إلى عمله.
ومع مرورِ الوقت، بدأت آثارُ الصدمة من كلماتِ المديحِ المفرطة التي أذهلت ليلي تخفُّ شيئًا فشيئًا، فصارت قادرةً على التأمّل.
كان وولفرام، كما لاحظت، غيرَ مقتنعٍ بقرارِ آيدِن منذ البداية.
لقد بدا وكأنه يعتقد أنّه من المستحيل أن يسمحَ آيدِن لـليلي بالذهابِ إلى العاصمة… ما لم يكن هو ذاهبًا معها.
لم تلحظْ ذلك حينها، إذ كانت مشغولةً بفرحتها، لكنّها الآن أدركت غرابةَ الأمر.
‘حقًّا… لقد وافقَ بسهولةٍ عجيبة. لطالما منعَني من أيّ مغامرةٍ فيها خطر.’
نظرتْ إليه من طرفِ عينها، فلاحظَ فورًا، وردّ بابتسامةٍ هادئة.
[ما الأمر، ليلي؟]
“لا شيء.”
لا شيء؟ أيُّ هراء!
لقد أذهلها كونُه هذه المرّة لم يحاولْ أن يمنعَها مطلقًا.
ألم يكن هو من كادَ يهدمُ قصرًا بأكمله لمجرّد غيابها يومين؟
كيف إذًا أصبح بهذا الهدوء؟
‘ربّما نلتُ ثقته أخيرًا. ربما باتَ يعتقدُ أنّ ليلي دينتا امرأةٌ يُمكنُ الاعتمادُ عليها.’
حاولت أن تُقنع نفسها بذلك، لكنها لم تستطع إخمادَ لمحةِ الخيبة في قلبها.
فهو لم يُناقش المخاطر، ولم يُخطّط معها كما كان يفعل، بل وافق فورًا دون جدال.
‘ربّما ينتظر حتى تُنهي جدّتي الترجمة ليتحدّث معي أكثر… أو ظنّ أنني لن أُصغي له لو رفض من البداية…’
وهي تقلّب الصفحات، شعرتْ بالسخافة من نفسها.
فهي التي أعلنت رغبتَها في الذهاب، وها هي الآن تتذمّر من موافقته! لكنّ الأفكارَ ظلت تدور في رأسها بلا انقطاع.
‘حتى وولفرام بدا متشكّكًا. ليس الأمر من خيالي فقط. هل تغيّرت مشاعره؟ أم أنّه فقد الاهتمام بي بعد أن طالَ مرضُه دون شفاء؟ بعد كلِّ تلك الكلماتِ الحلوة التي تكفي لإصابة الأسنانِ بالتسوّس؟’
ما تزال ترى نفسها خادمةً لا أكثر، فعضّت شفتها بقوّة.
لو كانت تعملُ في الحقول لكانت مشغولةً عن التفكيرِ بهذا الهراء.
لكنها الآن تجلس في مقعدٍ مريحٍ، لا قطرةَ عرقٍ على جبينها، فتركتْ لعقلها حريةَ الهَيمان… وهامَ بعيدًا.
حتى بعد الغداء، لم يُفارقها المزاجُ الكئيب.
بينما آيدِن، غيرُ مدركٍ لما يدورُ في داخلها، قال بهدوء.
[فلنذهب إلى المكتبة. أحتاجُ شيئًا.]
وفي المكتبة لا يُطلبُ إلا شيءٌ واحد. الكتب.
حاولت ليلي أن تتذكّر إن كان هناك اليوم ما يستدعي البحثَ في المراجع، فلم يخطر ببالها شيء.
ولم يكن الأمرُ من هواياته، إذ لم يكن يستطيع حتى تقليبَ الصفحات بنفسه.
تبعته وقد غمرَها الفضول.
“يومٌ طيّب، آنسةُ دينتا.”
لقد بلغَ شأنُها في القصر حدًّا جعلَ حتى أمينَ مكتبةِ الدوق ينحني لها احترامًا.
“مرحبًا بك، سيدي.”
“ما الذي تبحثين عنه اليوم؟”
“أممم…”
همسَ آيدِن في أذنها.
[قولِي له إننا نبحثُ عن كتبٍ جُلِبَت من الخارج.]
“نبحث عن كتبٍ جُلبت من خارج البلاد.”
“وإن كانت من الخارج، فالمجموعة واسعة. هل لديكِ بلدٌ محدّد في البال؟”
طبعًا، فمكتبةُ الدوقِ كانت لا تُقدَّر بثمن.
كانت جوليا قد تحدّثت عنها ذات يومٍ بعينين تتلألآن من الإعجاب.
همس آيدِن مجددًا.
[أُريد الاطلاع على كتبٍ من سولمون.]
“نبحث عن كتبٍ من سولمون.”
“إن أخبرتِني بالعنوان، سأُحضِرها لك.”
[اطلبي أن تتصفّحي الرفوف بنفسك.]
“أودّ أن أتصفّحَ الرفوف بنفسي.”
نقلتْ كلماته بدقّةٍ كما هي.
وساروا خلفَ أمين المكتبة عبر الممرّات الطويلة حتى بلغوا القسمَ الخاصّ بسولمون.
كان صغيرًا مقارنةً بباقي الأقسام—ثلاثةُ رفوفٍ مكتظّةٌ بالكتب.
شعرت ليلي بالغرابة وهي تقف أمامها، بشيءٍ من التوتّر والخشية.
سألتْ متردّدةً.
“هذه الكتب… ليست من الممنوعات، أليس كذلك؟ أعني، مع التوتّر القائم بين المملكتين بسبب طائفة سولمون… هل يُسمح بعرضها هكذا؟”
“الكتبُ التي قد تُشبِه الممنوعةَ لا تُعرَض للعامة. هذه مؤلفاتٌ أكاديميةٌ في الغالب، وبعضُ الكلاسيكيات والمذكّرات ودواوين الشعر.”
استمعتْ إلى شرحه وهي تتأملُ العناوينَ التي لا تستطيع قراءتها.
“هل تعرفين عنوانَ الكتاب الذي تبحثين عنه؟ أم أختارُ لك بعضَها بحسب اهتمامك؟”
[إلى السيّدة دينتا…]
ردّدت ليلي من غير تفكير.
“إلى السيّدة دينتا…”
[أرسِلْها كلَّها.]
“أرسِلْها كلَّـ…!”
اتّسعت عيناها فجأة، والتفتت نحوه بصدمةٍ مبهوتة.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 39"