Your sweet breath - 10
في الردهة الواسعة، وقفت وحدها لبعض الوقت، كما لو كانت قد ثبتت في مكانها بلا حراك.
“تصبح على خير.”
ظلّ وجه “سان”، وهو يبتسم لتصريحها الجنوني بأنه لا يُهمّ إن لم يكن إنسانًا، عالقًا في ذهنها كصورةٍ باقية.
ربّما كان يحاول إخفاء حقيقته، لكن…
“الحقيقة ستنكشف دائمًا.”
ما دام قد أصبح جزءًا من حياتها، فلا مفرَّ من ظهور الحقيقة يومًا ما.
سواء أكان ذلك كشفًا لهويته الحقيقية، أم تعقيدات العلاقة التي جمعت بينهما.
أبعدت “كانغ” نظرها عن المصعد بهدوء، ثم استدارت لمتابعة طريقها.
دوّى صوت خطواتها على الرخام الصلب قبل أن يخفت تدريجيًا.
وعندما تمّ إلغاء قفل الباب الثقيل وفتح، استقبلها صمتٌ واسعٌ بحجم شقتها الكبيرة.
لكنها، على غير العادة، لم تجد في ذلك الصمت إزعاجًا اليوم.
فجسدها، الذي ظلّ مُثقلًا بإرهاقٍ لا حلّ له، أصبح أخيرًا خفيفًا على نحوٍ غريب.
“أقلُّ من ثلاثينَ دقيقةِ نوم، ومع ذلك أشعر بالانتعاش هكذا؟”
أثناء تذكّر أحداث اليوم، راحت “كانغ” تدلّك كتفيها المتحررين من التصلّب.
في هذه اللحظة فقط، أدركت مجددًا كم يُحدث النوم الجيّد فرقًا مذهلًا.
فكّرت في الاستمتاع بحمامٍ دافئ، وهو أمر لم تحظَ به منذ وقتٍ طويل.
فتحت الصنبور وملأت حوض الاستحمام بالماء الدافئ، بعد أن أضافت إليه كميةً سخيةً من أملاح الاسترخاء.
داخل الحمّام المليء بالرغوة الغنية، انتشر عبير الورد العميق في الأرجاء.
كان جسدها، الذي استرخى تمامًا، على وشك الذوبان في الماء مثل قطعة من غزل البنات.
استمتعت “كانغ” بهذا الإحساس المريح، قبل أن تلتقط هاتفها الموضوع بجوارها.
راحت تتصفح الإنترنت بلا هدف، حتى قفز إلى ذهنها فجأة ذلك الكتاب الذي رأته في المكتبة منذ فترة.
『حول الأحلام التي لا تعرفها』
كتابٌ انطبعَ بوضوحٍ في ذاكرتِها، لكنه لم يترك أثرًا في أي مكان آخر.
تساءلت إن كان بإمكانها العثور عليه هذه المرة، لذا بحثت مجددًا عن عنوانه عبر الإنترنت.
لكن…
“هاه؟”
ظهرت أمامها مشاركة لم تكن موجودة في البحث السابق.
كانت تحمل العنوان ذاته تمامًا، “حول الأحلام التي لا تعرفها.”
جذبها الفضول، ففتحت الرابط دون تردد.
كان أسلوب الكتابة في البداية بسيطًا للغاية، بل أقرب إلى الجفاف.
لا تحيّة، لا رموز تعبيرية، ولا حتى لمسة شخصية في الكلمات.
كان الخطّ منتظمًا ومنمقًا، لكنه حمل جفافًا غريبًا، كما لو كان خاليًا من المشاعر.
عندما مرّرت الشاشة إلى الأسفل، وجدت صورةً مرفقة.
كانت تبدو وكأنها جزءٌ مقتبس من الكتاب نفسه، كما لو أن أحدهم قد التقط صورةً لإحدى صفحاته ونشرها كما هي.
ما هو الكائن المسمى “مونغما”؟
إنه كائن يعيش على الخوف والرعب الذي يشعر به البشر أثناء الكوابيس.
وُلدوا في الأصل من أعماق الأرض، وظلّوا يتعايشون مع البشر منذ الأزل.
كانت “كانغ” تركّز كل حواسها على الكلمات، تقرؤها بعناية وكأنها تحفرها في ذاكرتها.
كما أن “تشونين” (الكيانات السماوية) يتحكمون في ولادة البشر وموتهم، وفي كل المشاعر الإيجابية والسلبية التي يشعر بها البشر خلال حياتهم، وكذلك في أحلامهم، بما فيها الأحلام الجيدة، الكوابيس، الأحلام التنبؤية، وأحلام الولادة. وُجدوا ليجعلوا البشر يعيشون كما ينبغي لهم أن يعيشوا.
