الفصل 11
استيقظتُ فجأةً من نومٍ متقطّع.
ربّما كان ذلك بسبب القلق الذي يُسبّبه المكان الغريب.
بينما كنتُ مستلقيةً في حالة ذهول، شممتُ رائحة طعام خافتة.
يبدو أنّه كان وقت الإفطار.
كان ليو منهكًا جدًا من تعب الحبس، فبقي نائمًا بعمق حتّى سمع صوت أدوات الإفطار.
أمّا أنا، فقد بدأت أشعر بألم شديد في الأماكن التي ضُربتُ فيها بالأمس، فتمدّدتُ وأنا أتأوّه.
بسبب الأرضيّة الصّلبة، كان ظهري يؤلمني وجسمي يعاني مهما تغيّرت وضعيّتي.
بينما كنتُ أتقلّب وأتأوّه، يبدو أنّني أيقظتُ ليو، ففتح عينيه فجأةً وتمطّى بقوّة.
“هل نمتَ جيّدًا؟”
“أختي!”
ما إن استيقظ حتّى بدأ يعانقني وهو يفرك وجهه بي.
“أختي، أنا جائع.”
“جائع؟ هل نأكل؟”
ثمّ أخرجتُ الخبز الذي أعطاني إيّاه دانيال بالأمس.
كان شكلها قد تكسّر وجفّ تمامًا وأصبحت في حالة يرثى لها، لكن في هذه الظّروف، كان مجرّد وجود شيء لملء البطن نعمة.
‘يبدو أنّ السّيّدة ميلر لا تنوي إطعامنا.’
وإلاّ لما تركتنا حتّى الآن دون قطرة ماء بعد انتهاء وقت الإفطار.
‘قالت ثلاثة أيّام، لنصبر ثلاثة أيّام فقط.’
في تلك الأثناء، راودني قلق آخر.
ماذا لو اضطرّ ليو للبقاء هنا معي لثلاثة أيّام؟
‘أنا وحدي من يستحقّ العقاب.’
لا أريد أن يعاني ليو في هذه الغرفة الصّغيرة.
أتمنّى أن يخرج أخي الصّغير ليأكل ويلعب مع الأطفال الآخرين.
هل أتوسّل ليُسمح له بالخروج؟ أم أهدّد بشيء؟ لكن بماذا يمكنني أن أهدّد؟
بينما كنتُ غارقةً في التّفكير، هزّ ليو ذراعي.
“أختي، أختي!”
“آه، نعم. قلتَ إنّك جائع، أليس كذلك؟ هيّا نأكل الخبز.”
مزّقتُ الخبز الجافّ بقوّة.
نظرتُ إلى ليو خلسةً.
كان من الممكن أن يُظهر امتعاضًا بسبب حالة الخبز السيّئة، لكنّه إمّا لصغر سنّه أو لأنّه يأكل أيّ شيء، لم يبدُ متضايقًا.
“لا ماء لدينا، لذا امضغ جيّدًا، حسنًا؟”
“حسنًا!”
بدأ ليو يمضغ الخبز بنهم.
راقبته وأنا أستند بحذر إلى الحائط.
‘سأموت من الألم.’
كان جنبي يؤلمني، وعضلاتي وعظامي، لا مكان في جسدي خالٍ من الألم.
“ألن تأكلي يا أختي؟”
“كُل أنتَ يا ليو، أنا لستُ جائعة.”
“لكن…”
نظر ليو إليّ بحذر.
“معدتي ليست على ما يرام، سأكون سعيدة إذا أكلتَ كلّه.”
كنتُ صادقةً، فالألم جعلني أفقد شهيّتي.
عند سماع كلامي، أومأ ليو برأسه وبدأ يمضغ الخبز الجافّ.
مقارنةً بالخبز الذي كنّا نأكله في البيت، كان هذا الخبز رديئًا جدًا، لكنّ ليو لم يشتكِ.
‘من حسن الحظّ أنّ ليو يأكل أيّ شيء بسهولة.’
