في الوقت ذاته.
لم تستطع أرييل أن تُخفي ارتباكها وهي تنظر إلى القديسة يوري المتأنقة على غير العادة.
“قديستنا! إلى أين تنوين الذهاب؟“
منذ دخولها القصر الإمبراطوري، لم تخرج يوري من غرفتها أبدًا، لكنها فجأة أعلنت مشاركتها في الحفل الإمبراطوري وبدأت تستعد بحماس.
ردّت يوري بانفعال.
“هناك أمر مهم عليّ فعله هناك!”
كل ما يحدث الآن سببه أن الآخرين لا يعرفون الهوية الحقيقية لإيف.
لكن الضيق لم يكن حكرًا على يوري فقط.
“قديستنا!”
نبرة أرييل أصبحت أكثر حدّة.
كانت متوترة للغاية، خصوصًا وأن عائلة الدوق لودفيغ قد تخلّت عمليًا عن القديسة، وصارت تُعامل كورقة خاسرة.
كيف لها أن تتصرف بهذه اللامبالاة والطيش؟!
عناد يوري ورفضها العودة إلى المملكة المقدسة أوقعها في سخط الدوق لودفيغ، مما وضع المملكة المقدسة في مواجهة توتر خفي بين القصر الإمبراطوري وعائلة الدوق.
‘ما أحمقها!’
تساءلت أرييل في سرّها:
‘أي حاكم ذاك الذي اختار مثل هذه القديسة؟ كيف فشلت في كسب ودّ إيلا، فانتهى بها الحال إلى هذا الوضع المزري؟‘
لم تستطع كتم شعورها بالضيق تجاهها.
“هل تنوين افتعال فضيحة جديدة في هذا الحفل أيضًا؟“
لم تعد أرييل قادرة على كبح ضيقها، فاختفى ذلك الوجه الهادئ والمبتسم الذي كانت تتسم به سابقًا.
“فضيحة؟ ها! يبدو أنك، مثل الآخرين، لا تصدقينني.”
“ما الذي تقولينه الآن…؟“
“هل تعلمين من هي إيف إستيلّا حقًا؟…”
كانت يوري على وشك البوح بالحقيقة التي كتمتها طويلًا، مدفوعة بالغضب، حين وقفت أرييل في طريقها.
“… هه، لا، ليس الآن.”
الحديث عن الأمر الآن لا يزال مبكرًا. وقد وصلت إلى مسامعها إشاعات عن الحفلة التي أُقيمت في منزل الماركيزة كاثرين، وكيف أن إيف لعبت دور الضحية ببراعة لتحشد الرأي العام في صفها.
تذكّرت يوري الرسالة التي وصفت كل ما حدث بالتفصيل، فشعرت بالغضب يتفجّر داخلها.
‘كلما فكّرت أكثر، زاد غيظي!’
رغم كل شيء، لم تستطع إلا أن تشعر بالسخف.
مع أنها تملك نقطة ضعف خصمتها، فإن إيف لم تتوسّل أمامها، بل قررت أن تسحقها اجتماعيًا وتطردها من الدوائر النبيلة!
كأنها لم تلحظ كل ما فعلته لأجلها!
أطلقت يوري سخرية خفيفة من أنفها، وتقدّمت بخطى ثابتة نحو الخارج.
“قديستنا!”
حاولت أرييل الإمساك بها، لكن يوري كانت أسرع، فتفوّتت عليها الفرصة.
“القديسة… فعلتها في النهاية.”
نظرت أرييل إلى ظهر يوري وهي تبتعد، وتجمّد وجهها بجمود مخيف.
وفجأة، جاءها صوت ضاحك من خلفها.
“يبدو أن التحكم بالقديسة لم يعد ممكنًا، أليس كذلك؟“
كان صوت فتى، صافٍ ومرح، يتردد خلف أرييل مباشرة.
التفتت، فنهضت من جلستها وابتسمت عند رؤيته.
“آس… متى وصلت؟“
ابتسم الفتى ذو الشعر البني الداكن والعينين الحمراوين ببراءة، وقال بنغمة ماكرة لا تتناسب مع وجهه البريء:
“يبدو أنك في مأزق… هل تريدين مساعدتي؟“
أمال رأسه قليلًا، منتظرًا إجابتها، بينما ترددت أرييل، وقد بدا على الفتى الاهتمام.
ولعلها كانت أول مرة يرى فيها أرييل تتردّد بهذا الشكل، رغم أنه راقبها منذ ولادتها.
“لو كنتِ محتارة إلى هذه الدرجة… لمَ لا تتركينها تفعل ما تشاء لبعض الوقت؟“
“وماذا لو تسببت في فضيحة جديدة؟!”
تنهدت أرييل بعمق.
“حينها… لكل حادث حديث، أليس كذلك؟“
راح يعبث بشفتيه بأطراف أصابعه، بينما أرييل هزّت رأسها نفيًا.
“ما زال الوقت مبكرًا.”
“لكن إن كانت فريسة معدّة للتقديم، ألا يجدر بكِ أن تسلميها لي منذ الآن؟“
“الوضع لا يزال محفوفًا بالخطر. فأن القصر الإمبراطوري يراقبها عن كثب.”
