هذه المرة، لم تغادر إيف المكان فورًا. لم تكن ترغب في توديع باليريان وكأنها تهرب منه.
فهذا كان آخر ما يمكنها فعله من ما تحمله من احترام له.
ومع ذلك كانت الابتسامة لا تزال مرتسمة على شفتي باليريان.
“هذا النوع من المزاح ليس مضحكًا يا إيف.”
كانت عيناه الزرقاوان الموجهتان نحوها تحملان شيئًا عميقًا. ولم تكن إيف تعرف في تلك اللحظة…
ما هو نوع الشعور الذي كانت تحمله تلك النظرة.
“ليس مزاحًا يا باليريان.”
ظنّت فقط أنه وصف الموقف الغريب هذا على أنه مزحة بسبب غرابته.
فتحدثت إيف بصدق، تمامًا كما تدربت عليه.
“أود أن أعيش حياتي وأنا أمنح الحياة والنعمة التي حصلت عليها للآخرين أيضًا.”
“لكن هذا لا يتطلب أن تصبحي راهبة، أليس كذلك؟“
…هذا صحيح.
تفاجأت إيف قليلًا من رد باليريان المنطقي أكثر مما توقعت، لكنها تابعت الحديث بثبات.
“لكنني… أريد أن أكون أقرب إلى الحاكم.”
وبما أن الأمر وصل إلى هذا الحد، لم يكن سيئًا أن تبدو كمؤمنة متطرفة.
وفكرت أن محاولة ترك انطباع جميل في آخر لحظة كانت ضربًا من الأنانية.
نظرت إليه بابتسامة خفيفة تحمل مسحة من الجنون.
ظنّت أن هذا سيكون كافيًا ليتراجع، لكنه لم يظهر أي ردة فعل.
ظلت عيناه الزرقاوان تحدقان بها بهدوء تام.
وفجأة، شعرت بشيء مريب يزحف إلى قلبها. كان شعورًا مختلفًا عن المعتاد، أكثر عمقًا وثقلاً.
وكأن الأمور بدأت تنحرف حقًا.
‘…لا يمكن.’
توقفت أفكار إيف فجأة عند احتمال خطر.
منذ قليل، ورغم أنها أبلغته بنيّتها دخول الدير، بقي باليريان هادئًا على نحو غريب.
‘لكن، ماذا لو…’
‘ماذا لو كان يعرف بالأمر منذ البداية؟‘
ماذا لو كان يعلم بالفعل أنها قد سجلت في الدير؟
‘لا، هذا مستحيل.’
لكن لم يكن هناك وسيلة لباليريان لمعرفة ذلك.
حلّلت إيف الموقف بعقلانية، وأبعدت هذا الاحتمال عن ذهنها بشق الأنفس.
“أعتقد أن كونك فارسًا يخدم الحاكم، تستطيع أن تفهم مشاعري إلى حد ما.”
“……..”
لم يجب باليريان، لكن إيف كانت تعرف أن صمته هذا علامة على موافقته.
ففي الرواية الأصلية، وُصف فاليريان على لسان البطلة بـ“الفارس المقدس النقي والمتدين أكثر من أي أحد“.
ولولا امتلاكه هذا الإيمان وهذه الروح التضحية، لما استطاع أن يخاطر بحياته ويقاتل الشياطين.
لقد وُلد بقوة الشمس، القوة التي تؤهله لمحاربة الشياطين منذ صغره.
لكن، حتى مع تلك القوة، لم يكن القتال ضد الشياطين أمرًا يسيرًا، إلا لمن كان يملك عزيمة راسخة.
‘إنه شخص مختلف عني في الجوهر.’
فمن حيث القوة السحرية وحدها، لا يُعتبر السحرة خطرين على البشر.
لكن استخدام الساحر لقوته هو ما يحدد ما إذا كان نعمة للبشر أو لعنة عليهم.
منذ مئة عام، كاد السحرة أن يُفْنوا البشرية بفتح بوابة تحت الأرض تعجّ بالشياطين من خلال دوائر الاستدعاء.
‘رغم أن والدي ينكر ذلك بشدة…’
غير أن العالم بأسره كان يؤمن إيمانًا راسخًا بأن السحرة هم المسؤولون عن تلك الكارثة.
