وقف زافيير أمام قاعة استقبال الإمبراطور، ثم أخفى ببراعة علامات القلق التي بدأت ترتسم على ملامحه وسط تعقيدات الوضع، وطرق الباب بهدوء.
“ادخل.”
جاءه صوت الإمبراطور من الداخل.
وما إن دخل القاعة، حتى وقعت عيناه على الإمبراطور الجالس على أريكة قرمزية في قاعة فسيحة تفيض بالعظمة.
بدا وجهه شاحبًا يخلو من الدماء. وما إن رآه، حتى انحنت زافيير باحترام وقدّم له التحية.
“مولاي، أرجو أن تكون قد قضيت ليلة هانئة.”
رد الإمبراطور على تحيته الصباحية بإيماءة خفيفة بينما كان يحتسي الشاي، غير أن وجهه المبتسم كان يكتنفه حزنٌ كثيف، كضبابٍ لا يتبدد… حتى لزافيير ابنه، كان ذلك الوجه جديدًا عليه.
“يبدو أن في خاطر جلالتك ما يثقل القلب.”
ضحك الإمبراطور ضحكة باهتة، ثم هز رأسه مستسلمًا:
“أجل، هذا صحيح.”
وأضاف بنبرة ثقيلة:
“كان ينبغي أن أكون حاسمًا في مثل هذه الأمور… لكن هذه المرة، القرار ليس سهلاً كما يبدو.”
أخذ يسترجع ذكرياته القديمة.
إيف إستيلّا… كان قد التقى بها عدة مرات عندما كانت صغيرة.
فوالدها الكونت إستيلّا، لم يكن صديقًا مقربًا، لكنه كان من الأشخاص الذين احتك بهم بشكل متواصل في فترة ولايته للعهد.
وبالنظر إلى شخصية روبين إستيلّا المندفعة، فلا شك أنه ما إن علم بأن ابنته ساحرة، حتى سارع بإخفاء الأمر وبدأ يخطط للتمرد.
ومع ذلك، وبحكم بساطة تفكيره، فلا شك أن ذلك التمرد قد فشل قبل أن يرى النور.
قال الإمبراطور بعد لحظة صمت:
“لكن يا زافيير، في مثل هذه المواقف لا يجوز أن يحكمنا الشعور أو التعلق العاطفي. إن لم نكن حازمين سنُفسد الأمور كلها.”
كان يعلم جيدًا سبب طلب زاغيير لمقابلته، ولذلك حدّثه بجديّة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح الامبراطور لا الأب.
عندها خفض زافيير نظره وقال بأدب:
“أشكرك على نصيحتك السديدة، مولاي.”
أغمض الإمبراطور عينيه لبرهة، ثم فتحهما ببطء، فيما بدا وجهه غارقًا بالهمّ.
ومع أنه حاول تجاهل مشاعره الشخصية، إلا أن هناك عائقًا آخر أكبر كان يقف في طريقه.
“المشكلة الأكبر الآن… هي الدوق لودفيغ.”
“…هل زارك بنفسه؟“
أومأ الإمبراطور برأسه.
“في اليوم الذي أُلقي القبض فيه على إيف إستيلّا، جاءني بنفسه. وطلب مني أن أصدر عفوًا عنها.”
قال ذلك بنبرة هادئة، لا كإمبراطور، بل كأب يتحدث عن واقع مرير.
ومنذ أن دخل زافيير قاعة الاستقبال، لم يمد يده لكوب الشاي الذي قُدّم له واكتفى بالاستماع.
كان الشاي قد بدأ يبرد.
لاحظ الإمبراطور ذلك، وتجعدت ملامح عينيه.
الجميع يعلم كم يحب ابنه الشاي، وكيف أنه لا يكاد يفارقه. ولذلك، فإن امتناعه عن شربه في هذا الموقف، لم يكن إلا دليلًا على اضطرابه الداخلي، وهو أمر لم يشهده عليه من قبل.
“إن أفاق إيلا، فسيصبح تنفيذ حكم الإعدام بحق إيف إستيلّا أكثر صعوبة. لا بد أن نتخذ قرارًا قبل ذلك يا زافيير.”
كان باليريان قد فقد وعيه بعد أن استخدم قوة إيلا بشكل مفرط أثناء محاولته كبح جماح سحرها المنفلت.
وقد أخبر الدوق دييغو لودفيغ الإمبراطور بتفاصيل الحادث، مؤكدًا أن إيلا سيستفيق بعد شهر.
رد زافيير:
“لكنني أرى أن الوقت لا يزال مبكرًا لاتخاذ قرار، ما دمنا لم نُلمّ بكامل ملابسات ما حدث.”
“صحيح، لكن حتى القرار له توقيت… وإن تأخّر عن موعده، فقد يفقد كل معناه.”
قال الإمبراطور ذلك بنبرة حاسمة، كمن يوبخ ابنه المتردد.
وفي تلك اللحظة، سُمِع طرق على الباب.
تفاجأ زافيير قليلًا، إذ لم يُبلّغ بوجود زائر آخر.
“إذن، أستأذن بالانصراف، مولاي.”