ازدادت التجاعيد حول عيني أرييل. والحقيقة أنها، كلما تذكّرت ما فعلته القديسة في الحفلة التنكرية الأخيرة، تمنت أن تقدمها قربانًا على الفور.
ولا حتى قلب إيلا استطاعت كسبه.
وإذا استعادت القديسة ذاكرتها في وقت قريب، فسيزداد الوضع سوءًا. لذا كان يجب عليها أن تؤدي دورها حتى النهاية.
“هممم، حسنًا.”
لحس آس شفتيه بإحباط.
“يبدو أنني مضطر إلى خدمتها لبعض الوقت مجددًا.”
ثم، بحركة خفيفة من كتفيه، غيّر مظهره ببراعة ليعود إلى هيئة الكاهنة المخصصة التي كانت تلازم يوري وتقوم بخدمتها.
“لقد بدأت أملّ من هذا الدور، حقًا.”
“لماذا يقحم شخص مثلك نفسه في أعمال وضيعة كهذه؟“
ابتسمت أرييل مجددًا كأنها تقرّ بعجزها.
فردّ آس، أو بالأحرى أسْمُودِيوس، وهو يبتسم:
“لأني ببساطة أكره أن يسرق أحد طعامي.”
(ملاحظة : ابثحوا عن معنى اسم أسْمُودِيوس)
ثم نظر باتجاه يوري وهي تبتعد.
“على كل حال، ستعود القديسة إلى المملكة المقدسة قريبًا.”
* * *
قاعة الحفل الإمبراطوري.
رغم اتساعها الهائل، فقد كانت القاعة تتوهج بالبذخ والرفاهية.
ثم دوّى صوت قوي:
“دخول الآنسة إيف إستيلّا، ابنة الكونت إستيلّا، وسعادة السيد باليريان لودفيغ، وريث الدوق لودفيغ!”
وعند فتح الأبواب الضخمة، دخلت إيف إلى القاعة برفقة باليريان، مما جذب أنظار الجميع نحوهما.
“ألم يكونا قد فسخا الخطوبة؟“
“يقولون إن لذلك سببًا مهمًا. سمعنا أن الآنسة إيف كانت تتعرّض للابتزاز…!”
رفعت إيف أذنيها بانتباه، فقد بدأ الناس يتداولون الشائعات التي أرادت نشرها بالضبط.
‘نعم، استمروا في نشر تلك الأخبار…’
شعرت إيف أن حضورها حفلة مركيز كاثرين لم يكن عبثًا.
نظرت حول القاعة، فلم تكن يوري قد وصلت بعد.
يبدو أنها لم تأتِ بعد.
تناولت كأس شمبانيا من العربة التي يدفعها أحد الخدم، ورطّبت شفتيها.
كانت عطشى بشكل غريب. أرادت التحدث إلى يوري قبل أن تفجّر تلك الأخيرة أي مفاجأة.
لا يزال هناك متّسع من الوقت.
ثم التفتت بجانبها، لترى أن باليريان بدوره كان يتفحّص القاعة وكأنه يبحث عن أحد.
‘لا أعلم لماذا، لكن هذا المشهد مألوف جدًا…’
في ذلك الحين، لم يكن شريكها هو باليريان بل زافيير، ورغم ذلك شعرت بتوتر أقل الآن مما كانت عليه في تلك اللحظة. وأدركت بسخرية كم يبدو الأمر غريبًا.
‘أن أخشى كراهية باليريان أكثر من خوفي على حياتي… يا لي من حمقاء.’
ضحكت إيف بسخرية من نفسها، ثم جالت ببصرها في القاعة دون تفكير، إلى أن اتسعت عيناها فجأة بدهشة.
‘ما الذي يفعله هذا هنا؟!’
وضعت كأس الشمبانيا بسرعة على العربة، واتجهت بخطى سريعة.
كان مشهدها وهي تقترب مثل ثور غاضب كفيلًا بجعل نواه يرتبك من مكانه.
همست له بصوت حاد، كأنها تزمجر دون أن ترفع صوتها:
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟!”
كانت مضطرة لخفض صوتها حفاظًا على صورتها أمام الحضور.
نظر إليها نواه وقد بدا عليه بعض الذعر، وردّ:
“جئت لأراك، وأتأكد من أنك لن تتسببي في كارثة جديدة كالعادة.”
ثم رمقها بنظرة طويلة وأردف:
“في كل مرة تختفين فيها، يحدث أمر فوضوي.”
لم تجد إيف ما ترد به، فقد كان كلامه صحيحًا.
“فقط… لا تتدخل.”
قالتها بتحذير واضح، قبل أن تتوقف فجأة حين علا صوت في القاعة:
“الآنسة يوري، تدخل!”
“القديسة؟! ما الذي تفعله هنا؟!”
تفاجأ نواه الذي لم يصله خبر حضورها، وكان حال النبلاء الآخرين مشابهاً.
ساد الاضطراب في القاعة.
ففي الوسط الاجتماعي، كانت يوري معروفة بأنها قد تعاونت مع شيطان لمحاولة القضاء على إيف إستيلا.