ومن هذه الناحية، فإن كوابيس “تشونين” تختلف تمامًا عن كوابيس “مونغما”. قد تبدو الأحلام متشابهة في طبيعتها، لكن الهدف من زرعها مختلف تمامًا.
كانت النظريات المعقدة والمجردة المكتوبة في الكتاب تتخذ بسرعة ترتيبًا واضحًا في ذهنها.
بعبارة أخرى، هناك كائنات تتدخل في الأحلام، وتنقسم إلى فئتين.
الفئة الأولى هي “مونغما”، وهي كائنات تجعل البشر يحلمون بالكوابيس وتتغذى على الخوف الذي يشعرون به أثناء تلك الأحلام.
أما الفئة الثانية فهي “تشونين”، وهي كائنات تجعل البشر يحلمون أيضًا، لكنها لا تتغذى على مشاعرهم، بل تشرف فقط على الأحلام بأشكالها المختلفة، مما يساعد البشر على العيش كما ينبغي لهم.
خفضت نظرها لترى في نهاية الصفحة علامة نجمة صغيرة، يليها تفسير موجز:
“تشونين” تعني رُسل الحُكام الذين يتولون أمور السماء.
شعرت وكأن الأجزاء الغامضة التي كانت مبعثرة في ذهنها بدأت تتخذ مكانها الصحيح، كأحجية تُحل قطعةً تِلو الأخرى.
لكنها لم تعتبر كل هذا مجرد خيال جامح.
لقد مرت بالفعل بالعديد من الأمور التي لا يمكن تفسيرها بالكلمات، والأهم من ذلك، أنها لا تزال تتذكر بوضوح ذلك الصوت الذي سمعته قبل عشرين عامًا، في يوم الحادثة.
في اللحظة التي كانت فيها على حافة الموت، سمعت ذلك الصوت يقول بوضوح شديد:
“ستعانين من كوابيس مرعبة كل ليلة… ولكن، هل ترغبين في العيش رغم ذلك؟”
“حسنًا. سأمنحك عشرين عامًا. لذا، لا تموتي حتى ذلك الحين، واصمدي.”
كان صوت المرأة لطيفًا لدرجة أنه جعل الدموع تتدفق من عينيها، بينما كان صوت الرجل منخفضًا وبطيئًا، يحمل برودة خفيفة.
لم يكن ذلك مجرد حلم، ولم تكن هلوسة أيضًا.
كما قالت المرأة، كانت تعاني من كوابيس كل ليلة، وكما قال الرجل، تمكنت من التشبث بالحياة لمدة عشرين عامًا كاملة.
وعند نهاية العشرين عامًا التي وعد بها الرجل… التقت بـ هان سـان وكأنها معجزة.
كيف يمكن أن يكون كل هذا مجرد مصادفة؟
كانت قد استغرقت وقتًا طويلًا في التفكير، وحين انتبهت، وجدت شاشة هاتفها قد انطفأت.
ضغطت على الزر لإضاءتها مجددًا، لكنها لم تجد صفحة الإنترنت التي كانت تقرأها، بل عادت إلى الشاشة الرئيسية.
بدا الأمر غريبًا، فبحثت عن المنشور مرة أخرى، لكنها لم تعثر عليه.
لقد اختفى تمامًا، كما لو أنه لم يكن موجودًا منذ البداية.
تمامًا كما حدث عندما رأت ذلك الكتاب في المكتبة لأول مرة.
توالت الأحداث الغامضة أمامها، لكنها لم تعد تشعر بالمفاجأة أو الذهول كما في السابق.
وضعت الهاتف جانبًا، وملأت كفها بالماء من حوض الاستحمام لتبلل وجهها.
كان الماء البارد كفيلًا بإيقاظ ذهنها، لكنه لم يبدد الأسئلة التي أخذت تدور في عقلها.
هان سان.
كان وجود ذلك الرجل هو السؤال الذي ظل عالقًا في ذهنها.
لكن ما تغير خلال الساعات القليلة الماضية هو أنها أصبحت تعرف السؤال الصحيح الذي يجب أن تطرحه.
“أنت… أيٌّ منهما؟”
كانت قد خرجت من حوض الاستحمام، وغسلت جسدها بالماء البارد، ثم غادرت الحمام.
بعد أن أنهت استعداداتها للنوم، استلقت على سريرها، وأبقت مصباحًا صغيرًا مضاءً بجانبها.