وفي مثل هذا الوضع، فإن أفضل وسيلة لمنع تكرار تلك الكارثة كانت قتل السحرة.
وياليريان الذي يعرف ذلك أكثر من أي أحد، ماذا سيكون رد فعله إن عرف حقيقتها؟
من المؤكد أنه لن يقف مكتوف اليدين.
“أريد أن أسألك مرة أخرى يا إيف.”
أخيرًا تحركت شفتا باليريان.
“هل هذا ما ترغبين به فعلًا؟“
انخفض صوته بهدوء على مسامعها. رمشت إيف وقالت ببساطة:
“نعم، أشعر بسعادة لأنني أدركت هذا الأمر أخيرًا. لو كنت قد علمت مسبقًا كم هو نبيل ومجيد أن أهب روحي للحاكم… لما وافقت على خطوبتنا من الأساس.”
جمعت يديها ونظرت إليه مجددًا بنظرةٍ اعتذارية.
“أنا آسفة… تجاهك.”
“…إيف.”
كان صوته حين نطق اسمها هادئًا لدرجة مخيفة. وشعرت فجأة أن الهواء من حولها صار أكثر برودة.
“هل تظنين حقًا أنني سأصدق هذا الكلام؟“
رفعت إيف ببطء عينيها نحوه مرة أخرى.
ولمّا التقت نظراتهما، أدركت أن هناك شيئًا خاطئًا.
لم ترَ من قبل تعبيرًا باردًا على وجهه كما هو الآن.
في أجواء ثقيلة يصعب فيها الحديث، قالت أخيرًا بصوت خافت:
“التصديق أو عدمه أمر يعود لك. ليس لي شأن بذلك.”
“هذا الوضع مزعج يا إيف. هناك حدود لقدرتي على التظاهر بالجهل.”
مرت على شفتيه ابتسامة ملتوية وهو ينظر إليها.
‘ماذا…؟ ابتسامة ملتوية؟‘
نظرت إليه بعينين مرتجفتين. بدأت تتساءل إن كانت في حلم.
عضّت باطن خدّها لتتأكد… وكان الألم حقيقيًا.
‘ما هذا بحق الخالق… ألم يكن دائمًا شخصية مشرقة؟!’
شعرت إيف بالارتباك. حتى في الرواية الأصلية، عندما كانت البطلة بين الحياة والموت، لم يغضب باليريان بهذا الشكل.
‘قلت إنك كنت تتظاهر بالجهل…؟‘
ما الذي يعنيه بذلك؟ شعرت إيف بخفقان في قلبها وهي تلتقط ما بين سطور كلماته.
‘لا يمكن… هل يعرف حقيقتي؟‘
لا يمكن أن يعرف حقيقتها. لم تكن هناك طريقة ليعرف. فحتى إيلا يمكنها اكتشاف استخدام السحر، لكنها لا تستطيع تمييز نوع القوة التي يملكها الشخص.
‘لو كان يمكنها التمييز مثل القديسة، لكان كل شيء في الرواية حُلّ من البداية.’
(*إيلا لعلها قُدرة/مهارة .)
“نعم، كنت أحاول التظاهر بالجهل، لكن لم أعد أستطيع.”
وفجأة، أمسك باليريان بيد إيف وانتزع شيئًا منها.
“أ–أعده لي!”
شهقت إيف من الصدمة. لقد نزع منها خاتم العفّة.
وبدون ذلك، لا يمكنها دخول الدير.
“لن أعيده لكِ حتى تخبريني السبب الحقيقي وراء هذا يا إيف.”
كان باليريان ثابتًا لا يتزحزح.
عضّت إيف شفتيها بقلق، لم تكن تتوقع أن يصل الأمر به إلى هذا الحد.
ومن تصرفه، فهمت ما أدركه.
“…كنت تعرف بالفعل أنني سجلت في الدير.”
ما كان مؤكدًا، هو أنه علم بحقيقة تسجيلها في الدير.
لا تعرف كيف عرف… لكنها فكرت أن تسأله، ثم توقفت فجأة.
لأنها أدركت أن هناك طريقة واحدة فقط ممكنة.
