“أشكرك على حُسن الضيافة. لقد تمكنتُ مِن الوصول براحةِ بفضل ما تفضّل بهِ سموكَ مِن عناية.”
مهما كان إيمريك ساحرًا عظيمًا، وكانت عائلة غارسيا الدوقية عائلةً سحر عريقة، فَلَن يكون مِن المعتاد أنْ يستخدموا لفافات الانتقال النفيسة بهَذا التبذير.
ولكثرة الآذان المُنصتة، عبّرت ليتيسيا عن شكرها باستخدام كلمةٍ عامة مثل عناية، مشيرةً بها أيضًا إلى العربة التي وصلت على متنها.
“هاهاها، حسنًا. يسعدني أنني كنتُ عونًا في رحلتكِ.”
ورغم إدراكهِ السبب، فقد شعر بشيء مِن الخيبة لسماعها تناديه بـ سموك، بينما غمرته مشاعرٌ عذبة في الوقت ذاته مِن ردّها الذكي، فانبعثت في عينيهِ الحمراوين نظرةٌ معقدة.
“لقد أمرتُ بتحضير مأدبةٍ لأجلكِ، لكن يبدو أنْ الوقت لا يزال مُبكرًا لتناول الطعام، لذا سأقدّم لكِ الشاي أولًا.”
قال ذَلك، ثم مدّ إيمريك يدهُ إلى ليتيسيا كما لو كان يرافقها، فمدّت يدها نحوه مِن دوّن تفكير. وفي اللحظة التي لمست يده، اجتاحها ضغطٌ هائل كما حدث عند استخدام لفافة الانتقال، فأغمضت عينيها لا إراديًا وشعرت بجسدها يطفو في الهواء.
وحين فتحت عينيها، وجدت نفسها أمام مدخل أحد المباني.
“أهلًا بكِ في قلعة غارسيا، آنستي.”
انحنى كبير الخدم الذي بدا وكأنهُ كان في انتظارهم احترامًا للضيف والسيّد معًا. وبرغم أنّه كخادمٍ في هَذهِ القلعة الواسعة يفوقها مكانةً كونها ابنة بارونٍ سقطت عائلته، فقد بدا شديد التهذيب، مِما أشعرها ببعض الحرج.
“المسافة مِن بوابة القلعة إلى القصر الرئيسي طويلة نوعًا ما. قد لا تستغرق سوى بضع دقائق بالعربة، لكنني أردتُ أنْ أُخفف عنكِ بعض الإرهاق.”
قال إيمريك ذَلك مبررًا بابتسامةٍ خفيفة.
قيل لها إنْ سحر الانتقال معقدٌ للغاية. فهل مِن المقبول استخدامه لأمرٍ بسيطٍ كهَذا؟
‘أفهمُ نية سينيور تقريبًا…’
إرسالهُ لعربتهِ الفاخرة، وخروجهُ بنفسه لاستقبالها، ثم استخدامه لسحر الانتقال ليصلا وحدهما إلى القصر، كل ذَلك كان مدروسًا ويحمل دلالاتٍ واضحة.
ربما أراد أن يبعثَ برسالةٍ خفية إلى خدم القصر، مفادها: ‘بما أنني، السيّد، أُعامل ضيفتي بهَذا الشكل، فلا تجرؤوا على إهمالها.’
‘فبين أهل الغرب وباقي أبناء الإمبراطورية، هُناك حواجزٌ شعوريةٌ دقيقة.’
كانت مشاعرها تجاه إيمريك مليئةً بالامتنان لحرصهِ المؤثر، لكنها في ذات الوقت كانت تخشى أنْ يُحدث اهتمام سيد القصر المُبالغ بشخصٍ غريب أتى مِن الخارج أثرًا عكسيًا.
رافقت ليتيسيا إيمريك حتى وصلا إلى غرفة الضيافة برفقة كبير الخدم.
‘يا لها مِن ثريّا مميّزة ولوحاتٍ ومزهريات مزينةٍ بذوق.’
