Your sweet breath - 8
“إحياء ذكريات مؤلمة”
لم تكن تتوقع يومًا أن تضطر إلى استحضار تلك الذكريات المرعبة بمحض إرادتها.
ما إن عادت بها الذاكرة إلى تلك اللحظة، حتى شعرت وكأن المشهد يُعرض أمام عينيها بوضوح كما لو كان قد حدث بالأمس.
أغلقت عينيها بإحكام، محاولة طرد تلك الصور من ذهنها، ثم فتحتهما ببطء.
كان ينظر إليها بصمت، وكأنه يراقب كل حركة منها، ثم سأل بهدوء:
“في ذلك اليوم… هل قال ذلك الشخص شيئًا غريبًا؟”
توقفت حركاتها فجأة، وكأن كلمات سؤاله اخترقت أعماق ذكرياتها.
في البداية، فكرت أن لا فائدة من الحديث عن الماضي الآن؛ فالتحقيقات قد انتهت والجاني قد نال عقابه وفق القانون.
لكن مع مرور اللحظات، بدأت تشعر بأن تلك الذكرى المروعة قد تكون مرتبطة بأحلامها المزعجة. وربما جاء “سان” خصيصًا ليسألها عن ذلك.
قررت حينها أن تجيب عن أسئلته بصدق، مهما كان صعبًا عليها.
قالت بصوت هادئ ومتحشرج:
“في ذلك اليوم…”
ثم بدأت تحكي ببطء، وكأنها تمشي على خيوط واهية من ذكريات حاولت طمسها.
بعد نجاح مسلسلها الدرامي “حيث استقر الفجر”، الذي لعبت فيه دور “مي يون”، أصبحت جدول أعمالها مزدحمًا للغاية.
عروض الإعلانات، والمقابلات، والسيناريوهات التي تتوالى بلا توقف، جعلتها تعيش أيامًا مليئة بالضغط والعمل المستمر.
كان جدولها مزدحمًا لدرجة أنها شاركت في كل أنواع الأنشطة تقريبًا باستثناء برامج الترفيه.
لكن ذات يوم، حدث ما لم يكن في الحسبان…
في طريق العودة من فعالية أُقيمت في منطقة نائية حيث دُعيت للمشاركة فيها، وقعت الحادثة خلال استراحة قصيرة في إحدى محطات التوقّف.
استغلّ الجاني لحظة غياب مدير الأعمال، فصعد إلى مقعد القيادة، وحاول اختطافها بينما كانت جالسةً في المقعد الخلفي.
بعد تلقّي البلاغ، طاردت الشرطة السيارة، التي انتهى بها الأمر بالأصطدام بجذع شجرة لتتوقف تمامًا.
قبل أن تفتح الشرطة الباب بالقوة و تسحب الجاني، كان قد انتقل إلى المقعد الخلفي محاولًا خنقها.
على الرغم من أن الأمر لم يدم سوى لحظات، إلّا أنّه بدا وكأنّه استمر دهورًا بسبب الرعب الذي شعرت به.
وخلال تلك اللحظة، بدأ المجرم يتفوّه بكلمات غريبة:
“تنبعث منكِ رائحة شهية للغاية! رائحتكِ لذيذة للغاية. أرجوكِ، فقط لقمة واحدة… دعيني أتذوّقكِ.”
“دَعْ…ني أذهب…”
“توقف… أطلق سراحـــي!
“فقط لقمة واحدة، أرجوكِ؟”
“آآه…!”
لحسن الحظ، لم تُصب بأذى جسدي كبير، لكنّها عانت صدمةً نفسية جعلتها تتوقف عن كل أنشطتها لفترة.
تبيّن لاحقًا أن الرجل لم يكن يعاني من أي اضطرابات نفسية، ولم يكن تحت تأثير الكحول أو المخدرات.
ومع ذلك، بدا وكأنه في حالة غير طبيعية تمامًا، واستمر في ترديد كلمات غير مفهومة أثناء اقتياده من قِبَل الشرطة:
“أنا آسف. آسف حقًا… رائحتها كانت لذيذة للغاية، لم أستطع التحمل…”
“ماذا؟”
“لقد كان الأمر مؤلمًا.”
“……”
“أليس كذلك؟ أن تطلب مني فقط شم رائحة طعام شهي أمام عيني دون أن أتذوقه، هذا قاسٍ للغاية.”
“يا هذا! كفاك هراء!”
كان الرجل يتمتم بكلمات أشبه بجنون، لكنه سرعان ما تظاهر باستعادة رشده، طالبًا المغفرة ورجاء التخفيف من العقوبة.
