My Beloved, Whom I Desire to Kill - 6
استمرَّ الضجيجُ المنتظمُ لعجلاتِ القطارِ تَجري على السِّككِ بِلا انقِطاعٍ. وَسطَ ذُهولِهِ النَّاعِس، أَيقظَ صَفيرٌ مُفاجِئٌ وَعيَهُ.
عندما رَفعَ إِدوين جِفنيهِ بِبُطء، وَقعَ نَظرُهُ على فتاةٍ ورَاءَ نافِذةِ القِطار.
بَدت في الثانيَةَ عشرَةَ أَوِ الثالِثةَ عشرَةَ مِن عُمرِها.
كانت تجلِسُ على سورٍ بِجِوارِ السِّكة الحديديّة، تُلوِّحُ بِيدِها، و تَبدو في نفسِ سِنِّ جيزيل.
اندفعَ القطارُ مُسرِعًا، مُخترِقًا القُرى الرِّيفيَّة، مُجتازًا المزارِعَ و الحظائِر ذاتِ السُّقُوفِ المُغطَّاةِ بالطُّحلب. ذكره هذا المكان بالمكانِ الذي لَقِيَ فيهِ جيزيل لأوَّلِ مَرَّةٍ.
كانَ مِنَ الطّبيعيِّ أَن تنجَرِفَ أَفكارُهُ نَحوَ ذلك الوقت، وَأَن يَكتسيَ وَجهُهُ بِالكآبة.
فتاةٌ هزيلَةٌ، مُتسِخةٌ بِدِماءِ غيرها، مُلقاةٌ إِلى جانِبِ جُثَّةٍ، تتظاهَرُ بالموت.
لا زَالَ مشهَدُ وجهِها، الشاحِبِ رُعبًا، ماثِلًا أَمامَ عينيه بِكُلِّ وَضوحٍ. كيفَ يُمكِنُ لِأَحدٍ أَن يَنسى اللحظة التي اضطُرَّت فيها طِفلةٌ لم تتجاوَزِ العاشِرَةَ مِن عُمرِها إِلى ذلك الحَدِّ المُتطرِّفِ لِكي تَنجو؟
“لا! دعني أَذهَب!”
في البداية، صرخت الطفلةُ، مُحاوِلَةً الفِرارَ مِنهُ، و لكِن ما إِن قدَّمَ لها قِطعةَ شوكولا مِن جيبِهِ، حتّى هَدأَت.
يا تُرَى، كم كانت جائِعةً لِدرجةِ أَن تَكبحَ خوفها بِهذِهِ السُّهولة؟
و بينما كانت تَحشُو فَمها على عَجَلٍ بِكُلِّ ما يُقدِّمُهُ لها، لم تَكُفَّ عن تَحديقِها الحذِرِ فيه.
يا تُرَى، ما الذي مَرَّت بِه؟
عِندما سَأَلها عَمَّا حدثَ في قريتها، رَوَتِ الفتاةُ ذَاتُ العُيونِ الخاويَةِ فَظائِعَ لا يُطاقُ سَماعُها، بِصوتٍ خَالٍ مِنَ الدُّموعِ أَوِ المشاعِرِ.
كُلَّما تعرَّفَ إِدوين أكثر إِلى جيزيل، زَادَ الألمُ في قلبِه.
و لكن في نُقطةٍ ما، تَغيَّرت مَكانةُ جيزيل في نفسه.
الصَّغيرةُ التي كانت تَخشاهُ في الماضي بَدأَت تَقترِبُ مِنهُ بِمُبادَرتِها. كانت تَتسلَّلُ لِلنظرِ إِليهِ من خَلفِ زاويةٍ، ثُمَّ تَدنُو بِبُطءٍ لِتبقى بِجانِبِه.
كجَروٍ صغيرٍ، مُمتلِئٍ بِالوَحدَة بِقدرِ ما هوَ مُمتلِئٌ بِالخوفِ.
مَرَّةً، تَسلَّلَت سِرًّا و أخذت حِذاءَهُ لِتُنَظفهُ، مُعبِّرَةً عن اِمتِنانِها على طريقتِها…
“شُكرًا لك.”
تِلكَ الكلِماتُ البسيطةُ كانت أَوَّلَ مَرَّةٍ تَبتسِمُ فيها. و مُنذُ ذلِكَ اليوم، بَدأَت تَتبعُهُ في كُلِّ مَكانٍ.
كانَ مِنَ الصّعب وَصفُ سُلوكِها بِشيءٍ سِوَى اللُّطفِ البالِغِ. و حتّى الآن، عندما يَستعيدُ تِلكَ الذكريات، ترتَسِم اِبتِسامةٌ خفيفةٌ على وجهه.