لَمْ تكُن تمتلك الماركيز دوبون حسًا جماليًا جيدًا، لذا حين زارت قصر المركيز لأول مرة، لَمْ تُعجب بهِ بهَذا الشكل.
‘آه… ما دخلي أنا! لا فائدة مِن المقارنة بقصر الماركيز ولا مِن ذكريات الماضي، فلأتوقف.’
هزّت ليتيسيا رأسها قليلًا لتُبعد هَذهِ الأفكار التافهة عن ذهنها.
وما إنْ جلسا حتى اقتربت خادمتان أنيقتا المظهر، ووضعن الحلوى وسكبن لهما الشاي.
‘توأمان على ما يبدو. فهما متطابقتان تمامًا.’
بدأ عبير الأقحوان الخريفي الهادئ ينتشر في الغرفة.
“لا تعودي إلا إذا طلبتُ ذَلك. واعتني بلياقة ببارون جيرارد.”
“نعم، سيّدنا.”
كان إيمريك يستخدم أسلوب الاحترام حتى مع الخدم، وهو أمرٌ غير مألوف في الطبقة الأرستقراطية. ومع ذَلك، بخلاف ما يخشاه الكثير مِن النبلاء، لَمْ يكُن يبدو ضعيفًا، بل بدا أكثر اتزانًا ووقارًا.
أُغلِق باب غرفة الضيافة بصوتٍ خافت للغاية، وما إنْ بقيا وحدهما حتى استرخى إيمريك فجأةً.
“عندما يتعلق الأمر بالبروتوكولات واللياقات، أشعرُ أحيانًا أنني لستُ أهلًا لأن أكون دوقًا. لذا سأجلس بأريحية، فلا تتوتري أنتِ أيضًا، ارتاحي كما يحلو لكِ.”
“أشكركَ على عنايتكَ، سينيور.”
رغم أنها لَمْ تستطع الاسترخاء مثله تمامًا، فقد شعرت براحةٍ أكبر مع اختفاء الأنظار مِن حولها.
“لقد عانيتِ كثيرًا…”
قال إيمريك ذَلك بعد أنْ احتسى رشفةً مِن الشاي، مترددًا قليلًا قبل أنْ يفتح الموضوع.
لَمْ يكُن يقصد عناء الرحلة.
فورًا أدركت ليتيسيا أنه يقصد الفضيحة والطرد مِن قصر الماركيز، التي لا تزال تثير ضجة في المجتمع الأرستقراطي بالعاصمة.
“لولاك، لكنتُ متُّ في الشارع بشكلٍ بائس. رُبما نقل لك البارون جيرارد ذَلك، لكنني أكرر شكري مرةً أخرى.”
قالت ليتيسيا هَذا وهي تُخفض رأسها قليلًا.
“لا أرى أنني فعلتُ شيئًا يُذكر. ما أنا واثق منه فقط هو أنّ ذَلك الوغد الذي جازى زوجته، التي كرّست نفسها له ولعائلته طوال فترة الحرب، بتلكَ الطريقة، سينال عقاب السماء.”
كان مِن الصعب على ليتيسيا أنْ توافق على هَذا الكلام الذي بدا كأنهُ لعنة، فاكتفت بابتسامةٍ مريرة.
فمشاعرها لَمْ تهدأ تمامًا بعد، لذا لَمْ يكُن هَذا موضوعًا تريد الخوض فيه كثيرًا. فغيّرت الحديث بلباقة.
“لقد مرّ عام منذُ أنْ التقيتُ بكً، سينيور. كيف كانت أحوالكَ في تلكَ الفترة؟”
“كما تعلمين، لَمْ يكُن قد مضى عامان على استلامي منصب الدوق حين اندلعت الحرب. استغللتُ ذَلك كذريعةٍ للمشاركة بعددٍ قليل مِن الجنود، على أمل أنْ تُسهّل قلة العدد عملية المعالجة بعد النصر، بما أنهم مِن نخبة.”
