كانت إيف متجمدة في مكانها، غير قادرة على إخفاء ارتباكها.
لم يخطر ببالها إطلاقًا أن يكون باليريان هو من يفتح هذا الحديث أولًا.
ظلت تردد كلماته في ذهنها مرارًا، قبل أن تتحرك شفتيها أخيرًا لتسأل:
“ أن أطلب المساعدة؟“
“نعم .”
نظرت إيف في عينيه محاولة استكشاف نيته الحقيقية، لكن عينيه المخفيتين خلف القناع لم تسمحا لها برؤية أي شيء.
“… إذًا، دعني أسألك شيئًا واحدًا يا باليريان. هل سبق أن ابتعدت عن يوري ولو لمرة واحدة؟“
“…….”
لم يرد باليريان مباشرة.
بدا مترددًا، وكأنه يحاول فهم دوافع سؤالها.
تأملته إيف بعينين هادئتين.
“ لا داعي لأن تأخذ السؤال بجدية. أنا فقط فضولية لأعرف إن كنت قد نفذت طلبي.”
عندها، ضم شفتيه قليلًا، ثم أجاب أخيرًا:
“ صحيح، لم أبتعد عنها ولو مرة واحدة.”
قالها. وتحركت شفتا إيف كما لو كانت تستعد للكلام، فقد كانت هناك كلمات أعدّتها مسبقًا لترد بها على هذا الجواب بالتحديد.
لكنها حين سمعته منه حقًا، لم تستطع أن تنطق بها.
تجمد جسدها كما لو طلي بالشمع.
وبعد لحظات، استعادت هدوءها بصعوبة وتكلمت:
“ ولم يحدث شيء غريب ليوري؟“
“… أي شيء تقصدين؟“
نظر إليها باليريان بنظرة حائرة وكأنه لا يفهم مقصدها.
“ في الحفل… هل اقترب منها أحد بشكل خاص؟“
“… كان هناك من تحدث إليها علنًا، لكن لا أحد اقترب منها سرًّا.”
كانت نظرته تقول “ لماذا تسألين؟“ ، لكنها لم تجب.
‘ هل يُعقل… أن يكون آرون قد تظاهر بأنه نبيل؟‘
فتحت إيف فمها مجددًا:
“ إذًا، هل تعرف ماذا كان يفعل آرون أثناء وجود يوري في الحفل؟“
توقف لبرهة. وحين لم يأتِ الرد، لم تستغرب إيف.
‘ إذا كانت يوري في الحفل، فلا بد أن باليريان كان بجانبها، فكيف له أن يعرف تحركات آرون؟‘
ما لم يكن قد وضع من يراقبه، فليس من المنطقي أن يكون على علم بتحركاته.
“… لم يخرج من غرفته طوال الوقت.”
قالها باليريان، فتفاجأت إيف:
“ وكيف عرفت ذلك؟“
لا يمكن أن يكون…
“ وكلت من يراقبه.”
أذهلها ما سمعت، ولم تستطع الرد. كان من المفترض أن تفرح بذلك، لكنه صدمها بوضعه آرون تحت المراقبة دون أن تخبره.
“ لماذا؟“
“ ببساطة، أي شخص من خارج القصر يدخل قصر الدوق لودفيخ يوضع تحت المراقبة لفترة معينة.”
كانت كذبة صريحة تمامًا.
قالها دون أن يرف له جفن، مما جعل إيف تميل برأسها بتردد.
“ حقًا… ؟ إذًا أنت تؤكد أن آرون لم يخرج من غرفته؟“
“نعم .”
رغم إجابته، ومضة من الشك مرت في عينيه الزرقاوين.
فقد بدا غريبًا له أن تسأل عن آرون فجأة بهذه الطريقة.
“ هل لآرون رومان علاقة بتلك الشائعة؟“
سؤال باليريان أصاب كبد الحقيقة، فارتجف كتف إيف لا إراديًّا. وكان هذا كافيًا ليعرف الجواب.
