ارتجفت إيف قليلاً. كان الرمز مطابقًا تمامًا دون أدنى اختلاف.
“لابد أن أحدهم أراد المزاح فحسب.”
“ماذا؟ من يمازح بهذه الطريقة؟“
ردّ نواه لم يكن خاليًا من المنطق.
إلا أن الشعور الذي رافق الأمر كان سيئًا للغاية لدرجة يصعب اعتبار ما حدث مجرد مزحة.
“هل يُعقل… أن يكون أحدهم قد اكتشف أنني ساحرة؟“
“هذا مستحيل.”
أجابها نواه فورًا رافضًا فكرتها، وقد بدا عليه الارتباك.
لكن حتى هو، لم يستطع أن يشيح بنظره عن الرسالة، وكأن هناك ما يزعجه فيها أيضًا.
“لكن أنت نفسك قلت إن لا أحد يمازح بهذه الطريقة. أليس هذا تناقضًا؟“
كانت ملاحظتها في محلها. هي أكثر من تمنى لو كان ما تلقّته مجرد دعابة سخيفة.
لكن مضمون الرسالة… كان ينذر بشيء سيء.
‘…سأثبت لكِ ولائي بموت إيلا؟‘
في الواقع، لا يوجد إلا إيلا واحدة في الإمبراطورية الآن، وهي لقبٌ لا يُطلق إلا على اثنين: دوق لودفيغ وابنه باليريان لودفيغ خطيبها السابق.
ومَن يُمثّل هذا الاسم أمام الجميع الآن… شخص واحد فقط.
‘باليريان لودفيغ.’
رغبت بكل جوارحها أن تنكر ذلك، لكنّ المنطق كان يقول إن المقصود في الرسالة غالبًا هو باليريان.
“…علينا أولًا أن نعرف من أرسل هذه الهدية.”
راحت إيف تتفحّص الرسالة من كل زاوية، لكنها لم تلاحظ شيئًا مميزًا. وما إن لامست الرمز المرسوم حتى وخزها شيء، فتراجعت فجأة وهي تتأوه.
“آه!”
سال من سبابتها خيط رفيع من الدم عند موضع ملامستها للرمز.
أسرع نواه نحوها وقد فزع.
“ما بكِ؟ ألا تتوخين الحذر إطلاقًا؟!”
“غريب… لم يكن هناك شيء حاد… هل يمكن أن يكون خدشًا من الورق؟“
نظرت مجددًا إلى الرسالة محاولة التحقق، لكن لم يكن هناك أي أثر للدم، رغم أنها كانت تنزف منذ لحظة.
‘كأن الورقة امتصت الدم…’
رأى نواه أن من الأفضل التخلص من الرسالة فورًا، فأحضر ملقطًا ليمسكها دون لمس مباشر.
“لا يمكننا الاحتفاظ بشيء كهذا في البيت. من يعلم ما الذي قد يفعله… هيه! إيف إستيلا!”
صرخ باسمها عندما رأى أنها عادت وأمسكت الرسالة بيديها مجددًا.
“لحظة… لون الرمز…”
لاحظت أن لون الرمز قد تغيّر من الأسود إلى الأحمر، بلون عينيها تمامًا.
“لقد أصبح أحمر اللون.”
“ماذا؟! أنا أراه كما هو، لم يتغير شيء.”
نظر نواه إليها بدهشة حقيقية، بينما تجمّدت ملامحها.
إن كانت الوحيدة التي ترى تغيّر اللون، فالأرجح أن الرسالة تحتوي على سحر مخصص لها وحدها.
وأصبح مصدر هذه الرسالة، أو هذا “الشيء” الذي أرسلها، أكثر غموضًا وإثارة للريبة.
“سنحتفظ بها مؤقتًا، فقط احتياطًا. ولا تخبر والديّ بأي شيء. سأتحقق من الأمر بهدوء بنفسي.”
أسرع الطرق لمعرفة هوية المرسل كان الاستعانة بالعائلة الإمبراطورية أو بقوة عائلة لودفيغ.
لكنها لا تستطيع اللجوء إلى أي من الطرفين الآن.
