Your sweet breath - 6
“لِمَاذا جِئتُ إِذًا…”
“…؟”
“أَلا تَعرِفُ السَّببَ بِالفِعل؟”
انخفضَ صوتهُ العميقُ وكأنَّه امتزجَ مع ظُلمةِ الليلِ.
تجمَّدَ “ساميونغ”، مشدوهًا، وهو يُحدِّقُ بـ”سان” الذي كان يقتربُ بخطواتٍ هادئةٍ.
كلما قلَّتِ المسافةُ بينهما، كان قلبُ “ساميونغ” يخفقُ بقوَّة.
كلماتُ “سان” جعلتهُ يُفكِّرُ فيما إذا كان قد ارتكبَ خطأً جسيمًا خلال لقائهما السابقِ.
وإلا، ما الذي قد يدفعُهُ لاقتحامِ منزلهِ؟
“مستحيل… هل يمكن أن يكونَ قد أتى ليؤذيني؟”
حاولَ “ساميونغ” طردَ هذه الأفكارِ من رأسهِ وهو يهزُّهُ بعنفٍ.
“ليسَ الآن. عليَّ أن أتماسك.”
استجمعَ شتاتَ نفسهِ وسألَ بصوتٍ حازم:
“كيفَ وصلتَ إلى السطح؟ الأبوابُ الخارجيةُ كانت مقفلةً!”
“السيدةُ صاحبةُ المنزلِ فتحتْ لي البابَ الخارجي، أما البابُ الأوسطُ فكانَ مفتوحًا.”
“هذا غيرُ معقول.”
صاحبةُ المنزلِ ليستْ من النوعِ الذي يُفتحُ بابَهُ للغرباءِ دونَ سبب.
وكان “ساميونغ” دائمًا حريصًا على قفلِ الأبوابِ بسببِ زياراتِها المفاجئة.
قبلَ أن يتمكنَ من دحضِ كلامِ “سان”، أضافَ الأخيرُ بابتسامةٍ وديعة:
“أظنُّ أنَّ قفلَ البابِ كانَ ضعيفًا. ربما عليكَ إصلاحه.”
تملَّك “ساميونغ” شعورٌ غريبٌ تجاهَ هذا الرجل. نبرتهُ كانت ناعمةً، ولكنَّ عينيه كانتا تقولانِ شيئًا آخر.
كانَ واضحًا أنَّهُ لا مجالَ للمقاومةِ أمامَ هذا الشخص، لكن “ساميونغ” قررَ أن يُظهرَ بعضَ الصلابة.
“لا، القفلُ ليسَ ضعيفًا. سأثبتُ لكَ ذلك.”
وقفَ فجأةً، وانتعلَ خفَّيهِ بخطواتٍ حازمةٍ نحوَ السلمِ، وكأنَّهُ ذاهبٌ إلى معركةٍ صغيرة.
عندَ وصولِه إلى البابِ، لاحظَ أنَّ البراغيَ قد أصبحتْ مرتخيةً بشكلٍ ملحوظٍ.
“كيفَ… هذا؟!”
عادَ إلى الأعلى بخطواتٍ مترددةٍ، وعندما التقتْ عينيه بعيني “سان”، سألهُ الأخيرُ بابتسامةٍ مُبهمةٍ:
“إذن، ما رأيك؟”
“”هل كان قفلُ البابِ سليمًا؟”
رغم أنَّهُ طرحَ هذا السؤال، إلا أنَّ نبرته كانت أقربَ إلى التوبيخِ.
لا يُعقَلُ أن يكونَ سليماً، لقد أخبرتُك سابقاً بذلك، أليسَ كذلك؟
كانَ هذا هو المعنى الكامن خلفَ كلماته. شعرَ “سام-يونغ” بالحرجِ، فعضَّ شفتيهِ للحظةٍ قبلَ أن يتحرَّكَ بخطواتٍ مترددة.
