الانتقال إلى منطقةٍ لَمْ تطأها قدمها طوال اثنين وعشرين عامًا، والتعرض لصدمةٍ ـ لا تُعدّ صدمة ـ بسبب الرعاية المُفرطة التي كانت يشعّ منها الثراء، والبكاء طويلًا بين أحضان رجلٍ غريب…
لعلّ كثرة الأحداث التي مرّت بها هي ما جعلت ليتيسيا تشعر بأنَّ اليوم كان طويلًا للغاية.
وبعد عودتها مِن نزهةٍ قصيرة، غيّرت ملابسها إلى بيجاما ناعمة فور انتهائها مِن الاغتسال على عجل، ثم انهارت على السرير.
وتمكّنت مِن تذوّق معجزة النوم في غضون دقيقةٍ واحدة دوّن الحاجة إلى منوّماتٍ أو شموعٍ عطرية.
أما مراجعة عقد الاتفاقية الذي جلبته ماريانا، فقد أُرجئت بطبيعة الحال إلى اليوم التالي.
***
إنْ كانت الليلة هادئة لأحدهم، فهي تتطلبُ مِن آخر قدرًا كبيرًا مِن الصبر.
في صحراء ليل الساكنة إلى أقصى حد.
لا شيء سوى الرمال المُتلألئة تحت ضوء القمر الذي يمتدُّ إلى الأفق، لَمْ يُرَ فيها أيُّ كائنٍ حيّ، لكن فجأةً خُيّل ظلّ إنسانٍ على تلكَ الأرض.
كان القادم عبر السحر رجلًا فاتنًا إلى حدٍ يدفع المرء إلى إطلاق عليه وصف “جمالٍ يُبهِر تحت ضوء القمر” مِن دوّن تفكير.
كان لون عينيهِ يذكّر بالنار، لكن دوٍن أنْ ينبعث منهما أيُّ دفء، وقد ظلّ يُحدّق في بحر الرمال الذي لا نهاية له.
مضى وقتٌ لا يُعلم مداه منذُ أنْ وقف هُناك كمَن ألقى سنارته في النهر وظلّ شارِدًا.
وسط ذَلك السكون الخانق، امتزج صوتٌ خفيف كأنه نسمة ريح.
وفي اللحظة التي ارتسم فيها خطٌ باهت مِن الابتسامة على وجه الرجل الذي بدا جامد الملامح، اهتزّت الرمال تحت قدميهِ بشكلٍ هائل.
سحليةٌ ضخمة بحجم منزل، يغطي جسدها الشوك. كانت وحشًا معروفًا بسُمعتهِ السيئة في الغرب، ويُدعى سكيراشا، يمدّ لسانه الطويل وكأنه نادمٌ على تفويت فريسته.
“هاهاها، ما زال أمامكَ مئةُ عامٍ قبل أنْ تتمكّن مِن التهامي.”
شفاهٌ ملتوية بابتسامةٍ ساخرة.
أطلق سكيراشا لسانه الطويل كالسوط، نافثًا سمّه، غير أنْ جدارًا مِن النار أحاط بالرجل فجأةً وأوقف الهجوم.
بيب! بييب!
لَمْ يستغرق انتقال ألسنة اللهب الملتصقة بلسان الوحش إلى كامل جسده وقتًا طويلًا.
الدخان الأسود المُتصاعد مِن احتراق السم كان خانقًا، وصراخ الوحش المتألم وهو يحترق حيًّا كان مرعبًا، لكنّ عيني الرجل اللتين كانتا بلا دفء بدأت تنبعث منهما حرارةُ خافتة وكأنَّ مزاجهُ بدأ يتحسن.
ولَمْ يُزِد الرجل قوّة نيرانهِ إلّا بعدما لفظ الوحش أنفاسه الأخيرة.