ولكن، يا للعجب…
“اتضح لاحقًا أنَّ هُناك الكثير مِن العمل بانتظاري لشهور. ناهيك عن أنني عدتُ مِن ساحات القتال بعد استخدامٍ مكثّفٍ للسحر، فَلَمْ أستطع التركيز على الأوراق الرسمية.”
سواء أكان ذَلك مقصودًا أم مِن قبيل المصادفة، فقد استطاعت ليتيسيا مِن خلال حديث إيمريك أنْ تتلمس النظام الإداري لمنزل الدوق بشكلٍ عام.
كان مساعدو الدوق يفرزون مُختلف المستندات الإدارية المُقدَّمة مِن الإداريين في المرحلة الأولى، ثم يتولى جيرارد الأمور الخارجية، بينما يتولى شخصٌ يُدعى دييغو الشؤون الداخلية مِن حيث جمع الأوراق ومراجعتها قبل رفعها إلى إيمريك.
“على كل حال، أنا فضوليٌ لمعرفة ما هو الأمر الأهم بالنسبة لكِ عند أداء العمل، يازميلتي.”
كانت هَذهِ أول مرةٍ يُطرح فيها سؤال أشبه بالمُقابلات منذُ دخولهما إلى هَذا المكان، فعدّلت ليتيسيا جلستها التي كانت قد أصبحت مرتاحةً قليلًا.
“قد يبدو مِن الغريب أنْ أتحدث بهَذا الشكل وأنا فاشلة.”
أجابها إيمريك بنبرةٍ تميلُ إلى المزاح، وعيناهُ تحملان بعض الجدية.
“ألاحظ أنكِ بارعةٌ في قول الكلمات القاسية بشفاهٍ جميلة، يازميلتي.”
“ماذا؟ شفاهٌ جميلة؟”
“لا يُمكنني القول إنها قبيحة، أليس كذَلك؟”
‘يا لهَذا الشخص! كم هو ماكرٌ فعلاً.’
‘مَن كان عليه العمل تحت إمرة شخصٍ كهًذا، فلا شك أنهُ يشعر بالضغط طوال الوقت…’
وها هو ذاك الشخص حاليًا جيرارد، وفي المستقبل ستكون هي.
ضحكت ليتيسيا بسخريةٍ حين أدركت هَذهِ الحقيقة الغريبة.
ولعلّها كانت السبب أو النتيجة، لكنها بدأت تتحدث بنبرةٍ أقل توترًا.
“أعتقد أنْ أهم ما في العمل هو الثقة المُتبادلة…”
فالثقة لا تُبنى بالكلام أو العقود فقط، لذا لا مفر مِن ترك هَذهِ النقطة للزمن.
“لكنني أرغبُ بالتركيز أكثر على ‘الصلاحيات’ التي يُمكن التفاهم بشأنها وتطويرها مِن خلال الحوار. فالشخص لَن يتمكن مِن استخدام ما يملك أو تحمل مسؤوليتهِ إنْ لَمْ يكُن على درايةٍ تامة به. وبصفتي مساعدةً للدوق، أود أنْ أعرف حدود ما يُمكنني فعله.”
“صحيح… لطالما كنتِ طموحةً في عملكِ.”
ابتسم إيمريك ابتسامةً خفيفة.
“ما دام ما تفعلينهُ لا يُلحق خسائر جسيمةً بالدوقية أو بالغرب، فبإمكانكِ فعلُ أيِّ شيء.”
“خسائر جسيمة…؟”
“نعم، في بعض الأحيان قد يكون هُناك ضررٌ على المدى القصير أثناء تنفيذ بعض الخطط، رغم أنْ النتيجة النهائية تصُب في مصلحة الجميع. حديثي يشمل ذَلك أيضًا.”
“آه، فهمت.”
“كما أنْ مساعديّ ينقسمون إلى نوعين: مساعدين عاديين، ومساعدين عامّين. وقد منحت جيرارد، المسؤول عن الشؤون الخارجية، ودييغو، المسؤول عن الشؤون الداخلية، صلاحية التصرّف نيابةً عني.”