مرَّ بجوارِ “سان” واتَّجهَ ليجلسَ على المقعدِ الخشبيّ الموجودِ في الفناءِ.
”بما أنَّكَ قد أتيتَ بالفعل، لماذا لا تجلس؟”
ابتسمَ “سان” ابتسامةً خفيفة، ثمَّ وضعَ صندوقاً ثقيلاً على الطاولةِ أمامَه.
شعرَ “سام-يونغ” بقلقٍ مفاجئٍ، فجلسَ على الفورِ وحدَّقَ في الصندوقِ.
”ما هذا؟”
”لم أشأ أن أُحضِرَ يدي فارغتين، لذا اشتريتُ شيئاً بسيطاً.”
كانت هناكَ حروفٌ صينيةٌ مكتوبةٌ على الصندوقِ.
”تحفةٌ فاخرة؟”
قرأَ “سام-يونغ” كلمةَ “名品” بعيونٍ متثاقلةٍ، ثم فتحَ عينيه على مصراعيهما بدهشةٍ.
”لحمُ بقرٍ كوريّ؟!”
في تلكَ اللحظةِ، زالَت كلُّ علاماتِ الحذرِ من وجهِ “سام-يونغ” وكأنَّ دلواً من الماءِ الباردِ قد سُكِبَ عليه.
ما هذا؟ أتى ومعهُ لحمُ البقرِ؟!
وليسَ أيّ نوعٍ عادي، بل لحمُ “هان-وو”!
ليسَ طعاماً عادياً مثلَ النقانقِ المقليةِ أو الحلوى المحلية، بل لحمٌ فاخر؟!
هل اليومُ عيد؟ أو لعلَّهُ يومُ كذبةِ أبريل؟
نهضَ “سام-يونغ” بحماسٍ وفتحَ الصندوقَ.
”ما هذا؟!”
أمامهُ الآن لحمُ “هان-وو” مقطَّعٌ بعنايةٍ ومرتَّبٌ في شرائحٍ مثاليةٍ. بدا واضحاً أنَّ قيمتهُ تُقارِبُ خمسينَ ألفَ وون.
كانَ المنظرُ يُشبهُ وردةً منحوتةً من أفضلِ قِطَعِ اللحمِ. للحظةٍ، شعرَ أنَّ عينيه ستُصابانِ بالعمى بسببِ البريقِ.
في مثلِ هذهِ الحالاتِ، لا بُدَّ من ردِّ الفعلِ السريع.
”يا إلهي! لماذا تُحمِّلُ نفسك عناءَ شراءِ هذا؟ كنتَ ستُسعِدني حتى لو أتيتَ فارغَ اليدين!”
قالها “سام-يونغ” بلهجةٍ ودودةٍ ومُجامِلة، ثم نهضَ على عجلٍ ليُظهرَ احترامَهُ كما لو أنَّهُ يستقبلُ ضيفاً شرفياً.
”لابدَّ أنَّ الطريقَ كانَ شاقاً عليك، هل تُفضِّلُ شايَ اليوزو؟”
”أشربُ أيَّ شيءٍ دونَ تكلُّف.”
”أوه، أنتَ تبدو كالأمراءِ الذين يقتاتونَ على النسيمِ فقط، ومع ذلكَ تُبدي تواضعاً.”
أسرعَ “سام-يونغ” إلى المطبخِ وعادَ وفي يدِهِ كوبٌ رخيصٌ مزخرفٌ بالورودِ، يحملُ شايَ اليوزو.
”شكراً جزيلاً.”
”ما رأيُك؟ رائحتُهُ قويةٌ، أليسَ كذلك؟ لقد صنعتُهُ بيدي!”
”حقاً؟ يبدو أنَّكَ ماهرٌ للغاية.”
”هاها! أشعرُ بالخجل، لكنَّني أمتلكُ موهبةً فطرية. حتى المديرُ لدينا لا يشربُ إلا القهوةَ التي أُعدُّها.”
