لم تكن إيف وحدها من شعر بتلك النظرات، فقد تجمدت ملامح زافيير أيضًا للحظة.
نظرة باليريان المتجمدة كانت أكثر برودًا ووحشية من أي وقت مضى، حتى أن القشعريرة تسللت إلى العظام. أمام تلك الهالة، تأكد زافيير من شكوكه.
‘يبدو أنه لم يسمع بالخبر بعد.’
لم يكن الدوق لودفيغ قد أخبر باليريان بخبر خطوبتهما بعد. وفهمًا لنية الدوق، لم يسع زافيير إلا أن يضغط لسانه بأسى داخل فمه.
‘أراد أن يواجهه بالأمر وجهًا لوجه ليستغله كصدمة علاجية؟‘
لا شك أن الدوق كان يعلم أن الآنسة إستيلّا وولي العهد سيحضران الحفل.
تمامًا كما يشاع عنه… رجل بارد لا يرحم.
وقد لاحظ الإمبراطور هو الآخر إلى أين توجهت الأنظار، فابتسم وهو يوجه كلامه إلى باليريان:
“أجل، من الأفضل أن تلقي التحية، بما أنك أحد الذين سيقودون فرسان القصر الإمبراطوري في المستقبل.”
“………”
“سترى هذه الوجوه كثيرًا في القصر من الآن فصاعدًا، فاحفظها جيدًا.”
لم يكن هناك شك في من يقصد الإمبراطور. وبمجرد أن لمح باليريان نظرات الامبراطور تتجه نحو إيف، اندلع شرر بارد في عينيه.
رأت إيف قبضته ترتجف، فتطلعت إلى الإمبراطور بدهشة. أما الأخر، فظل على هدوئه كأن شيئًا لم يكن.
‘ما هذا… هل يقصد ما قاله حرفيًّا؟‘
تفاجأت إيف من كلام الإمبراطور المباشر أكثر مما توقعت.
وبتلك الكلمات، عمّ الحفل صمت جليدي، كما لو أن أحدهم سكب عليه دلوا من الماء البارد.
كلمات الإمبراطور كانت صريحة إلى حد مفرط.
فتلقف زافيير الحديث ببراعة، وعلى وجهه ابتسامة واثقة:
“أرجو أن تعتني بها جيدًا، إنها خطيبتي.”
ومدّ يده نحو باليريان كمن يعرض مصافحة.
شعرت إيف أن رأسها يدور. كانت تظن أن الإعلان عن الخطوبة سيتم بعد تبادل بعض المجاملات، حين تخف حدة التوتر.
لكن القنبلة سقطت أسرع بكثير من الموعد المتوقع.
والأسوأ من ذلك، أنه كان عليها الآن أن تواكب هذا الإيقاع.
‘أنا من اقترحت هذا منذ البداية.’
لم يخطر ببالها أبدًا أن يساندها الإمبراطور بهذه السلاسة.
ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم رفعت رأسها بثبات. لم يكن من الحكمة أن تتراجع في هذه اللحظة.
عليها أن تُظهر أن الخطوبة تمّت بإرادتها.
وبينما كان باليريان يتجاهل يد زافيير ولا ينظر إلا إليها، فتحت إيف شفتيها أخيرًا:
“أرجو أن تعتني بي، سيد لودفيغ.”
وحين نظرت إلى باليريان مباشرة، شعرت براحة غامرة تتسلل إلى قلبها.
‘الحمد لله، يبدو أنه تعافى.’
لم تظهر عليه أي إصابة تُذكر. كانت قد سمعت أنه جُرح أثناء معركته مع الشيطان وكان يتلقى العلاج، وقد أقلقها ذلك بشدة.
خشيت أن تترك الإصابة آثارًا طويلة المدى.
رغم أنها ظنت أنه كبطل لن يتأثر، فإنها لم تهدأ حتى رأته بعينيها.
والآن، اختفى كل قلقها كما يذوب الجليد تحت الشمس.
تنفّست الصعداء وأرسلت ابتسامة رقيقة وهي تمسك طرف فستانها وتُحيي الحضور:
“أنا إيف إستيلّا، خطيبة ولي العهد.”
وعلى وقع كلماتها، كأن مشاعر باليريان انفجرت دفعة واحدة، وانبعث منه غضب قاتم اجتاح القاعة بأكملها.
حتى زافيير تصلّب جسده لشدة البرودة التي خيمت على المكان.
رغم قراءتها لهذا الجو الثقيل، لم تفقد إيف ابتسامتها الهادئة.
“قلت إنني سأكشف لك عن مشاعري، أليس كذلك؟ ها هي.”