توهّجت النار التي كانت بلونٍ قريب من لون عينيهِ باللون الأصفر، ثم الأبيض، وأخيرًا تحوّلت إلى لون أزرق شبيه بالظلمة التي تُحيط به. ولَمْ يتبقَّ في المكان الذي اختفى منهُ ذَلك الوحش العملاق سوى حفنةٍ مِن الرماد المتفحم.
“ليتَكَ كنتَ مِن النوع الذي يعيش في جماعات. لَكُنّا وفرنا على أنفسنا عناء البحث عنكم واحدًا تلو الآخر.”
تمتم بملل، غير أنَّ عينيه كانتا تتلألأ كطفلٍ وجد متعةً في لعبة الاختباء.
“اختبئ جيدًا، ولا تُرِني جسدكَ المُقزز ولا تلكَ المخالب التافهة.”
الوحوش التي اكتسبت أجسادًا وقدراتٍ غريبة بسبب السحر الملوّث، كانت تحتوي كل واحدةٍ منها على قدر مِن الطاقة السحرية، كبيرًا كان أو صغيرًا، وكان ذَلك الساحر العظيم يُجيد تعقّبها ببراعة.
منذُ البداية، كانت لعبة الاختباء محسومة النتيجة.
طَق طَق.
سواء كانت صخورًا صلبة أو أسلحةً فاخرة مِن صُنع أمهر الحرفيين، فإنَّ المخالب الحادة للوحش العقربي فيرديس قادرةٌ على تمزيقها كما يُمزَّق الورق، كما كان يحمل سمًا أشد فتكًا مِن سكيراشا.
كروك كروك.
ووَحش الخلد فينتوس الذي لا يتوقف عن مهاجمة فريسته ما دام قد استهدفها، ويجرّها إلى الجحيم المظلم تحت الأرض حيث تنتظره حرارة لا تطاق…
كلاهما، الليلة، لَمْ يكونا سوى فريسةٍ لنيرانٍ جامحة، لا وحوشًا تهدد باقي الكائنات الحية.
خطوة، خطوتان.
مع كل خطوة يخطوها الرجل، كان عبق الدماء يتسرّب إلى الرمال الناعمة كالثّلج.
طَق.
توقّفت خطوات ذَلك الطاغية حين التقط أذنه صوتًا يختلف قليلًا عن أصوات حركة الوحوش.
“جيرارد، أتيت لأنكَ ترغبُ في الموت؟ ماذا كنتَ ستفعل لو ظننتكَ وحشًا وأطلقتُ عليكَ السحر فورًا؟”
صوتٌ يحوي نبرةً باردة وابتسامةً مخيفة.
رُبما بسبب القتل والسحر المتصاعدين مع ذَلك الصوت، بدأت رؤية جيرارد تهتزّ قليلًا وشعر بالغثيان.
وما كان ليصل إلى هَذا القرب لولا كونه ساحرًا قويًا.
أما الإنسان العادي، فلو اقترب إلى هَذا الحد، لأغمي عليه مِن ضغط الطاقة السحرية العنيفة.
“لقد مضى نصف الليل، يجبُ أنْ ترتاح الآن، يا صاحب السمو.”
“تسك، كلامٌ لا تقصده فعلًا.”
أدار إيمريك رأسه وهو ينقر بلسانه، ثم أبصر جيرارد وهو يركع على ركبةٍ واحدة بانحناءة على الرمال المتذبذبة.
“أنتَ مِن النوع الذي يجلب المتاعب لنفسه. لذا تركتَ البرج الأحمر، ذَلك المأوى الهادئ، وتسلّلت إلى قصر الدوق لمراقبتي.”
عيونٌ حمراء كالدم تحدّق ببرودٍ في رأس جيرارد المنحني.
ثمة سرٌّ لا يعرفه الناس عن هَذا العالم.
العلاقة بين البرج الأحمر وقصر الدوق غارسيا ليست وثيقةً كما يظنّها الآخرون.
‘فهو، لما يتمتع بهِ مِن مهارةٍ فائقة، ساحرٌ مستبدّ حتى النخاع…’
بشكلٍ أدق، فإنَّ القيادة العليا للبرج الأحمر كانت تتحفّظ على الدوق الحالي الذي يقود عائلة غارسيا الكبرى.