“ هكذا إذًا…”
بدت نظراته كأنها تخفي نية قاتلة.
كان قد سبق أن هدد جريدة الإمبراطورية التي نشرت مقالات مسيئة لإيف، متوعدًا بتدميرها إن استمرت على هذا النهج.
كما سمح فقط بنشر أخبار إيجابية عنها، محذرًا أنه إن لم تُستعد صورتها العامة، فسيُحاكم رئيس التحرير في محكمة مقدسة.
لكن رغم ذلك، بدأت الشائعات الغريبة تنتشر حولها.
وكان أخطرها، أنها “ تابعة للشيطان“.
وتلك الشائعة، إن دلت على شيء، فعلى أمر واحد:
‘ هناك من يسعى عمدًا لتدمير سمعتها.’
منذ ذلك الحين، بدأ باليريان البحث عن مصدر الشائعة بكل الوسائل، دون أن ينجح حتى الآن في الوصول إلى الجاني.
لكن إن كانت إيف تشك بشخص معين، فلا بد أنها تملك سببًا وجيهًا لذلك. وكان قد بدأ يتحرك لمغادرة الشرفة عندما—
“…انتظر !”
أمسكت إيف بذراعه فجأة، مانعة إياه من المغادرة.
“ لا شيء مؤكد بعد!”
كانت تدرك أنه ليس من الحكمة بقاؤهما معًا في الشرفة، لكنها لم تستطع منعه.
فغضبه كان عارمًا بشكل غير مألوف.
‘ ما الذي أصابه؟ لماذا يتصرف بهذا الشكل؟‘
كانت في حيرة من أمره. كيف له أن يصدق فقط بكلماتها أن آرون هو الفاعل؟
فحسب كلامه، آرون لم يخرج من غرفته، فكيف يكون ناشر الشائعات؟
‘ ما لم يكن شيطانًا…’
إيف نفسها كانت تملك هذا الشك، لكن باليريان لم يكن يملك حتى ذلك. ومع ذلك، تحرك مباشرة بناءً على كلماتها فقط.
وكان ذلك… غريبًا.
‘ ألم يكن قد تخلّى عني تمامًا؟‘
ربما كان يتحرك بدافع العدالة، لكن حماسته الزائدة لم تكن طبيعية.
ترددت إيف للحظات، ثم نادته دون وعي:
‘… باليريان.’
نظر إليها فورًا.
أشاحت بنظرها عنه وأغلقت فمها من جديد. كانت تود أن تسأله إن كان يحمل مشاعر تجاه يوري، لكن لم تستطع.
‘ بأي حق؟‘
ما حقها لتسأله شيئًا كهذا؟ رغم إحساسها بنظراته الحادة، لم تُظهر ما بداخلها.
“ لكن لا يوجد دليل قاطع ضد آرون بعد. علينا أن ننتظر ونراقب أكثر.”
“ لكن لماذا قد يفعل آرون شيئًا كهذا؟ وكيف؟“
أخيرًا، بدأ باليريان يطرح الأسئلة المنطقية.
كان قد استشاط غضبًا سابقًا وتحرك دون تفكير، لكن بعد أن هدأ، بدأ يرى التناقضات.
كيف لشخص عادي مثل آرون أن ينشر شائعات داخل قلب المجتمع الأرستقراطي؟
“ يا للسُرعة في طرح الأسئلة، يا سيد إيلا.”
ابتسمت إيف ساخرة، لكنها لاحظت أن نظرته كانت مركّزة على وجهها، دون أي خجل من تصرفاته السابقة.
“ لا تقل إنك…”
تصلب وجه باليريان فجأة. لقد فهم ما كانت تلمّح إليه.
“ لا نعلم بعد. مجرد شك لا أكثر.”
هزّت إيف رأسها نافية. نظراته الزرقاء، التي كانت يومًا دافئة، تجمدت كقطع جليد.