ولكشف هوية المرسل، عليها أولًا أن تكتشف محتوى الرسالة بالكامل.
‘لا خيار أمامي… سأتحرّى بنفسي.’
أطلقت إيف تنهيدة طويلة، وعيناها معلّقتان على الرسالة التي لم تزدها إلا حيرة.
* * *
“……لقد عدتَ أسرع مما توقعت، يا باليريان.”
تفاجأت رئيسة الكهنة أرييل برؤية باليريان وقد وصل للتو إلى الكنيسة المقدّسة.
كانت على دراية بما جرى بين إيف وولي العهد.
‘كيف يمكنها ارتكاب أمر مخزٍ كهذا؟‘
لم تكن تتصور أن إيف إستيلا قد تفعل شيئًا كهذا.
لم تظهر لها يومًا كفتاة ماكرة أو شريرة، لكن يبدو أنها كانت أكثر دهاءً وخبثًا مما اعتقدت.
أرييل شعرت بالقلق من أن يكون باليريان قد تأذى نفسيًا، خاصة بعد أن كان قد فتح قلبه لتلك الفتاة الصافية، كما ظنّ.
“نعم، جئتُ استجابة للاستدعاء.”
أجاب باليريان بوجه خالٍ من التعابير.
ربّتت أرييل على كتفه بنظرة مشفقة وقالت:
“أحسنت بالمجيء، اعتبر هذا المكان بيتك.”
لكن دفئها الظاهري لم يكن صادقًا تمامًا؛ فقد لمعت في عينيها البنيتين لمحة رضا خفي.
“ربما كان هذا أفضل ما يمكن أن يحدث.”
فقد اقترب الوقت الذي ستحل فيه القديسة الجديدة، وكانت علاقتها المحتملة مع باليريان تشغل بال أرييل منذ أن سمعَت مضمون النبوءة.
كان من المفترض أن يكون باليريان مكرّسًا بالكامل لخدمة القديسة، لا أن ينشغل بفتاة أخرى.
‘الآن، يمكنني أن أطمئن.’
إذ لو أغضبت القديسة الجديدة كما حدث قبل مئة عام، فقد تغادر هذا العالم مجددًا، وهو ما يعني كارثة على موقع الكنيسة والبلاد المقدّسة.
لذلك، كانت مسؤولية باليريان جسيمة، وعلاقته بإيف مثّلت خطرًا.
وبما أن الأمور بدأت تسير في الاتجاه الذي تريده، فقد بدا على أرييل الحزن في الظاهر، بينما كانت تبتسم في داخلها.
“القديسة ستصل إلى الكنيسة قريبًا. وعلى الأرجح، سيتم تعيينك فارسها المرافق. لذا عليك أن تخضع لمراسم التعميد الرسمية لتصبح فارسًا مقدسًا.”
كان التعميد خطوة لا بد منها لتطهير الجسد والروح قبل لقاء القديسة.
بدأت أرييل تشعر بالقلق—لو ظهرت القديسة قبل أن تتم مراسم التعميد، فسيكون الأمر مزعجًا.
‘التعميد…’
كان إجراءً لا غنى عنه لمن يتولى مرافقة القديسة.
أما باليريان، فبالرغم من رغبته الجامحة في الذهاب إلى حيث إيف، إلا أنه تماسك.
فحفظ الإمبراطورية كان يعني حفظ سلام إيف أيضًا، وكان من واجبه أن يحمي سلامها.
“متى يناسبك التعميد؟ أظن من الأفضل الإسراع فيه، إذ تم تأجيله مرات كثيرة.”
“أوافق. من الأفضل أن يُنجز بأسرع ما يمكن.”
هو أيضًا لم يكن يرغب في تضييع الوقت.
كان عليه إتمام التعميد سريعًا، ثم اكتشاف ما تخفيه إيف عنه.
“قرار حكيم. سأحرص على تقديم الموعد قدر الإمكان.”
“شكرًا لك، يا رئيسة الكهنة.”
ابتسمت أرييل له بحنان مصطنع.
“اذهب لترتاح الآن، يا باليريان.”
