كانت الكنيسة غرفة ضيقة، بالكاد تسع مكتبًا صغيرًا وكرسيًا خُصّصا للتأمل الهادئ. وعلى سطح المكتب وُضعت صَحْنٌ خزفيّ أزرق صغير ذو قاعدةٍ عمودية، غُمر فيه خاتم الإمبراطور في ماءٍ مقدّس.
كما أن الطبيب يقيس حرارة الجسد ونبض القلب، فالطبيبة الروحية تفحص دفء الروح وتردّدها.
أخرجت ليلي عصًا زجاجية من السلّة. لم تكن سوى عود زجاجي عادي لا يحمل أيّ خصائص، مجرد أداة تمثيلية.
وعندما قرّبتها من فم يوليوس، عضّ عليها مطيعًا. بالطبع لم تكن العصا تطفو في الهواء، لذا أبقتها ليلي ممسكة بها.
عدّت بصمت حتى الثلاثين، ثم سحبت العصا، وتظاهرت بأنها تفحصها بتمعّن تحت الضوء.
“ذبذبتك ما تزال منخفضة جدًا. ألا تشعر بقليل من البرودة؟“
[قليلاً…]
رائع! لقد نجحت مجددًا!
كلما صدّق إحدى جملها العبثية، شعرت ليلي بمزيج من الدهشة والبهجة. حتى الإمبراطور لا يجادل الطبيب!
والحقيقة أن تمثيلها لدور الطبيبة لم يكن جزءًا من الخطة الأصلية.
فقد كانت القصة الأصلية كالتالي. ليلي دينتا، مواطنة وطنية ومخلصة، شاء القدر أن تصبح حامية روح الإمبراطور.
مدفوعة برسالة الدفاع عن الإمبراطورية من الزنادقة، واستعادة الإمبراطور الحقيقي، وقفت ليلي ثابتة.
معًا، سيكشفان المؤامرات السوداء لجماعة الهرطقة. ومع مرور الوقت، وعبر نظرات متبادلة، ومرافقة دائمة، سيقتربان أكثر فأكثر، حتى ينفتح الإمبراطور عليها ويجد فيها السلوى.
لكن تلك الرواية المثالية قُبرت قبل أن تولد، وكل ذلك بفضل ذاكرة يوليوس المزعجة التي لا تخون.
[كنتِ مع آيدن…!]
في لقائهما الأول في الملحق، كادت عينا يوليوس تخرج من محجريهما حين تعرّف إليها. بل وزاد تشوّه وجهه الرهيب، حتى بات من الصعب على ليلي أن تنظر إليه.
لكن ما جمّدها حقًا لم يكن وجهه، بل كونه تعرّف عليها من الأساس.
قبل قدومها إلى الملحق، كانت قد غيّرت مظهرها كثيرًا — من تسريحة شعرها إلى ملابسها، بل حتى طلتها الكاملة.
وفي العادة، يمكن لفتاة خادمة بين النبلاء الأصحّاء أن تمرّ دون أن يُعرف من هي بمجرد أن تُنزل شعرها وتغيّر ثيابها. فكيف لشبحٍ مختلّ أن يميزها؟
ومع ذلك، تعرّف عليها بوضوح شديد، حتى إنه حاول الهرب وكأنه هو من رأى شبحًا — مع أنه هو الشبح.
وهكذا انهارت خطتها في إخفاء صلتها بالدوق وتشكيل علاقة مباشرة مع الإمبراطور من اللحظة الأولى. فكان عليها أن تخترع شخصية جديدة بسرعة.
شخصية تبرّر وجودها مع آيدن، وتستطيع رغم ذلك أن تنال ثقة يوليوس.
شخصية بإمكانها أن تتدخّل في الأمور الخاصة، وتطلب طقوسًا أو إجراءات محددة، دون أن يُشكّك أحد في معرفتها.
شخصية تُحافظ على موضعٍ أعلى في العلاقة مع الإمبراطور…!
وبصراحة، فإن كونها فكّرت بدور الطبيبة الروحية في لحظة ارتجال، لا بدّ أن فيه تدخّلًا من الحاكم.
عادت ليلي من شرودها، وتظاهرت الآن بأنها تقيس تردد الروح وهي تمسك بمعصم يوليوس.
ثم سحبت كرسيًا وجلست مقابلة له.
“والآن، سنبدأ جلسة العلاج لهذا اليوم. اجلس براحة، أغمض عينيك. خذ شهيقًا… وزفيرًا. شهيق… وزفير… وكرر.”
وبالرغم من أنها حفظت هذه الكلمات على عجل من دليلٍ للتأمل، إلا أن نبرة صوتها بدت احترافية على نحو مدهش.
“أشعة الشمس المقدّسة تسطع على كل زاوية من روحك. استشعر الدفء… الحرارة اللطيفة تتغلغل في بشرتك. اتبع هذا الدفء… ودع روحك تبدأ في الشفاء. تابع التنفس.”
نفّذ يوليوس تعليماتها دون حتى رفّة جفن.
ورغم أن الحديث عن ترميم الروح لم يكن إلا جزءًا من تمثيلها كطبيبة روحية، إلا أن جزءًا صغيرًا منها تمنى فعلًا أن يُجدي هذا العلاج الشعبي البسيط.