فكيف لها أن تظهر في حفل ملكي يجمع هذا العدد من الأرستقراطيين؟
“ما الذي تفكر فيه؟“
تساءل بعض الحاضرين وهم يهمسون، مشككين في دوافعها.
قال نواه، وقد امتلأ وجهه بالقلق وهو يمسك بذراع إيف:
“هل جاءت هنا لإيذائك؟“
وما لبث أن نظر إلى باليريان، ليلحظ هو الآخر ملامحه المشدودة، فبدا أكثر قلقًا.
“وما بال باليريان؟ لمَ يبدو غاضبًا إلى هذا الحد؟“
نقلت إيف نظرها إلى باليريان، لتجد كلام نواه في محله.
بل إن وصفه بدا خفيفًا بالمقارنة مع النظرات المتأججة غضبًا في عينيه الزرقاوين، الموجهة إلى جهة باب القاعة.
‘ما الذي يثير غضب لاليريان…؟‘
لم تستطع فهم السبب، فتقدّمت منه بخطوات سريعة:
“باليريان، هل يمكن أن آخذك للحظة؟“
عند سماعه لصوتها، التفت أخيرًا إليها.
لم تفوّت إيف اللحظة، وسرعان ما أمسكت بذراعه وجذبته نحوها.
قال بصوت خافت، متجهمًا:
“ما الأمر يا إيف؟ أنا مشغول الآن.”
لأول مرة بدت لها أن كلمة مشغول تنذر بالخطر.
اقتربت منه وهمست بصوت خفيض بالكاد يُسمع:
“أنا حقًا، حقًا، لا أنوي قتل يوري.”
رغم أنها حاولت شرح الأمر في العربة مرارًا، إلا أنه كان يُصر على سماع الحقيقة كما يراها.
‘إن كان ما زال يظن هنا أنني أنوي إيذاءها… فربما يسبقني هو إلى ارتكاب حماقة.’
وفي تلك اللحظة، صدح صوت واثق في أرجاء القاعة:
“أنا أعلم ما يُشاع عني… ولهذا جئت إلى هنا لأدحض تلك الشائعات!”
كانت يوري هي المتحدثة. وقفت تحت الثريا بزي أبيض مزخرف، تشع ثقة وأناقة.
أرادت إيف التقدّم نحوها، لكن الزحام حال دون ذلك.
“يا للعجب، وماذا تقصد بذلك؟“
سألت إحدى النبيلات باهتمام ظاهر.
أجالت يوري نظرها في القاعة، وحين تيقّنت أن وليّ العهد زافيير لم يصل بعد، قالت:
“حين يحضر صاحب السمو وليّ العهد، سأُفصح عن الأمر—”
لكن صوت المذيع ارتفع في القاعة قاطعًا كلامها:
“صاحب السمو وليّ العهد زافيير لو هيليوس، والآنسة أوفيليا غيلين، قد دخلا!”
تلألأت عينا يوري عند سماع الإعلان.
دخلا زافيير وأوفيليا القاعة، ثم رمقا النبلاء المتجمّعين بنظرات مستغربة، قبل أن تقع أعينهم على يوري في قلب ذلك الحشد.
تبدّلت ملامح وجه زافيير، فقد أدرك غرضها من كل ما يدور.
تقدّمت أوفيليا من إيف فورًا، وقالت بلطف:
“آنسة إستيلا.”
دهش الحاضرون، إذ بدا واضحًا أن الآنسة غيلين قد أتت للقاء إيف خصيصًا.
زافيير الذي كان بجانبها، رمق باليريان ثم أعاد بصره إلى إيف.
كان في نظرته مزيج من القلق والتحذير.
قال بنبرة محايدة:
“آنسة إستيلا، لقد أرسلنا إليك برسالة تخبرك بحضور القديسة… فَلِمَ حضرتِ إلى الحفل اليوم؟“
عند سماعه لذلك، ارتجف حاجبا باليريان.
‘من ذا الذي يقلق على من؟‘
لكن إيف لم تلاحظ تغيّر ملامحه، وأجابت بهدوء:
“ولهذا السبب بالتحديد كان عليّ الحضور.”
ابتسمت أوفيليا وقالت بنبرة مشوبة بالسخرية:
“كنت أتوقع حضورك، وها أنتِ تؤكدين توقّعي. يا له من أمر ممتع.”
تبعها صوت آخر، مفعم بالعدائية، لم يكن سوى صوت يوري:
“وكم أجد الأمر أنا أيضًا ممتعًا… أن تُشارك آنسة إيف إستيلا في الحفل وكأن شيئًا لم يكن، وقحة كما توقعت.”
كانت عيناها، اللتان قبل لحظات كانت تنظران إلى باليريان، تنغرز الآن في إيف بقسوة شديدة.
ثم قالت بنبرة تمثّل الاستنكار:
“يا لها من مصيبة! ساحرة، من أكثر الأعراق خطرًا في الإمبراطورية، تشارك في حفل ملكي؟ أليس هذا مخيفًا؟“
________
ويلي ويلي وصلنا الفصل 70
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 70"