كانت أوّل مرّةٍ رآها فيها في حفل تنصيب جارديان.
اجتاز امتحان القبول بامتياز، وكان يستعد لإلقاء خطابٍ كممثل.
لم تكن الخطابات شيئًا مميزًا.
لكن حتى هذه المهمة التي تبدو تافهة، شعرتُ أنها عبءٌ ثقيلٌ على الكمال.
«امتيازاتٌ عظيمة. قد يبدو إنجازًا كبيرًا، لكنه أمرٌ طبيعي، مع اسمي خلف اسمك.»
لطالما كان رئيس الكهنة هكذا. لقد احتضن لُــو فانتي، الذي تُرك على الجبل الثلجي، لكنه لم يُعطِه حبًّا أبويًا.
«لا تتوقّع الثناء. التوقعات تُعطَى للعاجزين. أنا لا أهتم إلّا بالنتائج.»
لطالما ضغط رئيس الكهنة على لُـو فانتي لتحقيق نتائج مُرضية، وهكذا اضطر لُــو فانتي إلى عيش حياةٍ من الكفاح المستمر، متعطّشًا للنجاح.
«اغتنم هذه الفرصة لتثبت للجميع أنكَ نشأتَ على يدي، وبالتالي، لن تُخطِئ.»
تشبّث لُــو فانتي بالورقة التي كُتب عليها الخطاب بشدّة.
شعر بأنفاسه تخنقه.
شعر وكأن أحدهم يقبض على قلبه، وعقله فارغ.
امتلأ رأسه بضجيجٍ هائل، وشعر بأنه عالقٌ في فوضى عارمة، وكأن العالم ينهار.
تشوّش بصره، وتشابكت الأصوات من حوله.
في تلك اللحظة، اقترب منه أحدهم.
أوّل ما لفت انتباهه كان شعرًا ورديًا.
كان الشعر الناعم الرقيق، يتطاير في الريح، يلمع بنعومة، ككائنٍ وحيدٍ لامعٍ في عالمٍ فوضوي.
ثم ظهرت عينان بنفسجيتان.
كان اللون البنفسجي الغامق غريبًا وغامضًا. حتى في خضمّ ضبابية العالم، ظلّت تلك العينان صافيتين.
نظرةٌ غريبة، لا دافئةٌ ولا باردة.
والمثير للدهشة أن تلك العيون لم تنظر إلى لُــو فانتي بشفقة.
“استخدم هذا. إذا تنفّستَ فيه، ستهدأ أسرع.”
وضعت كيسًا ورقيًا على فم لُــو فانتي وقالت.
“خُذ شهيقاً وازفُره ببطء. لا بأس. لا داعي للقلق. ستكون بخير.”
بدأ لُــو فانتي يتنفّس ببطء.
وبينما فعل ذلك، شعر بموجة الارتباك المفاجئة تهدأ تدريجيًا.
“أعلم، لقد مرّرتُ بهذا مرارًا وتكرارًا. إنه هذا النوع من الأعراض.”
ربّتت على كتف لُــو فانتي وقالت.
كانت يدها دافئة.
دافئةٌ ولطيفة. وفي الوقت نفسه، كانت ثابتةً وحازمة، كما لو كانت تقول له إنه يستطيع الاعتماد عليها.
كما لو كانت تسحبه من الظلام إلى النور.
كم من الوقت مضى؟
بعد أن شعر ببعض الراحة، استعاد لُــو فانتي وعيه أخيرًا. أزال الكيس من فمه وأخذ نفسًا عميقًا آخر.
كان شعوره بالراحة لتحسّن الأمور عابرًا. شعر بالحرج من ظهوره بهذه الحالة المبعثرة.
كان عليه أن يشكرها.
لكن الكلمات لم تأتِ بسهولة. تنهّد لُــو فانتي لفترةٍ قصيرةٍ ودحرج عينيه.
“شكرًا لكِ…”
“أوه، هذا ليس الوقت المناسب. سأذهب أولًا! اعتنِ بنفسك!”
لكن المرأة غادرت بسرعةٍ قبل أن يتمكّن من إلقاء التحية.
“انتظـ …”
بقي وحيدًا، وراقب ظهر المرأة وهي تبتعد، وشفتاه ترتجفان.
أراد أن يسأل.
كيف لشخصٍ مشرقٍ مثلكِ أن يفهمني؟
هل تعيشين نفس حياتي؟
لكنه لم يستطع.