لكن الإمبراطور أوقفه قائلًا:
“لا، ابقَ يا زافيير. أنت بحاجة لرؤية من سيدخل الآن.”
وفُتح الباب بصوت مهيب، دخلت على أثره امرأة ذات شعر أزرق مائل إلى الرمادي، وقد ربطته بنظام وأناقة. ابتسمت بودّ قائلة:
“يشرفني لقاء شمس هيليوس.”
كانت تلك رئيسة الكهنة أرييل.
أرفع كاهنة في البلاد المقدسة، والتي يُنظر إليها بهدوء بوصفها المرشحة الأبرز لخلافة البابا.
“أوه! وليّ العهد هنا أيضًا!”
“لقد مضى وقت طويل، يا رئيسة الكهنة أرييل.”
اقتربت منهما بابتسامة دافئة. ورغم أن زافيير التقاها سابقًا عرضًا، إلا أنها كانت المرة الأولى التي يتبادلان فيها التحية رسميًا.
كان زافيير قد سمع عنها من والده عندما كان صغيرًا…
“لم أرَ حتى اليوم مؤمنًا يهتم بمجد المملكة المقدسة كما تهتم به رئيسة الكهنة أرييل.”
“حتى أكثر من البابا نفسه؟“
“نعم… أرييل مختلفة قليلًا.”
رغم أن تلك الكلمات قيلت بشكل عابر، إلا أن زافيير ظل يتذكرها حتى اليوم.
الإمبراطور لم يمدح أحدًا بذلك الشكل من قبل… سوى رئيسة الكهنة آرييل.
“لقد وصلتِ باكرًا يا آرييل.”
قال الإمبراطور مبتسمًا بارتياح، وهو يرفع فنجان الشاي، ثم أشار إلى المقعد أمامه بعينيه:
“تفضّلي بالجلوس.”
فجلست آرييل في مقعدها بأدب، ثم سألته بلطف واهتمام:
“شاكرة لعنايتك يا جلالة الإمبراطور. كيف حال صحتك في الآونة الأخيرة؟“
ضحك الإمبراطور ضحكة خفيفة وقال:
“لم تتغيّر كثيرًا، ولكن مجرد أنها لم تسُؤ بعد، فذلك نعمة كبرى.”
“لو سمحت لي ببعض الوقت، يمكنني أن أتفقد الأمر مجددًا بنفسي.”
“يكفيني لطفك بالكلام… وكيف حال سيرزان؟“
سأل الإمبراطور عن البابا، فأجابته آرييل بابتسامة حزينة:
“لقد غادر فراش المرض بالكاد. لم يكن قادرًا على تحمل عناء السفر، ولهذا أتيتُ نيابةً عنه.”
“آه، من المحزن أن نسمع أن سيرزان الذي كان يتمتع بصحة ممتازة قد ضعف هكذا.”
“الإنسان لا يدري ما يخفيه له الغد. حتى أنا بدأت أُكثر من التفكير في النهاية التي قد تأتي فجأة.”
“من المبكر جدًا على رئيسة كهنة مثلك في أتمّ عافيتها أن تنشغل بهذه الأفكار. فأنتِ من أعمدة المملكة المُقدسة، ومن واجبك أن تتركي عنك تلك المخاوف.”
“ممتنة لنصيحتكم السامية يا جلالة الإمبراطور.”
ضحكت آرييل برفق وهي ترفع فنجان الشاي، لكن الإمبراطور بدا عليه الحزن وهو ينظر إليها.
“…مع ذلك، لم أكن لأتوقع ما حدث مؤخرًا.”
ابتسمت آرييل بخفوت، وكأنها فهمت تمامًا ما يقصده الإمبراطور بقوله “ما حدث مؤخرًا“. لكنها ما لبثت أن جففت ابتسامتها واتخذت نبرة جادة:
“إنها ساحرة خبيثة فعلًا. من المؤكد أنها اقتربت من إيلا عمدًا وخطبتها لهذا الغرض. يجب أن تُنفذ العقوبة فورًا.”
قالت ذلك بصرامة، كأنها مؤمنة مخلصة تطالب بالعدالة.
لكن الإمبراطور لم يُجب، بل ارتشف من شايه بصمت.
من تكلّم هو زافيير:
“الآنسة إيف إستيلّا كانت تنوي فسخ الخطوبة مع باليريان. فلو كانت تقترب منه بنية خبيثة، ما الحاجة لأن تُعلن فسخًا مفاجئًا؟“
“ربما خافت أن يكتشفها إيلا ويُقدم على قتلها.”
رغم أن كلامها بدا وكأنه رد منطقي، فقد أدركت آرييل أن وليّ العهد يدافع عن الساحرة.
‘هل وصل بها الأمر إلى أن تخدع حتى ولي العهد؟‘
‘صحيح… لقد حاولت من قبل أن تتقرب منه. يا لسحرها الخبيث.’
شتمت آرييل إيف إستيلّا في سرّها، فيما ارتسم على وجهها تعبير القلق:
“بالمناسبة… ألم تقترب تلك الساحرة من سموّك في وقت سابق؟ حمدًا لله أننا ألقينا القبض عليها قبل أن ترتكب جريمة ما.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 82"