لكن السيد “هوانغ”، مدير شركتها، كان أكثر غضبًا منها، ولم يُظهر أي نية للتسامح، مهددًا الرجل بأن فكرة التخفيف ليست حتى واردة. بالنسبة له، كانت الممثلة واحدة من أهم أصول شركته، وهذا الحادث أشبه بجريمة تمس استثماراته الثمينة.
والأسوأ من ذلك، أن ذلك اليوم كان مصادفًا لغياب “ساميونغ” عن العمل بسبب ظروف شخصية. المدير الذي تم تعيينه مؤقتًا ليحل محله، أُقيل مباشرة بعد الحادثة، بينما تلقى “ساميونغ” توبيخًا شديدًا من المدير “هوانغ”، رغم أنه لم يكن حاضرًا أثناء الحادثة.
بالنسبة لـ”ساميونغ”، كانت تلك الحادثة سببًا إضافيًا لتعميق الخلاف بينه وبين المدير، الذي لم يكن يراه بعين الرضا منذ البداية. ورغم أن “كانغ” حاولت طمأنته بأن ما حدث كان مجرد حادث لا دخل له فيه، إلا أنه ظل يشعر بالذنب وكأن تقصيره هو ما تسبب في الأمر.
لم يتوقف المدير “هوانغ” عند ذلك، بل قرر فورًا تعيين حارس شخصي خاص لحمايتها.
وهكذا بدأت سلسلة من المواقف غير المريحة مع الحراس الذين كانوا يغادرونها واحدًا تلو الآخر، دون أن يتمكنوا من تحمل أعباء وظيفتهم أو التوافق مع شخصيتها. لكن الأمور تغيرت عندما ظهر “سان”، الحارس الشخصي السابع في حياتها.
بعد أن انتهت “كانغ” من سرد قصتها، بدت متماسكة من الخارج، لكنها وجدت نفسها تحتضن كتفيها بخفة، دون أن تعي أن ارتعاشها كان واضحًا.
كانت عينا “سان” تتابعان كل حركة بسيطة تصدر منها، مركزًا على ارتجاف كتفيها الذي لم يخفَ عليه.
“قال إنه شم رائحة شهية للغاية.”
“نعم، هذا ما قاله.”
اعتبرت الشرطة ذلك التصريح بمثابة تحرش لفظي، وكذلك كانت وجهة نظرها.
فكيف يمكن لشخص أن يقول لشخص آخر كلمات مثل “تبدو شهيًا” أو “دعني أتذوقك فقط لقمة واحدة” دون أن يكون وراء ذلك نوايا أخرى بعيدة عن المعنى الحرفي؟
ما زالت تلك الصورة عالقة في ذهنها، صورة الرجل وهو يدفن أنفه في عنقها كالمجنون، يلهث ويدمع لعابه ككلب مسعور.
“هذا الموضوع ليس مريحًا للحديث. إن لم يكن لديك أي أسئلة أخرى، فلننتهِ هنا.”
عندما قالت “كانغ” ذلك، أومأ “سان” برأسه متفهمًا.
“حسنًا، سأضع ما أخبرتني به في الحسبان.”
“ليس هناك شيء لتضعه في الحسبان. إنه الآن في السجن، ولن يخرج قريبًا.”
كانت كلماتها تتظاهر بالقوة، لكنها لم تنجح في إخفاء الارتجاف الذي خانها.
ابتسم “سان” ابتسامة صغيرة، وكأنه قد لاحظ حقيقتها. ثم، وكأنه يطمئنها، ربت على كتفها بخفة.
“لابد أنكِ مرهقة. عليكِ أن تأخذي قسطًا من الراحة.”
لم ترد “كانغ”، لكنها قطبت جبينها بانزعاج.
بعد كل هذا الحديث عن حادثة كرهت حتى التفكير فيها، تطلب مني الآن أن أستريح؟ مستحيل.
لم تكن ترغب بأي حال من الأحوال في رؤية وجه ذلك المجنون مرة أخرى في أحلامها.
ما عاشته كان كافيًا لتبقى آثار الحادثة تطاردها، حتى في أحلامها، لفترة شعرت خلالها وكأنها تعيش في كابوس دائم.
كانت ذكريات الحادثة تلاحقها حتى في منامها مما جعلها تعيش كابوسًـا مستمـرًا أنهكها تمامـًا
“لا حاجة لذلك. إذا تحدثت ثم نمت الآن، وظهر لي في الحلم مجددًا…”.
“سأمسك بيدك.”
كان كلامه المفاجئ غريبًا لدرجة أنها حدّقت فيه بدهشة بالغة و بعدم تصديق.
“ماذا قلت؟”
رفع كفه باتجاهها وابتسم برفق.
عندها، تدخل “سام-يونغ” الذي كان صامتًـا لفترة وقال:
“ألا تعرفين تلك القصة؟ يقولون إنه إذا أمسكتِ بيد شخص قوي الروح أثناء نومك، فإن حتى الأرواح الشريرة تهرب بعيدًا.”