* * *
بعد أسبوع
حضرت إيف الحفل برفقة ولي العهد بدعوة رسمية منه، لكنها بالكاد دخلت القاعة حتى بدأ بملاحقتها بكلماته المستعجلة.
جلسا في ركن منعزل، وتحدثا همسًا كي لا يسمع أحد.
“إذاً، باليريان ينوي التخلّي عنك؟“
رغم أن مظهرهما بدا كمحبّين يتبادلان الحديث، إلا أن مضمون الكلام كان بعيدًا كل البعد عن الرومانسية.
“لذلك عاد إلى المملكة المُقدسة، على ما يبدو.”
كانت الشائعة قد انتشرت سريعًا: أن باليريان انزوى هناك بعدما تحطّم قلبه بخيانة خطيبته.
لكن زافيير لم يصدق تلك الرواية.
تنهدت إيف، فقد كانت نظراته المشككة لا تترك لها خيارًا آخر.
كان زافيير واثقًا بأن باليريان ليس من النوع الذي يستسلم بهذه السهولة.
“اطمئن، يا سمو الأمير.”
“……يبدو أنكِ لا تعرفينه جيدًا.”
كلما تحدثا عن باليريان، كانت المحادثة تدور في حلقة مفرغة.
تجرّع زافيير كأس الشمبانيا بنفاد صبر، وهو ما لم يعتده من نفسه، إذ كان يحرص دائمًا على مظهره الراقي. لكن إيف أيضًا كانت تختنق بالضيق.
“أظن أن الطريقة التي اتبعناها لم تكن صائبة. لقد نسيت لوهلة كم كانت نصيحتكِ عديمة الجدوى.”
“فات الأوان على الندم. لقد عبرنا النهر، وما علينا سوى أداء أدوارنا بجد.”
صدمت كأسها بكأسه بخفة مبتسمة كما لو كانت عاشقة تهنئ حبيبها.
ثم ارتشفت من شرابها بهدوء وأناقة، فوجد زافيير نفسه مأخوذًا ببرودها الغريب.
“لا يبدو أنه ينوي الخروج من المملكة المقدسة في الوقت القريب.”
علّق زافيير، ولاحظت إيف نبرة خفية في كلامه، فسألته:
“هل سمعت شيئًا؟“
“غدًا، سيخضع باليريان لمراسم التعميد كفارس مُقدس.”
‘……مراسم التعميد.’
ذلك يعني ظهوره رسميًا كسيد السيف.
كان هذا بالضبط ما تمنّته إيف.
لو ظهرت يوري الآن كقديسة، فسينضم باليريان تلقائيًا إلى جانبها.
‘لكن… لماذا أشعر بهذا القلق والانزعاج…؟‘
لا بد أن هناك ما يثير التوجّس، لكنها لم تستطع تحديده بوضوح.
“هل ستذهبين لحضور المراسم؟“
كادت تقول “لا” تلقائيًا، لكنها توقفت فجأة.
نظر إليها زافيير مستغربًا من ترددها.
“صحيح… كان يُسمح للغرباء بحضور مراسم تعميد الفرسان المُقدسين، أليس كذلك؟“
ثم أدركت فجأة مصدر شعورها الغريب.
‘أجل، الآن تذكّرت.’
ذُكرت مراسم التعميد هذه في الرواية الأصلية…
وليس باعتبارها مجرد مناسبة، بل كخلفية لحدث مفصلي.
بعد ظهور القديسة يوري، تعرضت لهجوم شيطاني داخل الكنيسة المقدسة،
لكن ذُكر أن ذلك الهجوم لم يكن الأول… بل الثاني.
أما الهجوم الأول فكان…
‘مراسم تعميد باليريان!’
توقّف قلب إيف للحظة.
حينها، ظهر شيطان من الرُتب العليا بين الحشود، وكاد يؤدي بحياة باليريان.
من المرجّح أن ذلك الشيطان قد تسلل بالفعل بين الحاضرين.
وفي تلك اللحظة، خطر في بالها مضمون الرسالة التي وصلتها قبل أسبوع:
[…سأثبت لكِ ولائي بموت إيلا.]
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 27"