فخلافًا لكثيرٍ مِن سحرة البرج الأحمر، الذين لا دراية لهم بالسياسة والسلطة ويكتفون بالإعجاب بالساحر العظيم إيمريك، فإنَّ الواقع مختلف.
إيمريك غارسيا.
الوحيد الذي يجري في عروقهُ دم الدوق السابق، والوريث الشرعي لأسرة غارسيا الكبرى.
رجلٌ وُلد بذكاءٍ يتيح له فهم كتب السحر المُعقدة بلمحةٍ، وبتناغمٍ مذهل مع المانا، وكأنَّ جوهر أسرة السحر العريقة قد وُرث بالكامل إليّه.
وقد أكمل ذَلك بحسٍ قتالي حاد صُقل عبر محاولات اغتيالٍ متكرّرة، وطبعٍ ناري لا يتردد في إحراق العدو والحليف على حدٍ سواء، مِما جعله أقوى ساحرٍ قتالي، بلا مُنازع.
حتى رؤساء الأبراج الأخرى، بِمَن فيهم سيد البرج الأحمر، لا يستطيعون مجاراته في معركةٍ فردية.
لذَلك، لَمْ يكُن غريبًا أنْ يُقلق أمرُه قيادة البرج الأحمر، إذ إنهم يعرفون جيدًا مدى الأذى الذي يُمكن أنْ يُحدثه ساحرٌ مِن الطبقة العليا إنْ طغى وتجبر.
“لعل مِن حُسن الحظ أنه انضمّ إلى البرج الأحمر.”
“طالما أنْ الأبراج، بما فيها البرج الأحمر، تنأى بنفسها عن السياسة… فستُستخدم قوّته المخيفة فقط في القضاء على الوحوش.”
لكن المشكلة أنَّ العالم لَمْ يترك إيمريك يعيشُ بسلام، حتى وإنْ رغب في ذَلك.
فكيف لأرملة الدوق السابق وشقيقهِ أنْ يتجاهلوا قوّة يخشاها السحرة أنفسهم؟ لذا، حين علموا بنيته بالعودة إلى القصر بعد تخرّجه مِن الأكاديمية، خططوا لقتله، حتى لو أثار ذَلك انتباه الناس.
ولكأنَّ إيمريك قد شعر بنواياهم، فهرب إلى البرج الأحمر قبل التخرج، ليُصبح خنجرًا مسمومًا في ظهورهم. ولذلك، كان على زوجة أبيه وعمه أنْ يتخلّصوا منه بأيِّ وسيلة.
حتى بعد أنْ أصبح البرج الأحمر موطنه، لَمْ تكفّ عائلة غارسيا –التي وقعت تحت يد عمه– عن السعي لقتله بكُل الطرق الممكنة.
وكانت النتيجة أنَّ أحد السحرة الشباب، الموهوبين والودودين، قُتل بعد أنْ اقترب مِن إيمريك بنيةٍ حسنة.
[كلوين!]
مهما بلغت براعة إيمريك، لَمْ يكُن بوسعهِ إعادة الموتى إلى الحياة.
[هاه… إنهُ عقاب البرج الأحمر على ادخال شخصٍ لا يُمكن تحمّله.]
حتى وإنْ ندم سيد البرج والقادة، لَمْ يكُن بوسعهم إعادة الزمن إلى الوراء وإلغاء قرار قبول إيمريك في البرج.
فَمِن الأساس، الأبراج –بما في ذَلك البرج الأحمر– كانت تخضع لنوعٍ مِن الحصانة خارج القانون.
قوة السحر التي نتحكم بها سيفٌ ذو حدّين.
طالما نُدرك هَذا جيدًا، فإنَّ الأبراج لَن تتورّط أبدًا في النزاعات السياسية أو الحروب بين الأمم.
وجهة سيوفنا واحدة فقط: الوحوش التي تُهدّد البشرية.