على عكس ليو الذي يأكل ما أقدّمه له بنهم، كان دانيال حسّاسًا جدًا، فلا يكاد يأكل شيئًا.
لذلك، كان جسده النحيل أصلًا قد أصبح هزيلًا كأنّه لم يبقَ منه سوى العظام.
‘لا أعرف، لا يمكنني التّفكير في هذا الآن.’
الآن، مجرّد الصّمود هنا أمرٌ شاقّ بما فيه الكفاية.
أغمضتُ عينيّ اللتين بدأتا تثقلان.
بعد أن أكل ليو الخبز حتّى فتاته، تمدّد مستندًا إلى ركبتيّ.
“هل شبعت؟”
“نعم، أختي، متى سنخرج من هنا؟”
“همم، لا أعرف بالضّبط. لكن، يا ليو، نحن الآن نلعب لعبة الاختباء، أليس كذلك؟”
“الاختباء؟”
“نحن مختبئون في غرفة المخزن لنهرب من وحش. هذا الوحش يسيطر على عقل الجدّة الشريرة ويجعلها تقول كلامًا سيّئًا.”
“آه! لهذا أصبحت جدّةً شريرة!”
“بالضّبط، أنا وليو نلعب الاختباء الآن حتّى يهدأ الوحش.”
“إذًا، يجب أن نهزم الوحش، أليس كذلك؟”
كان هذا الكلام متوقّعًا من شخصيّته الجريئة.
مرّرتُ يدي بلطف على شعره وهو مستلقٍ على رجليّ وأجبتُ:
“هذه اللعبة يفوز بها من يصبر أكثر. يا ليو، أتعرف أبطال كرونون القدماء؟ الأبطال كانوا يتحمّلون الصّعاب جيّدًا.”
“سأكون بطلًا! يمكنني الصّبر جيّدًا!”
“بالطّبع، ليو سيكون بطلًا، هذا أمرٌ مفروغ منه!”
بدأ ليو يؤمن أنّه إذا صبر حتّى يخرج من غرفة العقاب، سيصبح أعظم بطل في العالم.
ربّما بسبب الألم الذي شعرتُ به بالأمس، أو بسبب نومي المتقطّع، شعرتُ بالنّعاس.
كنتُ أغفو كالدّجاجة المريضة، ثمّ ألعب مع ليو لعبة الكلمات، ثمّ أغفو مجدّدًا، وهكذا.
مرّ اليوم على هذا النّحو.
في منتصف اليوم، جاءت ماتيلدا بزجاجة ماء قالت إنّ السيّدة ميلر أمرتها بإحضارها، فشربنا منها.
وعندما حلّ اللّيل، عاد دانيال لزيارتنا.
“أختي! يجب أن أعود بسرعة، خذي هذا أوّلًا!”
دفع دانيال الخبز عبر القضبان وغادر مسرعًا لسببٍ ما.
عندما أشرقت الشّمس، استيقظ ليو أوّلًا وبدأ يلوي جسده في غرفة العقاب الضّيقة.
يبدو أنّه بسبب نشاطه الكبير، كان حبسه هنا أمرًا صعبًا جدًا.
“ليو، هيّا نأكل.”
مزّقتُ الخبز الذي أعطاني إيّاه دانيال بالأمس وأعطيته له.
كان الخبز جافًا وصلبًا جدًا، فبلّلته بالماء المتبقّي حتّى أصبح طريًا بما يكفي لأعطيه إيّاه.
“لكن، متى سيأتي أخي الأكبر؟”
“آه، هل تشتاق إلى إدوارد؟”
“أحبّ أخي الأكبر أكثر من أخي الثاني. أخي الأكبر كان يعطيني الحلوى سرًا. أمّا أخي الثاني فهو مجرّد مزعج.”
يبدو أنّ ليو قرّر التّغلب على الملل بالدّردشة، فبدأ يتحدّث بلا توقّف.
“أختي إذا تقاتل سرعوفٌ ودبور، من سيفوز؟”
“لو أصبحتِ خنفساء، ماذا ستفعلين؟ أنا لو أصبحتُ دبورًا، سألسع أخي الصّغير في مؤخرته.”