فذاكرة يوليوس الآن مشوّشة، لا يحتفظ سوى بخوفٍ غريزي من آيدن، وهوسٍ شديد بجسده.
وبهذه الوتيرة، بدلًا من كشف أسرار القضاء على زعيم الزنادقة، لم تكن سوى من يُبقي روحًا خطرة مربوطة بالقصر.
“الروح تستعيد صورتها الحقيقية. جزءًا بعد جزء، كل شيء يتطهّر. أنت تسترجع كيانك الكامل. سلّم روحك لرحمة الحاكم اللامتناهية. إن أفضل الأشياء في طريقها إليك…”
وبنبرة هادئة تمامًا، استمرت تُكرر عباراتٍ مشابهة لدقائق، ثم قالت أخيرًا.
“افتح عينيك.”
“كيف تشعر الآن؟“
[هادئ…]
ربما كان محض وهم، لكن سواد روحه بدا وكأنه خفّ قليلًا.
عندها انتقلت ليلي برفق إلى النقطة الأساسية.
“هل طرأ شيء جديد على ذهنك؟“
نظر إليها يوليوس بعينين خاويتين.
“ولو شيئًا بسيطًا. حتى لو لم يبدُ ذا صلة بعودتك.”
[جسدي…]
آه، ليس هذا مجددًا.
فشل آخر. العبارة ذاتها عن جسده — لقد سمعتها عشرات المرات حتى الآن. وكلما ظنّت أنها أحرزت تقدمًا، ارتدّت خطواتها إلى الوراء. حتى إنها باتت تشعر بالذنب لدرجة أنها لا تقوى على مواجهة آيدن.
ومع ذلك، صبرت ليلي وجلست تنتظر كلام يوليوس. كان لا بد أن تمضي ساعة كاملة معه على أي حال. فقررت أن تنصت، ريثما تتمكن من انتزاع ردّ مختلف.
لكن، تمامًا حين كانت خيبة الأمل على وشك أن تستقر، حدث شيء جديد.
[جسدي… ذلك الرجل… تكلّم عن جسدي… قال إنه مجرد وعاء تافه لعامة الناس… ونعته بالعديم الفائدة… والعاجز عن إدراك الحقيقة…]
خفضت ليلي نظرها قليلًا، حريصة ألا يلمع بريقٌ في عينيها. ركّزت بكل حواسها، كي لا يفوتها أيّ تفصيل.
[كيف يجرؤ زنديق على قول ذلك… عن الإمبراطور صاحب السيادة…]
كان صوته مملوءًا بالغضب المكبوت، وسارعت ليلي لتواكبه.
“ذلك اللص الدنيء الذي سرق جسد جلالتك لا يعرف الخجل. إن إهانته وقاحة لا تُغتفر. ولو كان بوسعي ردّ هذا العار، لفعلت أيّ شيء.”
لكنها، حتى وهي تنفخ على ناره، لم تنسَ أن تُرطّب كلمتها بلطف.
“إنك تُظهر إشارات جيدة اليوم. هنالك تحسّن واضح. هل يطرأ شيء آخر على ذهنك؟“
وبعد لحظة تردد، فتح يوليوس عينيه فجأةً على اتساعهما.
[ثيميس… أوتو…]
وقبل أن تسأله عن هوية الاسم، تحرّك.
[ثيميس، أوتو، ثيميس، أوتو…]
أمسك برأسه وراح يتمتم الأسماء بصوت متهدّج، ثم نهض بتمايلٍ غير مستقر. خطواته المرتجفة اتجهت نحو الباب. شعرت ليلي بالذعر، فتردّدت لحظة قبل أن تسرع خلفه.
ومن خلف باب غرفة النوم، رأت أنه قد بلغ المدخل.
كان تمتمه، الذي بدأ يذوي مع المسافة، يرتفع مجددًا.
[ثيميس، أوتو…!]
خفض يده إلى مقبض الباب، لكنها مرّت من خلاله بلا جدوى.
بدأ يضرب الباب بقبضته. وعلى عكس المقبض، كان الباب ذاته — كحدٍّ فاصلٍ بين الداخل والخارج — يُمانع عبوره.
[ثيميس، أوتو، ثيميس، ثيميس، ثيميس!]
اسمٌ مع كلّ لكمة.
علا صوته حتى كاد أن يكون صفعة على الأذن، ثم اندفع بجسده كله نحو الباب. كان انفعاله من القوة بحيث اهتزّ المبنى برمّته اهتزازًا طفيفًا.
قفزت ليلي رعبًا، وهرعت عائدة إلى داخل غرفة النوم، وأغلقت الباب خلفها بقوة.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب من بيلادونا، التي كانت تجلس ساكنة على السرير. وأمسك ذقنها بلمسةٍ خشنةٍ ورفع رأسها للأعلى. “كيف أجعلك تتحدّثين؟” “….” نظر إلى عينيها المرتجفتين، ركل لسانه وأرخى قبضته على ذقنها واستدار....مواصلة القراءة →
كيف ستجعل صوتي يخرج؟ “الشخص الذي أريد سماعه أكثر من غيره لا يفتح فمه.” “….” “لأن زوجتي تجلس دائمًا ساكنة.” تحرّك إسكاليون خطوةً ثقيلةً واقترب...
التعليقات لهذا الفصل " 34"