“ لكن… أتيتِ مع آرون إلى هنا، أليس كذلك؟“
“…نعم .”
“ إيف، هذا كان تصرفًا متهورًا للغاية.”
“ أعلم.”
غشّت عينا إيف الحمراوان بالعتمة والهمّ.
‘ لكن… لم يكن لدي خيار آخر.’
عبثت بالقناع الذي كانت ترتديه
قناع مزين بريشة أرجوانية.
‘ من البداية… لم أكن أنوي البحث عن الجاني أصلاً.’
إن حاول آرون مهاجمتها، فقد كانت مستعدة لمواجهته.
منذ أن وصلت إلى العاصمة، كانت تمضي كل وقت فراغها، وخارج أوقات العمل منغلقة في مكتبتها، تدرس السحر.
خاصة بعدما راودها الشك في الليلة الماضية بأن آرون قد يكون شيطانًا… قضت الليل تقرأ وتدرس كتبًا عن الشياطين، وبالذات ما يتعلق بنقاط ضعفهم.
‘ نقطة ضعف الشياطين هي القوة السحرية النقية.’
صحيح أن قوة “ النور المقدس” ( أو الهالة المقدسة) هي الأكثر فاعلية، لكن حتى طاقة السحرة عالية النقاء لها أثر كبير عليهم.
عادة ما تُصوَّر طاقة الشياطين باللون الأسود، لأنها تتكون من قوى ملوثة ومختلطة، واللون الأسود هو نتيجة ذلك الفساد.
وعندما تتداخل معها طاقة نقية، يحدث تنافر شديد، يُجبر طاقة الشيطان الحقيقية على الانفجار والظهور.
ويقال إن الهيئة الحقيقية للشيطان بعيدة كل البعد عن شكل البشر… بل بشعة ومروعة إلى حد لا يوصف.
‘ تجربة تستحق المحاولة.’
ابتلعت إيف ريقها، تحفّزًا وتصميمًا.
“إيف .”
ناداها باليريان، محدقًا في ملامحها الهادئة بنظرة ممتلئة بالحيرة والضيق.
“ لماذا تصرين على تحمّل كل شيء وحدك؟“
فأجابته بصوت حاد ونبرة حازمة:
“ ولمن أطلب المساعدة؟ من سمو ولي العهد؟ من يوري؟ أم… منك أنت؟ لا أريد إثارة المزيد من القيل والقال، لقد سئمت من هذا كله.”
ثم غادرت الشرفة بخطى ثابتة.
لقد تعبت من الاضطرار إلى شرح ظروفها والدفاع عن نفسها في كل مرة.
بل إن شعورًا بعدم الارتياح بدأ يتسلل إلى قلبها، لمجرد التفكير في أن كل ما اعتقدته عن باليريان ربما كان مجرد وهم أو سوء فهم.
في تلك اللحظة، شعرت بأن الأنظار التي كانت تراقبها تفرّقت فجأة، وإن بقيت بعض العيون تلاحقها بفضول.
‘ أين آرون؟‘
نظرت بسرعة في أرجاء قاعة الحفل، فلم يكن له أثر.
أثناء تجوالها بحثًا عنه، اصطدمت بها شابة من عمرها تقريبًا، وسُكِبْ كأس من النبيذ الأحمر على فستانها.
“آه …”
كان الفستان أزرقَ سماويًا، لذلك بدت بقعة النبيذ بوضوح، كأنها نُقشت عليه.
قالت الشابة، بنبرة متوترة:
“ أوه…! أنا آسفة! سأقوم بتنظيفه فورًا!”
“ لا بأس.”
ردت إيف وهي تهمّ بالابتعاد، غير أن الشابة أمسكت بها مجددًا.
“ قلت لك سأقوم بتنظيفه بنفسي…! أوه!”
في تلك اللحظة، سواء كان الأمر مقصودًا أو لا، جذبت الشابة شعر إيف، فانتزعت الباروكة البنية، لتنسدل من تحتها خصلات فضية ناعمة كلخيوط القمر.