بعد حديثه، حرّك “سان” يده الممدودة قليلًا وكأنه يشجعها قائلًا : “ما الذي تنتظرينه؟ جربي الأمر.”
“…..”
“لن أسمح لأي كائن، سواء كان إنسانًـا أو شبحًـا، بالاقتراب منك.”
كان آخر ما تتذكره هو ذلك المشهد؛ يده الممدودة وكلماته المطمئنة.
بعد ذلك، انقطع شريط الوعي تمامًا، وكأن أحدهم قصه بمقص حاد.
وبهذا، استسلمت للنوم فجأة، كما لو أنها فقدت الوعي.
مرت فترة قصيرة بعد ذلك…
فتحت “كانغ” عينيها فجأة.
“……!”
شعرت بثقل الصمت يخيم على المكان، فلم تستطع حتى أن تخرج أنفاسها.
كان كل شيء حولها هادئًـا تمامًـا، وداخل السيارة التي أُطفئت محركها، وجدت نفسها تحت بطانية مجهولة المصدر تغطي جسدها. هذا المشهد كان غريبًا عليها.
“ما الذي حدث هنا؟”
لم تصدق أنها غفَت دون أن تشعر.
“هذا غير معقول.”
كانت تتمتم لنفسها بصوت مضطرب، تكرر نفس الكلمات وكأنها تحاول فهم الموقف:
“غير معقول… غير معقول…”
في يدها، شعرت بما يشبه دفء غريب، وكأن أحدهم أمسك بيدها في وقت ما.
بل وكأن أصابعًا قد تسللت بين أصابعها وتشابكت معها بلطف.
كان شعورًا مألوفًا وغريبًا في آنٍ واحد.
وجدت نفسها في حالة من الحيرة، لا تعرف كيف تتعامل مع هذا الموقف الغريب.
رغم شعورها بالراحة بعد النوم، فإن غياب الكوابيس التي كانت تعاني منها يوميًا بدا أمرًا غير مألوف لها، بل وأثار في داخلها خوفًا غير مبرر.
هذا الخوف ربما يعود إلى…
“هل نمتِ جيدًا؟”
جاء الصوت الهادئ ليقطع أفكارها.
ربما كان السبب أمام عينيها الآن…
كانت “كانغ” تحدق بصمت في الرجل الواقف أمامها، غير قادرة حتى على الصراخ من شدة الدهشة.
حينها تحدث “سان” بهدوء، قائلاً:
“يبدو أنك كنتِ متعبة جدًا. حاولت إيقاظك عدة مرات.”
“أين نحن الآن؟”
سألت بصوت مرتجف، محاولة استيعاب ما يحدث.
“في مرآب السيارات تحت صالون التجميل.”
صوته الناعم كان دافئًا تمامًا كالبطانية التي تغطي جسدها، ينساب عبرها ويبعث فيها نوعًا من الطمأنينة غير المتوقعة.
“كنتِ نائمة بعمق، فتركتك ترتاحين قليلاً.”
كانت “كانغ” تحدق بعينيها الواسعتين، قبل أن تبتلع ريقها بصعوبة وتحاول أن تنطق.
“وأين ساميونغ أوبا؟”
أجاب “سان” ببساطة:
“ذهب ليحضر شطائر.”
“……”
“سيأتي قريبًا، لذا دعينا نخرج معًا عندها.”
لكنها شعرت فجأة بثقل على ذراعها، لتكتشف متأخرة أن يده كانت مستندة على ذراعها.
بتلقائية ودون تفكير، دفعت يده بعيدًا عنها بحركة خشنة. ربما كان الأمر غير مقصود أثناء محاولته إيقاظها، لكن بالنظر إلى الموقف، كان رد فعلها انعكاسيًـا تمامًـا.
توقف “سان” للحظة ونظر إلى يده التي بقيت معلقة في الهواء، ثم حول عينيه ببطء نحوها، مثبتًا نظره عليها.
“هل فعلت شيئًا خطأ دون أن أدرك؟”
لكنها لم ترد، اكتفت بالصمت المشوب بالتوتر.
“إذا لم يكن هناك سبب خاص، فلا أرى داعيًـا لكل هذا الجفـاء.”
كانت ملامحه خالية تمامًا من أي ابتسامة، مزيج من الجدية والبرود يحيط به.
“نعم، قد يكون محقًا.”
لو لم يكن “سان” مرتبطًا بأحلامها بأي شكل من الأشكال، فإن كل هذا الحذر والتوتر منها كان سيبدو غير مبرر تمامًا. لكنها الآن، وفي هذه اللحظة بالتحديد، أدركت الحقيقة.