فالأبراج لا تخضع لأوامر الأباطرة أو الملوك أو النبلاء الذين يحكمون الأراضي، ولا تتدخل في السياسة. هَذا عرفٌ قديم مستمر منذُ أمدٍ بعيد.
لهَذا، لو أنَّ إيمريك الذي انضمّ إلى البرج ليهرب مِن قيود العائلة قد خرج فجأةً مدّعيًا استعادة لقب دوق غارسيا، لكان سحرة البرج الأحمر قد اجتمعوا معًا لقمعه.
لكن عندما تجاوزت أسرة غارسيا الحدّ مدفوعة بالخوف والقلق، وحاولت إلحاق الأذى بإيمريك، حتى بلغ الأمر إلى مقتل أحد أفراد البرج، لَمْ يكُن أمام البرج سوى اتخاذ قرار.
فقد سُمح لإيمريك بمغادرة البرج قبل إتمام فترة الخدمة الإلزامية التي تمتد عشرين عامًا، والتي كان قد تعهّد بها تلقائيًا عند انضمامه. بشرطٍ غير معلن.
[يا دوق غارسيا.]
[هاه، لو سمع عمكَ، الدوق الحالي للأسرة، بهَذهِ الكلمات، لأرسل مجموعةً مِن القتلة إلى كلٍّ مِن سيد البرج والقادة الحاضرين هُنا.]
[طالما أننا نُطلقكَ إلى العالم اليوم، فَلَن يحدُث ذَلك. لعلنا نسمع بحلول المساء أنكَ جلست على العرش الملطخ بالدماء.]
[المساء؟ سأحرص على أنْ تصلكم الأخبار خلال ساعتين.]
[تذكّر، أيُها الدوق الصغير… السحر ليس كُل شيء.]
[…..]
[قد يبدو سحرنا معجزةً قادرة على تحقيق أيِّ شيء، لكن كلما طغينا به، كلما ازددنا عزلةً. وإنْ كثُر أمثالكَ مِن السحرة، فسيُنظر إلينا كوحوشٍ لا فرق بينها وبين المخلوقات السحرية.]
[..…]
[بصفتكَ دوقًا لأرضٍ شاسعة، فَلَن يكون بمقدوركَ البقاء نقيًّا على الدوام. لا شكّ أنْ هُناك أعداءٌ يتربصون بكَ، وستضطر أحيانًا لإيذائهم لحماية نفسك.]
[هل يجدر بي أنْ أقول: شكرًا لتفهمكم؟ كنتُ أظن أنكم، كأعضاءٍ سابقين في البرج، ستطلبون مني ألا أستخدم السحر لإيذاء الناس، وأنْ أقدّم رقبتي لهم طوعًا.]
[… لا تتجاوز الحد.]
[أتقول حد! هاه.]
[حتى التنين في الأساطير، وحتى الشيطان، هُزما حين تعاون الكثيرون ضدهم. إنْ تجاوزتَ الحد، فسنوقفكَ، ولو احترق البرج الأحمر بالكامل.]
لَمْ يكُن البرج قد أخرج إيمريك وحده في ذَلك الحين.
[سأراقبُ تحركاته بنفسي.]
بعض السحرة الشباب الذين كانوا قريبين مِن كلَوين النبيل والمستقيم، والذين حزنوا بشدّة ٍعلى موته، تطوّعوا لمغادرة البرج ومراقبة إيمريك.
وكان مِن بينهم جيرارد، الواقف الآن أمامه.
“ما المشكلة؟”
بحسب ذاكرة جيرارد، لَمْ يسبق لإيمريك أنْ فقد أعصابه بهَذا الشكل سوى مرةٍ واحدة، قبل ثلاث سنوات.
[مَن ومَن سيتزوج؟ إليوت دوبون، هَذا الحقير!]
حين عَلِم بأنَّ ماركيز دوبون الجديد سيتزوج ليتيسيا لوبيز، ابنة عائلةٍ متواضعة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 20"