The two heirs - 03
حين أمرتها أمها أن تقطف زهرة واحدة فقط، مدّت ريلا يدها بحذر لتقطف تلك الزهرة الجميلة.
وبعد مرور بضعة أيام، ذبلت الزهور التي جلبتها شقيقاتها وسقطت أوراقها، إلا أن الزهرة التي قطفتها ريلا كانت ما تزال تفتح أوراقها مشرقة وكأنها قد قُطفت للتو.
وجدت أم ريلا في ذلك شيئًا غريبًا، لكنها لم تعتبره أمرًا ذا شأن. بل ظنت أن ابنتها تملك حسًا جيدًا في اختيار الزهور، ولم تتوقع أن يكون هناك سرٌّ وراء ذلك.
غير أن تكرار تلك الحادثة، بالإضافة إلى ما قالته ريلا وهي تبكي ذات يوم، جعل والدتها تدرك أن الأمر أكبر مما كانت تتخيل. فقد أخبرت ريلا والدتها بأن إحدى صديقاتها اتهمتها بالكذب حين قالت لها إن الزهور تشع نورًا، إذ لم تكن صديقتها ترى ذلك.
أمضت الأم وقتًا طويلًا تستمع إلى ابنتها قبل أن تهمس لها بجدية:
“يا ريلا، أرى أن من الأفضل أن تبقي ما ترينه سرًا لا تُخبرين به أحدًا.”
ثم شرحت لها الأم، مطولًا وبوضوح، لماذا من الأفضل أن تبقي هذه الرؤية لنفسها. فكون الإنسان مختلفًا عن الآخرين أمر معقد. قد يكون نعمة، لكن في الوقت ذاته قد يكون سببًا للنبذ والرفض. لا سيما إذا كان ما يراه أو يفعله لا يستطيع الآخرون رؤيته، فإنه سيواجه الكثير من الألم والمعاناة.
رغم صغر سنها، كانت ريلا تفهم تمامًا نوايا والدتها وقلقها، وأدركت أن نصيحتها كانت نابعة من حبها وخوفها عليها. ومنذ ذلك اليوم، لم تخبر ريلا أحدًا عن ما تراه.
حتى عندما اكتشف العلماء أن الزهرة التي رأتها في الحديقة، والتي كانت تشع ألوانًا مختلفة في عينيها، هي زهرة لا تزهر إلا مرة واحدة كل مئة عام، لم تنبس ببنت شفة.
تذكرت ريلا تلك الأحداث وهزت رأسها لتتخلص من تلك الذكريات، ثم نهضت من مكانها. كان عليها أن تُنهي تنظيف المتجر وتعود إلى المنزل. تنهدت وهي ترفع الدلو المملوء بالزنابق.
“ظننت أن أحدهم قد يتعرف على هذه الزهور الغريبة، لكن يبدو أنني كنت مخطئة.”
ثم تأملت ريلا الزهور مرة أخرى. لم تكن هذه الزهور محض صدفة، بل هي من زرعتها بنفسها.
قبل فترة قصيرة، اكتشفت ريلا أن لديها قدرة أخرى غريبة.
فحين زارت متجرًا شهيرًا للزهور في العاصمة، رأت في الفناء الخلفي للمتجر العديد من الأحواض التي تحتوي على نباتات جافة وذابلة. وحين سألت عن ذلك، أخبرها العاملون بأن تلك النباتات قد تعرضت لوباء غامض قضى عليها.
بينما كانت تستعد للرحيل، لاحظت ريلا حوضًا واحدًا بدا مختلفًا. ورغم أن أغلب أوراقه كانت جافة، إلا أن هناك ورقة واحدة كانت لا تزال ملتصقة به.
فكرت ريلا قائلة لنفسها: “ربما يمكنني إنقاذه.”
طلبت من العاملين أن يأخذوا لها الحوض المتبقي، وعادت به إلى منزلها، حيث وضعته بالقرب من النافذة واعتنت به. كانت تأمل أن تنعشه رعايتها، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة. فقد كان النبات يبدو وكأنه على وشك الانتعاش، لكنه سرعان ما كان يذبل مجددًا، وكأنه قد تجمد في الزمن.
زاد إصرار ريلا. وبدأت في استخدام جميع أنواع المغذيات النباتية، ولم تدخر جهدًا في البحث عن كتب في مكتبة المدينة حول أمراض النباتات. كما استشارت أشهر مزارعي الزنابق للحصول على نصائحهم.