“لا يمكن… هل وضعت جاسوسًا عليّ؟“
نظرت إليه إيف بعدم تصديق. لم تكن تريد أن تصدق ذلك.
لكن باليريان لم يُنكر، بل قابل كلامها بالصمت.
رغم أن إيف كانت تود أن تفسّر ذلك الصمت على أنه رفض، إلا أنها أدركت جيدًا أنه كان اعترافًا واضحًا.
“لماذا قد تفعل شيئًا كهذا…؟!”
قالتها بدهشة وهي تحدّق فيه بعينين مذهولتين، وقد عجز لوهلة عن التعبير.
فأجابها باليريان بوجه خالٍ من التعابير، وقد كان يراقبها بهدوء طوال الوقت:
“برأيك، لماذا فعلت؟ يا إيف.”
“… ولماذا فعلت؟“
نظرت إيف في عينيه الزرقاوين، ولأول مرة لم تستطع أن تقرأ ما يفكر فيه.
“ألم تقولي لي في البداية إن عائلتك قد سقطت وإن علينا فسخ الخطبة؟“
لم تفهم لماذا يعيد هذا الكلام الآن، بل لم تكن تفهم ما يجري أصلًا. فكل ما يحدث بدا غريبًا ومربكًا.
قالت بهدوء، محاولة أن تبقى متماسكة:
“آه… إن كان الأمر يتعلق بنقل الملكية أو المال، فلا تقلق، سأعيده إليك. لا أريد مالًا نلته بالخداع، ولن أشعر بالارتياح إن احتفظت به.”
رغم محاولاتها فهم ما يدور في رأسه، لم تجد إلا هذا الاحتمال.
لكن باليريان ظل يحدّق بها بصمت، دون أن يبدّل نظرته ولو قليلًا.
ثم قال وهو يقترب منها ببطء، بصوت أقرب إلى الهمس:
“تلك الرسالة، يا إيف… أنتِ من كتبتها، أليس كذلك؟“
“…!”
توقّف نفسها للحظة دون أن تشعر. لم يقل صراحة أي رسالة، لكن إيف فهمت فورًا أي رسالة يقصد.
لم تكن هناك إلا رسالة واحدة كتبتها نيابة عن الكونت إستيلّا بخصوص التنازل عن الأملاك.
“ما الذي تقصده…؟ لا، لحظة.”
كادت تتظاهر بعدم الفهم، لكنها سرعان ما صمتت. لم يعد للإنكار معنى. بلعت ريقها ونظرت إليه بثبات.
“كنت تعرف؟“
“نعم، أنا من عثر عليها.”
“…….”
شعرت كأن أحدهم ضربها على رأسها بشيء ثقيل.
أن يكتشف باليريان أنها من كتبت تلك الرسالة بنفسها… لم يكن احتمالًا خطر لها يومًا.
ما كانت تظنه حقيقة تبيّن أنه مجرد وهم. وكان تأثير ذلك عليها أشد من صدمتها عندما اكتشفت أنها ساحرة.
رآها عاجزة عن الكلام، فتابع بهدوء:
“اطمئني، لم أخبر أحدًا بأن الخط في تلك الرسالة هو خطك.”
“… حسنًا.”
لم تستطع أن تشكره، فاكتفت بإيماءة صغيرة برأسها.
ظل يراقبها بصمت، ثم انحنت عيناه قليلًا، وتكلم بنبرة لطيفة:
“لذا، بالنسبة لفسخ الخطبة… لن أقبل بذلك أبدًا.”
قال عبارته بابتسامة مشرقة، بنفس الطريقة التي استخدمتها هي منذ قليل لإعلان الانفصال.
“……”
“يبدو أنكِ لستِ في أفضل حال اليوم، فلنكمل هذا الحديث غدًا. عودي بحذر يا إيف.”
قالها بلطف وهدوء، بنفس أسلوبه المعتاد، كأن شيئًا لم يحدث.
عادت إيف إلى عربة القصر وهي شاردة الذهن، لا تزال غير مصدقة لما جرى.
وكانت في يدها، تلك الحلقة الحمراء — خاتم العفة الذي صُمم خصيصًا لها وله، والذي أعاده إليها للتو.
ترجمة : سنو
انستا : soulyinl
واتباد : punnychanehe
التعليقات لهذا الفصل " 14"