“لو حملتُ بطانيّة وقفزتُ من الطّابق الثّالث، هل سأطير مثل الطّيور؟”
كان لديه الكثير ليقوله، طرح عشرات الافتراضات العشوائيّة، وهمس في أذني، ثمّ ضحك بصوتٍ عالٍ مرّات عديدة، لم يتوقّف أبدًا.
ثمّ، في سياق ما، قال ليو:
“أختي، أنا أحبّكِ جدًا.”
“نعم…؟”
“أحبّكِ أكثر من أخي الثاني وأخي الأكبر.”
ثمّ بدأ يتصرف بدلال وهو يحتضنني.
لا أعرف متى سيتوقّف عن تصرّفه كطفل صغير، لكن في هذه اللّحظة، لم أستطع رفضه.
بالنّسبة إليّ، ليو أكثر من مجرّد أخ.
وكما أنا بالنّسبة إليه أكثر من مجرّد أخت.
“أختي، سأكبر بسرعة وأحميكِ من الأشرار.”
كلام عابر من طفل صغير، لكنّه كان جميلًا لدرجة أنني تأثّرت.
‘يا للرّوعة، متى كبر هكذا؟’
عندما وُلد، كان صغيرًا جدًا، أحمرَ ومجعّدًا مثل قرد صغير.
“أختي، أحبّكِ!”
قال ليو بنبرة مليئة بالدّلال الخاصّ بالأخ الأصغر.
قبّلتُ جبهته وطبطبتُ على ظهره.
بعد فترة طويلة من أكل الخبز، سمعتُ صوت قرقرة من بطن ليو.
أنا كبيرة بما يكفي لتحمّل الجوع، لكن ليو لم يكن سوى طفل في الثّامنة.
ومع ذلك، ضحك ليو وهو يفرك بطنه كي لا يزعجني.
“ليو، هل أنتَ جائع؟”
“همم.”
فكّرتُ أنّه لا يمكننا البقاء هكذا، فقمتُ لأطرق الباب.
في تلك اللّحظة، سمعتُ صوت فتح القفل من الخارج، ثمّ انفتح الباب فجأة.
“اخرجي.”
“ماذا؟”
“من اليوم، أنتِ مسؤولة عن أخيكِ الوحش.”
“وحش؟”
“نعم، وحش!”
فهمتُ على الفور من يقصدون.
“دانيال ليس وحشًا.”
“هه، أيّ طفل في العاشرة يحفظ القوانين الإداريّة عن ظهر قلب، ويعرف من مجرّد عبارة واحدة أنها في أيّ كتاب وصفحة وسطر؟ جديًا، لم أرَ في حياتي وحشًا غريبًا مثله.”
“لا تتكلّمي هكذا!”
“على أيّ حال، اذهبي بسرعة واعتني بأخيكِ. تأكّدي ألّا يتكرّر ما حدث اليوم!”
“ماذا حدث؟”
“ستعرفين عندما ترين.”
أمسكتُ يد ليو بقلق وتوجّهتُ مسرعةً إلى غرفة الأولاد للبحث عن دانيال.
لم أحتج إلى التّدقيق في الغرفة، فقد كان دانيال وصبيّان آخران يقفان في الممرّ وأذرعهم مرفوعة.
“دانيال!”
“أخي الثاني!”
“…أختي؟”
عندما رآنا دانيال، فتح عينيه بدهشة.
لقد صُدمتُ أنا أيضًا.
كان وجه دانيال مليئًا بالكدمات المزرقّة، وبقع دم متجمّدة على شفتاه، وملابسه ممزّقة وملطّخة بالدّم والغبار.
يا إلهي، ما الذي حدث في غيابي؟
“ما هذا!”
لم أتمالك نفسي وصرختُ غاضبةً.
تجنّب دانيال النّظر إليّ وأنزل رأسه.
“هل أنتما من ضرباه؟”
تجنّب الصبيّان النّظر إليّ وبرزا شفتيهما.