لكن رغم كل جهودها، ظل الحوض في حالة مزرية.
“لماذا لا تتخلصين من هذا الحوض؟ لقد مرّ عام كامل ولم يحدث أي تحسن!”
كانت شقيقتها ريلا، التي جاءت لزيارتها، تستنكر إصرارها على الحفاظ على الحوض. لكن ريلا لم تستطع التخلي عنه. مر عام كامل، وكان الحوض لا يزال كما كان في يومه الأول، قابعًا بين الأحواض الأخرى، ذابلًا وضعيفًا.
جلست ريلا أمامه وقالت بأسى: “أعتذر منك، يبدو أن قدراتي لا تكفي لإنقاذك.”
كانت تتمنى أن تعيد الحياة للنبات وتجعله يزهر مجددًا، لكن الجهود باءت بالفشل. وعادت ريلا إلى غرفتها وقد ملأها الحزن واستسلمت للنوم.
وفي صباح اليوم التالي، نزلت إلى الطابق السفلي وهي تفرك عينيها من النعاس، وإذا بعينيها تتسعان دهشة.
النبات، الذي كان ذابلًا تمامًا بالأمس، بدا اليوم وكأنه قد عادت له الحياة. أوراقه كانت نضرة ومشرقة، وكانت تتلألأ بقطرات الندى.
وفي غضون أيام قليلة، ظهرت براعم جديدة وتفتحت الزهور. وعندما رأتها ريلا، لم تستطع إخفاء دهشتها، فوضعت يدها على فمها متعجبة.
“إنها تتلألأ!”
كانت زهرة الزنبق في الحوض تلمع كما كانت تلك الزهرة النادرة التي عثرت عليها ريلا ذات مرة في الحقول. ولم تكن زهرة واحدة فقط، بل جميع أزهار الزنبق التي أزهرت كانت تتلألأ.
الزنبق الذي أحضرته اليوم هو نفس تلك الزهرة. كانت تأمل، حين رأت الغرباء يمرون في طريقهم نحو قصر إيتن لتقديم التعازي، أن يتعرف أحد على تلك الزهور المميزة، لكن كما توقعت، لم يلحظها أحد.
“حان وقت العودة إلى المنزل.”
بدأت ريلا في ترتيب الزهور لتستعد للمغادرة. كانت الطريق المؤدية إلى قصر إيتن هادئة على غير العادة، بعد أن غادر معظم المعزين. وأصحاب المحال المجاورة بدؤوا هم أيضًا في إغلاق متاجرهم والعودة إلى منازلهم، كما كانت تفعل ريلا. وفجأة، سمعت صوت عجلات عربة تقترب من بعيد.
“هل يكون ضيف تأخر في الوصول؟”
رفعت ريلا رأسها لترى عربة تقترب بسرعة.
“واو…”
خرجت شهقة دهشة منها دون قصد. كانت العربة تجرها ثمانية أحصنة. في شارع بريكس، كانت العربات المألوفة تُجر عادة بحصانين فقط. وفي إحدى المرات، حين مرت عربة تجرها أربعة أحصنة، خرج الجميع إلى الطريق لمشاهدتها بانبهار. أما ثمانية أحصنة؟ فذلك لم يكن مألوفًا.
انحنت ريلا برأسها. كان من المؤكد أن هذه العربة تعود لعائلة نبيلة عظيمة، ربما أحد أفراد العائلة المالكة أو من يقاربهم في المكانة.
“سأنتظر حتى تمر.”
وقفت ريلا تنتظر مرور العربة ببطء، رغم أنها كانت تجرها ثمانية أحصنة، إلا أنها لم تكن تسرع. ولما اقتربت منها، توقفت فجأة.
“توقفوا!”
صدر الصوت من داخل العربة، كان صوت امرأة يأمر السائقين بالتوقف. في لحظة، أوقف السائقون العربة بمهارة ودقة مدهشة.
“ما الذي يحدث؟”
بدأ الناس الذين كانوا ما زالوا في الشارع يتجمعون، ونظر صاحب متجر الأحذية المجاور بدهشة نحو العربة قبل أن يهتف بصوت عالٍ:
“إنه شعار ساحر الأحجار الكريمة!”