أنْ يمثل أحدُهم الدوق غارسيا يعني أنهُ في حالة غيابه أو تعذّر تواصله، يكون مخوّلًا باتخاذ قراراتٍ تأخذ توجهات قصر غارسيا بعين الاعتبار.
“أما المساعدون العاديون، فأحيانًا أمنحهم صلاحياتٍ كاملة في بعض الخطط المحددة، دوّن أنْ يكون لجيرارد أو دييغو الحق في التدخّل بها. يُمكنهم التعاون، لكن لا يمكنهم الاعتراض.”
“فهمت.”
“ومِن حديثي قبل قليل، لا بد أنكِ أدركتِ أنْ المساعدين ينقسمون إلى ثلاثة مجالات.”
الشؤون الخارجية.
الشؤون الداخلية، وتشمل الإشراف على عائلات التابعين.
والإدارة الخاصة بالبرج الأحمر.
“حين توقّعين عقد التوظيف، سيتم تعيينكِ مبدئيًا ضمن قسم الإدارة التابع للبرج الأحمر. لاحقًا، ستستمعين إلى شرح تفصيلي مِن الآخرين، لكن يكفي أنْ تعلمي بأنَّ البرج الأحمر لا يُمكن فصله عن شؤون الغرب، وعلاقتنا بهِ قائمةٌ على التعاون المتبادل.”
“مفهوم. لديّ سؤالان في الوقت الحالي.”
“تفضّلي.”
“في حال لزم الأمر، هل يُمكنني التدخل في اختصاصات الأقسام الأخرى؟”
“بالطبع. كما تعلمين، بعض الخطط تشمل الشؤون الخارجية والداخلية، وقد تتطلب أيضًا تعاونًا مِن البرج الأحمر.”
أومأت ليتيسيا برأسها موافقة بعد سماع الإجابة.
حتى وإنْ كانت لا تعرف كيف تسير الأمور ميدانيًا، إلا أنْ ما بدا واضحًا هو أنْ الدوق يتّبعُ نهجًا مرنًا في إدارة العمل.
“وأودّ أنْ أسأل كذَلك… ما هو الأمر الأهم بالنسبة إليّك في العمل، دو… أعني، يا زميلي؟”
“هوه…”
أدهشته تغيّرها الطفيف في نبرة المخاطبة، وكونها أعادت عليهِ نفس السؤال الذي وجّهه لها سابقًا.
تلألأت عيناهُ الحمراء تحت ضوء الشمس كالياقوت.
“أذكر أنني قرأتُ جملةً أثّرت بي كثيرًا في أحد الكتب.”
<مَن يُهذّب نفسه أولًا، يستطيع أنْ يُحسن تدبير بيته، ومَن يُحسن تدبير بيته، يستطيع أنْ يُحسن تدبير البلاد.>
“أعتقد أنْ لهَذهِ الجملة قدرًا لا بأس به مِن الصواب، يازميلتي.”
فالإنسان وُجد أولًا، ثم وُجد المنصب والدولة.
“لذا، الأشخاص الذين يُفرطون في الشرب، أو يعشقون المقامرة، أو يعملون حتى في أوقات الراحة والليل، يصعب عليّ الوثوق بهم.”
“لكن… ما المانع فيمن يعمل ليلًا أو في أيام الراحة؟”
سألت ليتيسيا بصوتٍ يختلطُ فيه الحرج، إذ كانت مِمَن يداومون على العمل حتى وقتٍ متأخر بلا تردد.
“القدرة الجسدية والعقلية للإنسان لها حدود، ومَن لا يُدير تلكَ الحدود بشكلٍ جيد… قد يبدو مُجتهدًا على المدى القصير، لكن على المدى الطويل، لا أعلم…”
“لكن، أحيانًا يَكُون العمل طارئًا، فلا خيار سوى الاستمرار، أليس كذلك؟”
“صحيح، قد يحدث ذَلك… أحيانًا، لا كثيرًا.”
وأمام ابتسامة إيمريك المُشرقة أكثر مِن أيِّ وقتٍ مضى، قررت ليتيسيا أنْ تتجنب الأعمال الإضافية قدر الإمكان.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليغرام》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 16"