ضحكَ “سان” ضحكةً خافتةً بينما كانَ يرتشفُ من شايهِ.
“كيف يُمكنُ هذا؟”
كأنَّ الكوبَ الذي لا يتعدَّى ثمنُهُ ألفي وون، والذي اشتراه “سام-يونغ” من متجرٍ عاديٍّ، قد تحوَّلَ بينَ يدي “سان” إلى قطعةٍ أثريةٍ من مجموعةِ أواني الشاي الملكية الفرنسية.
ارتفعَ البخارُ الأبيضُ من الشاي ببطءٍ، ليُغطِّي ملامحَ وجهِ “سان” كما لو كانَ ضبابَ بحرٍ في صباحٍ بارد. بدا المشهدُ كلوحةٍ فنيةٍ متقنةٍ، يكادُ “سام-يونغ” يُقسمُ أنَّهُ سيفقدُ نفسهُ في جمالها.
لكنَّهُ لم يكن بسببِ اللحمِ البقري.
وسيمٌ؟ نعم. نبيلُ الطلَّة؟ أيضاً نعم. ماذا يمكنني أن أقول؟
أنا سام-يونغ. عندما أحتاجُ إلى الاعترافِ بشيءٍ، أفعلهُ كالرجلِ الواثق.
حاولَ “سام-يونغ” تبريرَ ارتياحهِ المفاجئِ أمامَ “سان”، مدَّعياً أنَّ كُلَّ شيءٍ كانَ على ما يُرام. ابتسمَ لنفسهِ، لكنَّهُ فجأةً استيقظَ من شرودِهِ.
“بالمناسبة، لماذا قلتَ أنَّكَ أتيتَ؟”
رفعَ “سان” عينيهِ ببطءٍ ونظرَ إليه.
“جئتُ من أجلِ التعارف.”
كانت كلماتهُ هادئةً وساحرةً، وكأنَّها سحابةٌ من الموسيقى تسلَّلت إلى أُذني “سام-يونغ”.
”سنلتقي كثيراً، وأريدُ أن أُصبحَ صديقكَ.”
وقفَ “سام-يونغ” مذهولاً، ولم يستطع الردَّ.
”أتمنَّى أن أكونَ عندَ حسنِ ظنِّكَ.”
في تلكَ اللحظة، مرَّت نسمةٌ باردةٌ في الأجواءِ، على الرغمِ من السكونِ المُطبقِ حولهما.
انتشرَ الضبابُ، كما لو أنَّهُ يرسمُ حدوداً غامضةً للمشهد.
تلاشت ملامحُ “سام-يونغ” تدريجياً، وهو يُحدِّقُ في وجهِ “سان”.
قبلَ أن تحجبَ غيمةٌ القمرَ بشكلٍ كاملٍ، لَمَعَ بريقُ عينَي “سان”، مشابهاً لونَ النبيذِ المعتق.
وعندما أضاءَ القمرُ ثانيةً، تغيَّرت عيناهُ لتُشبهَ غابةً مُظلمةً تحتَ ضوءِ فجرٍ غامض. كانتا تُومِضانِ بألوانٍ مُتناقضةٍ-حمراءَ كلونِ الدم، وزرقاءَ داكنةً كلونِ الليل.
كانت تلكَ النظراتُ أشبهَ بشيءٍ لا ينتمي للبشرِ، إذ امتزجَ الغموضُ والرهبةُ معاً في تعابيرِ “سان”.
“سنكونُ على وِفاق، أليسَ كذلك؟”
سألَ “سان”، وأومأَ “سام-يونغ” برأسهِ، شِبهَ غائبٍ عن وعيه.
”بالطبع.”
”سنُصبحُ أفضلَ شريكين.”
ردَّ “سام-يونغ” كما لو كانَ مسلوبَ الإرادة.