“هذا هو… صدق مشاعركِ؟“
خرج صوته خفيضًا كمن يحاول كبح جماح بركان يغلي بداخله.
رغم نبرته الهادئة، كانت إيف تعرف جيدًا أنه يقمع مشاعره بقوة خارقة.
“نعم، هذه مشاعري الحقيقية. آسفة، لكن الأمور سارت على هذا النحو. أليس من الأنانية أن نتوقع من القلب أن يظل ثابتًا دائمًا؟ ستجد من يناسبك، يا سيد لودفيغ.”
كانت كلماتها بمثابة طعنة، لا يُمكن تفسيرها إلا بأنها قاسية إلى حد مؤلم.
حتى زافيير، الذي شارك في خطوبة مزيفة، لم يستطع إلا أن يهزّ رأسه ساخطًا في سره.
رغم ذلك، لم ترفّ لإيف عين، وقالت كل ذلك أمام الجميع بثقة.
قالتها لذلك الرجل الذي وهبها نصف ثروته وجلب لها أعظم إكسير… خطيبها، لا….خطيبها السابق.
أدرك زافيير حينها من جديد، أنها كانت جادة حين قالت إن سمعتها لا تعني لها شيئًا.
وأنها ليست امرأة عادية أبدًا.
“… هكذا إذن.”
ارتسمت على شفتي باليريان ابتسامة باهتة. وساد الصمت القاعة مجددًا. الجميع كان يحدق في الآنسة إستيلّا بحذر وقلق.
الأجواء كانت مشحونة حتى كأنها ستنفجر في أية لحظة.
ابتسامة باليريان الجليدية بثت قشعريرة في القلوب.
حتى إيف، رغم أنها توقعت ذلك شعرت بانقباض في صدرها.
لكنها أخفت اضطرابها تحت قناع من السكون والهدوء، كأنها بِركة ساكنة في ليلة ساكنة.
انبهر النبلاء بهالتها الغامضة. لم يسعهم سوى الاعتراف…
بأن باليريان لودفيغ لم يخترها عبثًا.
كانت تملك جاذبية خاصة، تُبهر الرجال والنساء على حد سواء.
ثم كان الإمبراطور هو من بدّد هذا التوتر القاتم.
“حقًا، لا شيء يصعب فهمه كقلب الإنسان. والآن، فلنعد إلى الاستمتاع بالحفل.”
وأشار إلى الفرقة الموسيقية في أحد أركان القاعة.
فانبعثت أنغام راقية وملأت الأرجاء، لتُعيد بعض الدفء إلى الجو الثقيل.
وبينما تتنفس القاعة من جديد، تبادلت إيف وزافيير نظرات سريعة.
وما إن تلقى زافيير نظرتها حتى مدّ يده إليها.
“هل تودين أن نرقص سويًا؟“
“سيكون ذلك رائعًا.”
أمسكت إيف بيده واتجها معًا نحو ساحة الرقص.
وكانت أعين النبلاء لا تزال معلقة بهما، متشابكة بين الدهشة والتساؤل.
لكن إيف لم تشعر بشيء.
في عقلها لم يكن هناك إلا وجه باليريان وابتسامته الجليدية.
ومع دخولهما إلى ساحة الرقص، تبدّلت الموسيقى إلى إيقاع الفالس.
“هل تجيدين الرقص؟“
“أتستخف بي؟ يمكنني حتى أن أرقص مكان ولي العهد.”
تفاجأ زافيير من قدرتها على أداء دوري الرجل والمرأة معًا، ونظر إليها بدهشة.
فشعرت إيف بعدم الارتياح.
“ما الذي يدهشك هكذا؟“
“لم أتخيل أنك تستمتعين بالرقص.”
“جرب أن تقضي أيامك حبيس مكتبك دون توقف. عندها، كل شيء سيكون ممتعًا ما عدا العمل.”
“… قد يكون الأمر كذلك بالفعل.”
لكن وجهه لم يكن مقتنعًا تمامًا.
‘يا لهذا الرجل… عمله هو كل ما في حياته.’
كادت تخرج منها نظرة اشمئزاز، لكنها بدلاً من ذلك ابتسمت له بابتسامة ساحرة، كأنها أسعد من على وجه الأرض.
ثم رمقت القاعة من فوق كتفه… لكن باليريان كان قد اختفى.
“هاه…”
تنفّست الصعداء أخيرًا.
فرآها زافيير وتبسّم ساخرًا قليلًا.
“يبدو أن نظرات باليريان ترعبك أكثر من نظرات كل هؤلاء النبلاء.”
وكان زافيير محقًّا تمامًا. فلم تحاول إيف إنكار ذلك.