على عكس دانيال، كان لديهما كدمة أو اثنتان حول العينين، لكنّهما لم يكونا ينزفان.
“لماذا ضربتماه!”
“هو من بدأ! قال إنّنا لا نعرف القراءة، وأنّنا عميان وأغبياء!”
“ليس صحيحًا، أختي، هم من قالوا إنّني وحش! وقالوا إنّكِ فتاةٌ غبيّة لأنّكِ تعارضين السيّدة ميلر!”
“أيّها الأوغاد!”
لم أتمالك نفسي وكدتُ أرفع قبضتي، لكنّني كبحتُ غضبي.
كنتُ أشعر بالغضب يغلي في صدري، وكنتُ أرغب في تعليقهما رأسًا على عقب وضربهما.
لكنّني عاقلة، وفي الرّابعة عشرة، أكبر منهما بكثير، فبذلتُ جهدي لكبح غضبي.
“لماذا يكون دانيال وحشًا؟ هو أذكى منكما بمئة مرّة، وأكثر ذكاءً بمئتي مرّة، فلماذا يكون وحشًا؟”
“صحيح! أخي ذكيّ جدًا!”
أضاف ليو تعليقًا من الجانب.
فنظرا إليّ الصبيّان بنظرة غاضبة.
“إذا كنتما أذكى منه، فلماذا تضربون النّاس هكذا؟ وبهذه الطريقة الجبانة، اثنان ضد واحد؟”
“…….”
“دانيال، أنزل يديك، أنتَ لستَ مخطئًا.”
“لكن…”
“يا إلهي، هم من بدأوا المشكلة وضربوك، فلماذا تُعاقب معهم؟ هذا لا يُعقل! انتظر، سأذهب لأتحدّث مع السيّدة ميلر!”
عندما هممتُ بترك ليو والذّهاب إلى السيّدة ميلر، أمسك دانيال يدي بسرعة.
“أختي، لا تفعلي، ستُحبسين مجدّدًا.”
“وهل أترك الأمر هكذا؟”
“أنا بخير.”
كذبة.
من بيننا نحن الأربعة أشقّاء، كان دانيال الأكثر حساسيّة وضعفًا.
لذلك، كبر كزهرة في دفيئة.
حتّى عندما كان يتشاجر مع إدوارد، كانت مجرّد مشادّات كلاميّة، وحتّى لو تشاجر مع ليو وضربا بعضهما، كانت مجرّد مشاجرات أخويّة لم تُسبّب إصابات كبيرة.
لو كان لديه قوّة ليو الطّبيعيّة وجسده القويّ، لكان الأمر مختلفًا.
لكنّه نحيل وصغير مقارنةً بأقرانه، ولا يمكنني قبول تعرضه للضرب من طفلين لوحده.
‘ومع ذلك، يطلبون منّي تهدئة دانيال!’
من يجب تهدئته هم هؤلاء الذين يسمّونه وحشًا، وليس دانيال.
كنتُ أطحن أسناني من الإستياء، وشعرتُ أنّ الغضب يكاد يخنقني.
“أنا لستُ بخير.”
“أختي…”
“لن أترك الأمر يمرّ هكذا، سأواجه الخطأ بوضوح، وسواء حبستني السيّدة ميلر أو ضربتني، هذا أمرٌ لاحق.”
قلتُ ذلك، لكنّني لم أفلت يد دانيال أوّلًا.
لأنّني لو فعلتُ، سيكون كأنّني أتصرّف وفق رغبتي دون احترام رأيه.
نظرتُ إليه بنظرة تطلب الموافقة.
تردّد دانيال طويلًا، ثمّ أفلت يدي بهدوء.
عبثتُ بشعره وابتسمتُ له.
“ليو، اعتنِ به جيّدًا.”
“حسنًا، لا تقلقي.”
تركتُ ردّ دانيال خلفي وتوجّهتُ مباشرةً إلى غرفة السيّدة ميلر.
✧ تـرجـمـة: مـيـل ~☆
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"