—
بعدَ مغادرةِ “سان” في ذلكَ اليوم، لم يذُق “سام-يونغ” طعمَ النومِ لعدَّةِ ليالٍ.
الرجُلُ الّذي اختفى فَجأَةً، لم يَكُن هُناكَ ضَمانٌ أَنهُ سَيعودُ يَومًا ليظهرَ في أَحلامِها مِن أَجلِها.
و كما هيَ العادة، تَحَملت كُلَّ شَيءٍ حتّى النهاية، تَغفو قليلًا ثُمَّ تستيقظ مِرارًا وتِكرارًا.
وفي اللَّحَظاتِ الَّتي كانت تَغرَقُ فيها في النَّوم…
“آآآه!”
… لم تتوقف كوابيسُها عَن مُطارَدتِها.
ذلِكَ الظَّلامُ المُرعِبُ، الجَشِعُ، كانَ يَبتلِعُها بِالكامِلِ، يَلتَهِمُ روحها بِنَهمٍ لا يَشبَعُ.
شَعرَت وكأَنَّ قطرات الدَّمِ تُستَنزفُ بِبُطءٍ مِن أَطرافِ قدميها.
بِبُطءٍ شَديدٍ… وبِبُطءٍ أَشَدَّ.
كَعُشبٍ يَذبُلُ تَحتَ شَمسٍ حارِقةٍ.
كيفَ استطَعتُ تَجاوُزَ وَقتِ غِيابِكَ؟
عادَت حَياتُها إِلى نُقطةِ البِدايةِ، لِتَغدوَ في كُلِّ يَومٍ أكثر فوضى.
—
“هَل سَبَقَ أَنْ التقينا مِن قبل؟”
“لَستُ مُتأَكدًا.”
“…”
“لا أَذكُرُ سِوى رؤيَتِكِ على التلفاز يا سيو كانغ.”
ذلِكَ الحِوارُ، الّذي لم يكتمل و لم يَنتهِ إِلى شَيءٍ، ظَلَّ كذكرى عالِقةٍ في ذِهنِها، يَطوفُ في أُذُنَيها بِلا رَحمَةٍ.
مَرَّةً تِلوَ الأُخرى، أَمسَكت هاتِفها، ثُمَّ تَركتهُ جِوارَها.
حَدَّقت في الرقم الّذي تَركهُ لها “سان”، الرقم الّذي باتَ مَحفورًا كالنقشِ في ذاكِرَتِها، مُترددَةً في الاتِّصالِ بِهِ.
لكِنها في النهاية قررت التخلي عَنِ الأمر.
“انسِ الأَمْرَ.”
لو كانَ كُلُّ ما حدثَ مُجردَ وَهمٍ صَنعتهُ مُخَيلَتُها، فَسيَكونُ وجودُها بِالنسبةِ لَهُ لا شيءَ سِوى زبونَةٍ فقدت صوابَها.
حاولت مسحَ الأَرقام الأَحدَ عَشرَ من ذاكِرتها، ثُمَّ فتحت نافذة المُتصفح على هاتِفها.
حساب الشّركة الرّسميّ الذي يُديرُ نَشاطاتِها كانَ قد نَشرَ تَحديثًا عَن أَخبارِها مؤَخرًا.
“أَنا بخير. أُراجِعُ بِعِنايَةٍ خياراتي لِلعمَلِ القادِمِ.”
وكما هوَ مُتوَقعٌ، الصحفيون استَغَلوا الخبر لِنَشرِ شائِعاتِ عودَتِها.
وَظَهَرَتْ أَخْبارُ عَوْدَتِها المُرْتَقَبَةِ عَلى صَفَحاتِ الفَنِّ والإِعْلامِ.
اختارت إِحدى المقالات و بدأت بِقِرائَتِها بِبُطءٍ.
كانت صورةٌ نُشِرَت على حِسابِها الررسميِّ مرفقَةً بِالمقالِ، صورةٌ لَمْح تتذكر متى و كيف اُلتُقِطت.