“إن كنتِ تبحثين عنه، فقد خرج إلى الشرفة قبل قليل. يبدو أن خطتكِ نجحت تمامًا.”
“… هل حقًا نجحت؟“
إن فكّر المرء في ما آلت إليه الأمور الآن، لكان من الطبيعي أن يشعر بالفرح.
لكن، لسببٍ ما… لم تشعر بأي سعادة.
كافحت إيف لتكبح مشاعر الكآبة التي بدأت تلوح في صدرها، ثم رسمت على وجهها ابتسامة مشرقة، متظاهرة بالسعادة.
عندها، راح زافيير يحدّق بها مطولًا.
“ولمَ تنظر إليّ بهذه الطريقة؟“
“كنت فقط مذهولًا من قدرة إنسان على صنع مثل هذا التعبير… لذا ظللت أنظر.”
نبرته كانت هادئة وخالية من أي سخرية، ولهذا السبب تحديدًا شعرت إيف بالاستفزاز أكثر، فعبست بانزعاج.
“يبدو أنك تزداد صراحة مع الوقت. ألا تعرف مقولة: كل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده؟“
“السبب أنني التقيت مؤخرًا بأكثر الأشخاص صدقًا أمامي. الإنسان يتأثر بمن حوله كما تعلمين.”
“من كان ذاك الشخص، أنصحك بالابتعاد عنه فورًا.”
رغم أن عبارته كانت تشير بوضوح إلى إيف، إلا أنها تجاهلتها بكل بساطة. عنده وأثناء توافق خطواتهما في الرقص، تحدث زافيير:
“بصراحة، لقد أثرت إعجابي قبل قليل.”
كلماته غير المتوقعة جعلت إيف تميل برأسها باستغراب.
‘قبل قليل…؟‘
لم يكن واضحًا أي لحظة يقصد تحديدًا.
“حين واجهتِ باليريان. أداؤك المتقن، ولباقتك في التصرف… يبدو أن عليّ أن أتعلم منك. اتّخاذ قرار بارد وحاسم كهذا، بطعن حبيب أحببته خمس سنوات دون أدنى تردد… شيء مذهل.”
“كان من الأفضل أن تشتمني.”
“لكني جاد. أتمنى أن أتعلم تلك الصفة حقًا. فحين يحين وقت اتخاذ قرار كبير، لا يوجد ما هو أخطر من أن أفقد هدوئي وأقع تحت تأثير العاطفة.”
حينها فقط فهمت إيف ما يقصده، ولم تجد ما تقوله فصمتت.
وانتهت مقطوعة الموسيقى.
وما إن غادرت إيف أرض الرقص حتى تمتمت بهدوء:
“أن تعتبر ما حدث الآن درسًا يجب أن تتعلم منه… لا بد أن الحياة صعبة حقًا.”
زافيير لم يرد. بدا أن ما جرى أثقل عليه هو الآخر، فرفع كأس الشمبانيا برتابة ونظر إلى السائل بنظرة ساهمة.
في تلك اللحظة، عاد باليريان من الشرفة إلى داخل القاعة.
بدا مظهره مختلفًا عمّا كان عليه سابقًا، شعره وثيابه كانا مبعثرَين قليلًا.
وما إن تركزت أنظار النبلاء عليه حتى لاحظته إيف أيضًا. لم يكن من الممكن تجاهله.
في تلك اللحظة، تذكّرت إيف شيئًا…
ما قاله لها شقيقها نواه صباح اليوم:
“فاجئيه أمام الجميع، وقومي بخطوة جريئة.”
“……من تقصد؟“
“زافيير، طبعًا!”
وإن كانت ستنفّذ تلك النصيحة، فليس هناك لحظة أنسب من الآن.
ترددت للحظة، ثم همست إلى زافيير:
“سمو الأمير، نحن مخطوبان، صحيح؟“
“… ولمَ تسألين هذا الآن؟“
نظر إليها زافيير بقلق، وكانت نظراته تقول إنه متأكد أنها على وشك ارتكاب شيء جنوني.
“بما أننا مخطوبان، من الأفضل أن نُظهر ذلك بوضوح. دعنا نتظاهر بأننا نقبّل بعضنا. بسرعة!”
لاحظت إيف أن باليريان يحدّق باتجاههما، فأسرعت تهمس إلى زافيير.
“أ–أن نتظاهر؟ وكيف من المفترض أن—؟!”
ارتبك زافيير ولم يعرف ما يفعل، فزفرت إيف بضيق ووقفت على أطراف أصابعها، ثم جذبت وجهه نحوها بقوة…
ترجمة : سنو
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 22"