“ماذا؟”
“بالتأكيد! إنه الشعار المرسوم عليه التنين الملقى على الأرض وثلاثة جواهر! إنه دوق هوسون!”
عند سماع اسم دوق هوسون، اتسعت أعين الناس في دهشة. واندفعوا كالفيض نحو العربة. ولم تكن ريلا مختلفة. فحين سمعت اسم “دوق هوسون”، فتحت فمها مندهشة وهي تحدق في العربة.
دوق هوسون. لا أحد في هذا البلد لا يعرف ذلك الاسم.
أعظم ساحر للأحجار الكريمة. أسطورة كارديا. البطل الذي حمى الناس من التنين. كان الأطفال يتطلعون إليه بإعجاب، والكبار يوقرونه ويحترمونه.
بينما كان همس الناس يتزايد، فُتح باب العربة. خرجت منها خادمة ترتدي زيًا تقليديًا، ثم مدت يدها لتساعد الشخص الذي كان بداخل العربة على النزول.
ترجلت امرأة ذات شعر فضي اكتسبه الشيب بفعل السنين، مستندة على يد خادمتها التي ساعدتها في النزول من العربة. رغم تقدمها في العمر، كان ظهرها لا يزال مستقيمًا، ونظرتها الحادة تملأ القلوب هيبة. لم يكن أحد بحاجة إلى تفسير، الجميع أدرك أن هذه المرأة هي دوقة هوسون. كانت خطواتها واثقة، تستند إلى عصاها بخطوات ثابتة، لتلتفت نحو الناس.
كانت هذه المرأة، التي وقفت يومًا في ساحات المعارك كأقوى ساحر للأحجار الكريمة، والتي قضت على التنانين الطاغية، رمزًا حيًا من رموز البطولة. رأى الجميع فيها تلك الهالة، فأزالوا قبعاتهم وانحنوا إجلالًا لها. قيل إن حتى الملك نفسه ينحني أمامها. وما أثار دهشة الجميع هو توقف الدوقة المفاجئ ونزولها من العربة، فأخذوا يتساءلون عن السبب. لكنها لم تتركهم في حيرة، حيث نطقت بصوت جهير:
“كم ثمن تلك الزهور؟”
رفعت ريلا رأسها متفاجئة، وقد كانت الدوقة تنظر إليها مباشرة.
“ماذا؟” نطقت ريلا بحيرة، غير مصدقة أن الدوقة هوسون توجهت إليها بالكلام.
لطالما سمعت ريلا عن دوقة هوسون، ولكن ليس بسبب علاقة شخصية بينهما، بل كأي شخص آخر في المملكة، كانت تعرفها من خلال الأخبار. وكانت ريلا تقتني الصحف القديمة التي لم تعد تُباع، من مكتب البريد القريب، لتغلف بها زهورها البسيطة، وغالبًا ما تصادف أخبارًا عن تلك الدوقة. لكن تلك الأخبار لم تكن تتصدر الصفحات الأولى، بل كانت تذكر في صفحات التاريخ التي تُذكّر الناس بماضٍ مجيد.
اسم الدوقة كان ‘بلاريا أنديل هوسون’، لم تكن من عائلة ملكية أو نبيلة، بل كانت من عامة الشعب، لكنها بفضل موهبتها العظيمة في التحكم بالأحجار الكريمة، استطاعت القضاء على تنانين جشعة وأنقذت المملكة من الهلاك. فمُنحت لقب “الدوقة” مكافأة لإنجازاتها العظيمة.
قد يكون هناك الكثير من السحرة الذين منحوا ألقابًا بفضل مواهبهم، ولكن بلاريا كانت الوحيدة التي حصلت على لقب “دوقة”. بالنسبة لريلا، كانت الدوقة هوسون شخصية عظيمة وبعيدة المنال، تمامًا كالصورة المرسومة في الأذهان عن الأبطال الأسطوريين. لكنها اليوم تقف أمامها، وتتحدث إليها!
ارتبكت ريلا وهي تنظر إلى الدوقة. كانت تتوقع أن ترى تلك المرأة العظيمة محاطة بالأحجار الكريمة والمجوهرات، ولكن الدوقة لم تكن تضع سوى سوار من اللؤلؤ الوردي حول معصمها.
“الزنبق الذي تحمله في ذاك الدلو، كم ثمنه؟”