شعرَت أَنَّ وَجهها في الصورةِ بَدا غَريبًا، كأَنهُ لا يَخُصُّها.
رَفَعت عينيها إِلى المِرآةِ.
انعَكسَ وَجهٌ شاحِبٌ ومُنهَكٌ، كانَ قد أُثقِلَ بِالأَرَقِ والقَلَقِ.
—
صَوتُ آلَةِ صُنعِ القَهوةِ يَملأُ السُّكونَ المُطبِقَ في المطبخ.
كانت تُحضرُ الإِسبيريسو بِنَفسِ الآليةِ المُعتادةِ، بِلا تَفْكيرٍ.
تَحتسي قَهوتَها وكأَنها جُرعَةُ دَواءٍ، ثُمَّ تواجِهُ لَيلةً جديدَةً مِنَ الوحدَةِ والانتِظارِ.
…
الفجرُ الهادئُ، قبلَ أنْ يُشْرِقَ الضَّوءُ.
بعدَ ليلةٍ قضتها تتقلّبُ في سريرها بينَ نومٍ خفيفٍ وأرقٍ متقطّع، أخيرًا استطاعت أنْ تغادرَ سريرها بصعوبة.
خطواتُها على السجّادِ بدت وكأنّها تغرقُ في فراغٍ قاتلٍ، إلا أنّها قاومت ذلك الإحساسَ بالخمولِ وخرجت من المنزل.
كان الهواءُ الباردُ يُلامسُ خدّيها، يوقظُ في داخلها إدراكًا حقيقيًّا بأنّ الموسمَ قد تغيّر خلالَ استراحتها.
فتحتْ بابَ السيارةِ الكبيرةِ التي كانت تنتظرُها في الموقف، فاستقبلتها مباشرةً صوتُ “ساميونغ” العالي والواضح.
“صباحُ الخير!”
تحيّةٌ مألوفةٌ رغمَ الغياب، وكأنّ شيئًا لم يتغيّر.
لكنّ كلماتِه لم تصلْ إلى وعيها، إذ كان هناك شخصٌ آخرُ يشغلُ أفكارها بالكامل، شخصٌ لم يغادرْ رأسها طوالَ الأيام الماضية:
“هل نمتِ جيّدًا؟”
إنه “هان سان”.
جالسٌ في المقعدِ الخلفيّ، ساقاه الطويلتان متقاطعتان، يلقي تحيّةً هادئةً بوجهٍ مشرقٍ لا مثيلَ له.
لم تستطعْ إخفاءَ دهشتها للحظات، لكنّ ملامحَها سرعانَ ما استعادت برودَها.
“هل نمتَ جيّدًا؟” حقًّا؟
لا، لم أنم.
لأنّكَ لم تكن هنا.
أجابتْه بصمتٍ داخلَ عقلها، ثمّ صعدت إلى السيارة دون أن تنبسَ ببنتِ شفة.
لكنّ المفاجآتِ لم تنتهِ عندَ هذا الحد.
“سان، سأذهبُ لشراءِ القهوة، هل تريدُ أمريكانو؟”
“نعم.”
“حسنًا، انتظرْ قليلًا، سأذهبُ وأحضِرُها لكَ.”
“لا، دعْني أنا أحضِرُها.”
“لا بأس، سأذهبُ أنا.”
كانَ الحوارُ الودودُ بينهما كافيًا لجعلها تشكُّ في أذنيها.
تلكَ النبرةُ اللطيفةُ والألقابُ المريبةُ؟!
ما هذا؟ كيفَ أصبحَت العلاقةُ بينهما هكذا؟
هي تتذكّرُ جيّدًا التوتّرَ الذي كانَ يسودُ بينَهما عندَ آخرِ لقاءٍ جمعهما، متى تغيّرتْ الأمور؟
بينما كانت غارقةً في أفكارها، كانت السيارةُ تتّجهُ إلى المقهى المعتاد.