الأمر كله يعود إليه. سواء الرجل الذي يظهر في أحلامها أو السبب في اختفائها المفاجئ اليوم، فإن الجواب يكمن فيه.
وبينما كانت تدرك أنها وحدها معه في السيارة، سألت بصوت يملؤه التحدي:
“من أنت حقًا؟”
لكنه لم يرد، اكتفى بالصمت الذي كان أثقل من أي كلمات.
“عندما نكون وحدنا، يمكنك أن تكون صريحًـا معي، أليس كذلك؟”
مع إلحاحها المتزايد، ضحك “سان” بخفة وكأن الحديث يبدو له عبثيًا.
“لست متأكدًا مما تقصدين.”
صرخت بغضب، وصوتها ارتفع بحدة:
“توقف عن الكذب!”
كانت المسافة الغامضة بينهما تكاد تخنقها، ولم تعد قادرة على تحمل هذا الغموض الذي يحيط به.
“لقد ظهرت في أحلامي دائمًا لتنقذني، والآن أيضًا، أنت من يحرسني.”
لكن مرة أخرى، التزم الصمت. ذلك الصمت الثقيل الذي بدا وكأنه يحمل جوابًا أعمق مما تستطيع الكلمات أن تعبر عنه.
“كل هذا من صنعك، أليس كذلك؟”
ساد صمت ثقيل أكثر مما كان عليه، وكأن المكان نفسه توقف عن التنفس. لم يبقَ سوى التوتر يملأ الفراغ بينهما.
مدت “كانغ” يدها لتقبض على ذراعه، وعيونها تتوسل بإلحاح:
“أخبرني… أحلامي. ماذا فعلت بها؟”
كان صوتها يحمل مزيجًا غريبًا من الغضب والرجاء، وكأنها في لحظة واحدة تُطالب وتُناشد.
ظل “سان” صامتًا للحظات، وكأنه يزن الكلمات في ذهنه. أخيرًا، تنهد ببطء ومسح جبينه بأطراف أصابعه، كمن أنهكه الحديث قبل أن يبدأ.
“ما دمتِ نمتِ جيدًا، فما أهمية الأمر؟”
ردٌّ بسيط، لكنه كان كافيًا لإشعال المزيد من التساؤلات في عقلها.
“هل تحتاجين حقًا لمعرفة السبب كي تهدئي؟”
اتسعت عينا “كانغ” بصدمة، وكأن الزمن توقف. كل ثانية بدت وكأنها تمتد لعقد كامل.
شفتاها التصقتا، عاجزتان عن النطق، بينما كانت مشاعرها تتأرجح بين الذهول والارتباك.
أما “سان”، فقد اكتفى بمراقبتها بصمت، وعلى وجهه نظرة مزيج من السخرية والشفقة. ضحكة خافتة أشبه بالاستسلام انطلقت منه، تبعتها كلمات هادئة كأنها اعتراف طويل مدفون.
“نعم… لقد أكلتها.”
“ماذا…؟”
صُدمت “كانغ”، لكن “سان” تابع حديثه وكأنه لم يلاحظ ارتباكها:
“كان طعمها لذيذًا… حلمك.”
ثم مرر طرف لسانه الأحمر على شفتيه، وكأنه يتلذذ بآخر ما تبقى من وجبة شهية.
“ألم تفهمي بعد؟”
اقترب منها أكثر، تاركًا مسافة صغيرة بينهما، بينما كان يمسح شفتيه ببطء مستخدمًا إبهامه.
“تذكري ما قاله ذلك الرجل الذي يقبع الآن في السجن.”
فجأة، عادت إلى ذهنها تلك الكلمات التي كانت تحاول نسيانها، وكأنها شريط صوتي أُعيد تشغيله:
‘رائحتك لذيذة للغاية. أرجوكِ… دعيني أتناول ولو قضمة واحدة.’
‘آسف… لم أستطع المقاومة بسبب الرائحة.’
‘أليس من القسوة أن تضع طعامًا لذيذًا أمامك ثم تطلب ألا تلمسه؟’
كلماته كانت تحفر في ذاكرتها، وأحيت شعورًا بالرهبة لم تتخلص منه بعد.
“كل هذا كان يتعلق بأحلامك.”
قال “سان” ذلك بنبرة حاسمة، بينما كانت “كانغ” تشعر بقشعريرة تتصاعد من قدميها إلى رأسها.
“ذلك الرجل لم يكن إنسانًا.”
صمت “سان” للحظة قبل أن يضيف بهدوء:
“كان كائنًا دنيئًا… أحد الأرواح الجائعة التي لا تستطيع مقاومة رائحة الأحلام اللذيذة.”
تجمدت “كانغ” في مكانها، لا تستطيع تصديق ما تسمعه.
“أراد حياتك… الأحلام مثل طعامهم. لكنني… أكلتها بدلاً منه.”