كانت قد ابتعدت بالفعل، وكان على وشك الصعود إلى المنصة لإلقاء خطابه.
طوى لُــو فانتي الكيس الورقي الذي أعطته إياه المرأة بعنايةٍ ووضعه في جيبه الداخلي.
ثم وضع يده على جيبه من الخارج، مستعيدًا أنفاسه.
«لا بأس. لا داعي للقلق. أنتَ بخير.»
كرّر تلك الكلمات المطمئنة حرفًا حرفًا.
بعد شهرٍ كامل، علم أن اسم المرأة شاران.
* * *
“آغه … إنه يؤلمني بشدّة.”
انطلقت ضحكةٌ جوفاء من لُــو وهو يشاهد شارل تئنّ بمجرّد أن فتحت عينيها.
“بالتأكيد سيؤلمكِ. لقد أُصبتِ بهذا القدر من الجروح.”
“هل عليكَ حقًا قول ذلك؟ هل أنتَ قلقٌ حتى؟”
“كنتُ قلقًا، لذا حملتُ شارل كلّ هذه المسافة إلى هنا، أليس كذلك؟”
رفعت شارل رأسها أخيرًا ونظرت حولها. شمّت رائحة الدواء في الهواء، مما يوحي بأنها صيدلية.
كانت يدها ملفوفةٌ بإحكامٍ بالضمادات. بدا أن الطبيب كان هنا.
حاولت شارل تحريك يدها.
لحسن الحظ، كانت أصابعها الخمسة تتحرّك، مما يدل على عدم وجود تلفٍ في الأعصاب.
فيوه! تنفّست شارل الصعداء.
“شارل.”
تحدّث لُــو، الذي كان يحدّق بشارل بنظرةٍ فارغة.
“ما الذي كنتِ تفكّرين فيه بحق السماء؟”
“هاه؟”
“ما الذي كنتِ تفكّرين فيه بحق السماء، وأنتِ تهاجمين قطيع التماسيح، عزلاء بيدين عاريتين؟”
رمشت شارل ببطء.
ما الذي كانت تفكّر فيه؟
لم تكن هناك أيّ فكرة، حقًا.
“كان هناك طفل.”
كانت غريزة.
“كان يجب أن أنقذ الطفل.”
غريزة إنقاذ الطفل.
انطبعت في جسد شارل، غريزةٌ فطرية، لا يمكن تفسيرها.
لكن لُــو لم يبدُ أنه يفهم.
أو ربما فهم، لكنه لم يستطع استيعاب الأمر تمامًا. فتح لُــو فمه مجددًا، وكان تعبيره أكثر جمودًا من المعتاد.
“هل كنتِ تعرفين ذلك الطفل؟”
“امم. لا.”
“كنتِ ستموتين من أجل طفلٍ لا تعرفينه حتى.”
“في النهاية، أليس المهم أنه لم يمت؟”
بدت شارل، بتعبيرها الهادئ والمسترخي، مزعجةً للغاية. لهذا السبب كان لُــو غاضبًا.
كان هذا شعورًا قديمًا، غضبًا نابعًا من القلق والتوتر الذي لم يعد لُــو قادرًا على كبتّهما.
“شارل … أنتِ لا تفكّرين إلّا في النتيجة. لم تفكّري حتى في مدى الألم الذي ستتعرّضين له خلال هذه العملية.”
هل أنا أتألّم؟
نظرت شارل إلى جسدها.
إنه يؤلمني، لكن هذا ألمٌ أستطيع تحمّله.
لقد مررتُ بما هو أسوأ، فلماذا يتذمّر من هذا الألم البسيط؟
“أنا بخير.”
ردّت شارل بهدوء.
“لقد مررتُ بهذا مرّاتٍ عديدة. إنه ليس أمرًا خطيرًا للغاية. لذا…”
“شارل.”
ارتجفت عينا لُــو. تأمّل منظر شارل مجددًا. عضّ شفتيه، وكأنه يجبر كلّ كلمةٍ على الخروج.
“أنتِ دائمًا ما تُغضبيني.”
منذ أوّل مرّةٍ رأيتُكِ فيها إلى الآن.
استذكر لُــو ذكرياته.
في المرّة الثانية التي قابلها فيها.
⋄────∘ ° ❃ ° ∘────⋄
ترجمة: مها
انستا: le.yona.1
التعليقات