“…….”
“ يا إلهي، هل أنتِ آنسة إستيلّا؟ أنا آسفة! لم أكن أعلم أنك ترتدين باروكة!”
لكن إيف لم ترد، فقد لمحت ابتسامة خبيثة ترتسم على شفتي الشابة.
‘ إذًا كانت هذه حيلة متعمدة.’
لم تُظهر إيف ارتباكًا رغم الأنظار المحيطة بها، بل أخذت تراقب من حولها.
الجميع تجنب النظر مباشرة في عينيها، ثم بدأت تلك الأنظار تتجه إلى جهة محددة.
وهنا أدركت إيف أن العقل المدبّر خلف هذه المسرحية هي يوري.
‘ من الطبيعي أن يبقى المحرّك الحقيقي في الخلف.’
ابتسمت بسخرية. هل هذه كانت نية يوري حين قالت إنها تريد حضور الحفل؟
“ لكن… آنسة إستيلّا، ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟“
سألتها الفتاة التي سكبت النبيذ، بنظرة بريئة متعجبة.
ثم أمالت رأسها باستغراب:
“ أليس من المفترض أن تكوني في المحكمة المقدسة الآن، لا في حفلة تنكرية؟“
تجمد وجه إيف. عيناها الياقوتيتان ركزتا على الفتاة بصمت قاتل.
تراجعت الشابة خطوة إلى الوراء، وقد شعرت بهيبة إيف رغم نبرتها المستفزة.
فهي لم تكن من النوع الذي يرتعد عند سماع كلمة “ محكمة مقدسة“.
“ همم… المحكمة المقدسة، أليس كذلك؟“
بدلًا من أن تغضب، ارتسمت على شفتي إيف ابتسامة باردة ساحرة ولكن تنضح بالازدراء.
“ آنسة سيرينا، لديك حس فكاهة مميز.”
“… لا أفهم سبب ثقتك الزائدة بنفسك. لا أظن أن لك الحق في هذا الموقف.”
كلمات سيرينا، التي حاولت الحفاظ على هدوئها، فقدت توازنها أمام ابتسامة إيف.
“ لولا رحمة القديسة، لَكنتِ الآن تخضعين للمحاكمة.”
“ هذا صحيح.”
وافقها بعض النبلاء الواقفين حولها، مما جعل إيف تلتفت إلى يوري، التي التقت عيناها بها لوهلة قبل أن تسرع بإزاحة نظرها.
‘ كنت أود توضيح الأمور معها…’
لكن يوري تصرفت من دون أن تمنحها فرصة للكلام، وكأنها حسمت كل شيء في رأسها.
“ ومن قال إن المحاكمة ستُعقد؟“
انطلقت فجأة نبرة مألوفة. لقد كان صوت وويث الدوق لودفيخ، باليريان.
حدّق به النبلاء بدهشة، وإيف كذلك لم تُخفِ اندهاشها.
‘ هذه فرصتي.’
وبينما تركزت الأنظار على باليريان، أغمضت إيف عينيها، وبدأت تستخدم سحر الماء.
جمعت الرطوبة من الهواء على رأس آرون، حيثما كان متخفيًا بهيئة نبيل.
“ إن كان تنكّر في هيئة أحد النبلاء، فشعره لا بد أن يكون مبللًا كما لو أنه مبتل بالمطر.”
فتحت عينيها بهدوء، وفي تلك اللحظة…
“ يا إلهي! الكونت باتريك، شعرك مبلل تمامًا!”
صرخت سيدة نبيلة وهي تلوّح بمروحتها، وقد ارتسم الذعر على وجهها وهي تحدق في رأس الكونت المبلل.
————
ترجمه: سـنو
واتباد (اضغط/ي):
@punnychanehe
واتباد الاحتياطي:
@punnychanehep
التعليقات لهذا الفصل " 58"