نزلَ “ساميونغ” لشراء القهوة، ولم تنتظرْ طويلًا قبلَ أنْ تستديرَ مباشرةً نحو “سان”.
“ما الذي حدث؟”
“ماذا؟”
“أنتما لم تكونا هكذا آخرَ مرّة.”
نظرَ إليها أخيرًا بعدَ أنْ كانَ يجيبُ دون أنْ يرفعَ عينيه:
“آه، ذلك؟”
أسندَ ذقنَهُ إلى يدهِ بتكاسلٍ وقالَ ببساطة:
“تقابلنا على انفراد.”
“…”.
رغمَ سماعها لتلكَ الإجابة، إلا أنَّ شعورَها بالقلقِ والريبةِ ازداد.
فـ “ساميونغ” شخصٌ معروفٌ بالتحفظِ حتّى مع أولئك الذين يعرفُهم منذ سنواتٍ في العمل، ويُحافظُ دائمًا على علاقةٍ رسميةٍ متبادلةٍ معهم.
كما أنّها لم تنسَ التوتّرَ الذي كان بينهُ وبين “سان”، حيث أظهرَ له بعضَ العدائيةِ غيرِ المتعمّدةِ من قبل.
لذلك، كانَ من الصعبِ عليها تقبُّلَ تفسيرِ “سان” بأنّه التقاهُ فقط للتقرّبِ منه.
“هل ذهبتَ إليهِ لتهدّده؟ ربما قلتَ له إنْ أزعجكَ، فلن تتركهُ بحاله؟”
كانَت كلماتُها الجريئةُ مليئةً بالشكّ، الأمرُ الذي جعلَ “سان” يضحكُ بخفوتٍ.
بدا أنّها تعرفُ “ساميونغ” جيدًا، وتدركُ أنّه ليسَ من النوعِ الذي يمكنُ التأثيرُ عليهِ بسهولة، مثلها تمامًا.
“الرئيسُ وأخي ساميونغ، كلاهما ليسَ من النوعِ الذي يُمكنُ التلاعُبُ بهِ بسهولة. لكنْ معكَ، يبدو أنّ الأمورَ تسيرُ بسلاسةٍ غريبة.”
“…….”
“كأنّهما مسحوران بشيءٍ ما.”
كانتْ نبرةُ صوتِها أقربَ إلى الاستجوابِ، محاولةً معرفةَ ما يحدث.
لكنْ، على الرغمِ من كلماتِها تلك، لم يكن “سان” سوى هادئٍ، بل وأجابَ بكلّ بساطةٍ دونَ تردد:
“ربّما يكونان كذلك.”
تلكَ الكلماتُ البسيطةُ والصادمةُ جعلتْ عينيها تتوسّعانِ بدهشةٍ وهي تُحدّقُ إليه.
كانَ “سان” مسترخيًا في مكانه، ساقاهُ متقاطعتان، مسندًا ظهرهُ إلى الكرسي، وعلى وجههِ ابتسامةٌ هادئة.
بدتْ إجابتهُ وكأنّها تحملُ تأكيدًا أكثرَ ممّا هيَ مجرّدُ ردٍّ عابرٍ.
رغمَ أنّها كانتْ قد تصدّقُ أنّه يمزح، إلا أنّ نبرةَ صوتهِ وإيقاعَ كلامهِ جعلا الأمرَ يبدو جادًّا بشكلٍ مربك.
وهكذا، كانتْ تلكَ الجملةُ، التي من المفترضِ أنْ تكونَ غيرَ معقولة، تبدو معقولةً للغاية:
“ربّما يكونان كذلك.”
لقد تسلّلتْ هذه الكلماتُ إلى عقلها، وكأنّها تُلقي ظلالًا من الحقيقةِ على أمرٍ مستحيل.
الرجلُ الذي يُسحرُ من حوله.