لطالما كانت تخشى النوم، لكن هذه المرة قررت أن تتحلى بالشجاعة كما تفعل دائمًا.
كل شيء يسير وفق مساره الطبيعي، وما تبقى الآن هو انتظار اللحظة التي ستتضح فيها الأمور تمامًا.
“تُرى، هل ستظهر الليلة؟”
تمتمت بهذه الكلمات لنفسها، بينما كان صوت وداعه العذب يتردد في أذنها مجددًا.
“تصبحين على خير.”
وهكذا، استسلمت للنعاس وأغلقت عينيها ببطء.
حلّ الظلام من حولها.
تلاشت رؤيتها، وشعرت بضغط ثقيل يحيط بجسدها، يسحبها إلى أعماق بحر النوم العميق.
وفجأة…!
شعرت وكان جسدها يُسحب بقوة إلى داخل شيء ما، وكأنها تسقط إلى مكانٍ ما.
“آآآه!”
صرخة مفجعة خرجت من فم كانغ، قبل أن تستفيق أخيرًا من حلمها.
جلست فجأة و رفعت جذعها لتتأمل ما حولها.
كل شيء كان كما كان قبل أن تنام.
لكن مشاعر الخوف التي لم تختفِ تمامًا جعلت جسدها كله، مع كل حواسه وخلاياه، تنبض بالحركة.
كانت بشرتها مغطاة بالعرق، وزفيرها ثقيل على صدرها.
“هاه… هااا.”
تنفست بعمق، وخرج نفسها المحتبس أخيرًا.
لكن جسدها كان لا يزال يشعر وكأنه ثقيل، وكأنها لا تزال تحت تأثير ضغط قوي.
الهواء الرطب الذي يلتصق بالبشرة كان يحمل شعورًا غريبًا، وكأن شيئًا ما ليس على ما يرام.
كان هناك شيء غير طبيعي.
بالرغم من أنها كانت قد استيقظت من الحلم،
“……”
فجأة، شعرَت بقشعريرة تجتاح جسدها.
بتذكر الصوت الذي كانت تسمعه دائمًا في أحلامها، نادت “سان” بكل يأس.
استرجعت آخر لقاء لها به، وتذكرت الكلمات التي قالها لها في المصعد.
“إذا ناديتني، سأكون هناك”.
هانسان، هانسان، هانسان.
تدافعت الكلمات في فمها، لكن لم تخرج.
بينما كان الصمت يهيمن، عادت الكوابيس فجأة بلا تحذير.
صوت اهتزازات شديدة، وكأن الأرض تهتز، ومعه، فتح السقف فجوة كبيرة تشبه الثقب الأسود. ومن داخل الظلام، برزت عين كبيرة حمراء ومخيفة، تحدق فيها.
كانت يديّ غانغ تحيطان بوجهها، بينما صرخت بأعلى صوتها.
آآآآآه!
وفي اللحظة نفسها،
“هانسان!”
اسم الذي كان يهيمن على كوابيسها تبعثرت في الهواء.
مع صرخاتها، بدأت النوافذ الكبيرة تتحطم واحدة تلو الأخرى.
بوم! بوم! بوم!
تحطمت الزجاجات بشكل مروع، محدثة أصوات انفجارات ضخمة.
تحطم الزجاج في كل مكان!
في غضون لحظات، أصبحت الغرفة وكأنها تعرضت لهجوم قنبلة، وتحولت إلى فوضى.
مع الصوت المدوي الذي كان يوشك أن يثقب طبلة الأذن، غطت أذنيها ودفنت وجهها في ركبتيها بينما كانت تصرخ، لكن حتى صرخاتها اختفت تحت الضجيج الهائل.
ثم في لحظة ما…
سحب سان بهدوء كانغ إليه، واحتضنها دون كلمة.
ثم مرر يده على شعرها برفق، كما لو كان يهدئ طفلًا صغيرًا.
“لماذا تأخرت في الظهور؟ كم كنت أتمنى أن تأتي.”
انهمرت دموعها كما لو كانت سيلًا.
مشاعر مختلطة من اللوم، والحزن، والغضب اندمجت مع دموعها، فتدفقت بشكل غزير.
سان، دون أن يرد، قبِل بكلماتها المتذمرة بصمت.
عندما هدأت دموعها بعد فترة طويلة، ابتعد قليلًا، والتقت عيناهما، ثم ناداها بلطف.
“كانغ… “
لمست يده الجافة عينيها المبتلتين،
“هل انتهيتِ من البكاء؟”
وكانت كلماته، شديدة البرودة ولكنها حارقة في نفس الوقت، تغرز في قلبها.