جيزيل، داخِلَ دائِرةِ حِمايتهِ، بَدأَت تدريجيًّا في اِستِعادةِ ملامِحِ الطُّفولة الطّبيعيّة. كانت تَربِطُ أَشرِطَةً زاهيةً حَولَ عُنُقِ قِطٍّ ضَالٍّ تَبنَّتهُ، و كانت تُصِرُّ على أَن يَرويَ لها قِصصًا مُضحِكةً.
مُشاهدةُ تَعافيها بِهذهِ الطّريقة جعلت إِدوين يَشعُرُ بِأَنَّ بَعضَ جِراحِه الخفيَّة، التي خلَّفَتها الحرب، بَدأَت تَلتئِمُ أَيضًا.
و على الرَّغمِ مِن تَدريباتِه العسكريّة العديدة، مِنَ الأَكاديمية العسكريّة إِلى وُجودِهِ في ميدانِ القِتال، كانت هذِهِ أَوَّلَ تَجرِبةٍ لَهُ في الحرب الحقيقيّة. و قد كانَ وَاقِعُها أكثرَ رُعبًا مِمَّا تَخيلَهُ يَومًا.
كَان عليه أَن يُحافِظَ على رَصانةِ القائِدِ بارِدِ المشاعر، و لكن كُلَّما طَالَ أَمَدُ الحرب، شَعرَ بِأَنَّ شيئًا ما فيه يَموتُ تَدريجيًّا.
أكثرُ ما لم يَستطِع تَحمُّلهُ هوَ رؤيةُ الأطفال، الذينَ كانَ يجِبُ أَن تَكونَ أَرواحُهُم مُتَّقِدةً بِالنُّورِ، و هُم يفقِدونَ بَراءَتهُم. أَرادَ أَن يكون مُخلِّصهُم، و لكن واجِباتِه كجُنديٍّ حوَّلتهُ إِلى مُشارِكٍ في مأساتِهِم.
ذلك الطِّفلُ الذي كانَ يضُمُّ جُثَّةَ والِدتِهِ في منزِلٍ مُدمَّرٍ بِسببِ غارَةٍ جوِّيةٍ، يبكي.
تِلكَ الجُثثُ الصغيرة التي وَجَدوها بَعدَ مَعارِك الشّوارِع، و التي تَركت في نَفسِهِ جُرحًا لا يُمكِنُ أَن يُضمِدهُ الزَّمَن.
أُولئِكَ الفتيةُ المُجندون في جيشِ “كونستانتين”، الذينَ لم يَكُن أَمامهُ خِيارٌ سِوَى قتْلهِم لأَنهُم كانوا من جيش العدوّ.
أصبحَ إِدوين يائِسًا أَكثرَ فأَكثر في سعيِهِ لِلتكفيرِ عن ذُنوبِه. كُلما رَأَى يتيمًا في ميدانِ المعركة، كانَ يُنقِذُهُ و يُرسِلُهُ إِلى المَلجإِ الذي تَتكَفلُ بِه عائِلتُهُ.
و لكِن جيزيل كانت أَوَّلَ طِفلةٍ يأخُذُها مَعهُ طوَالَ الحرب، و أَوَّلَ مَن تعلَّقَ بِها بِشكلٍ حقيقيٍّ.
“لا أُصدقُ ذلك… إِذن فهوَ حقًّا صحيح أَنكَ كُنتَ تأخُذُ يتيمةً مَعكَ في ساحة المعركة…”
عندما أَحضرَ إِدوين جيزيل إِلى المنزل بعدَ الحرب، كانَ أَخوهُ الأَكبرُ – الذي تُوفِّيَ الآن – في حالةٍ مِن الذُّهولِ، فقد كانَ مَشهدُ الرجُل الأعزب الذي يَعتني بالطفلة و يُعَلمُها بِكُلِّ مَهارةٍ أَمرًا فاقَ كُلَّ توقُّعٍ.
و لكِنَّ العشرَ سِنينَ لم تَكُن عُمُرًا صعبًا لِلتوجيه. بَل على العكس، كانت جيزيل طِفلةً مُهذبَةً.
في الحقيقة، المرَّةُ الوحيدةُ التي عَصت فيها إِدوين كانت عِندما حانَ وقتُ فِراقِهما.
“أَرجُوكَ، خُذني معك…”
“لا أستطيع. ساحةُ المعركة خطيرةٌ جِدًّا عليكِ.”
في البداية، كانَ ينوي إِرسالَها إِلى المَلجأ مِثلَ باقي الأطفال. و لكِنهُ لم يستَطِع.
تِلكَ الطِّفلةُ، التي طوَّرَت عادةَ تخزينِ الطّعام بَسببِ فتراتِ الجوعِ الطَّويلةِ، كانت تَتشبَّثُ بِعُلبةِ البِسكويت حتّى في نومِها. و الآن، و حتّى و هِي أَمامَ وَعَاءٍ مِلؤُهُ الحساءُ اللَّذيذُ، لم تَكُن تَفعلُ شيء سِوَى الرُّقودِ بِخُمودٍ.
تِلكَ الطفلةُ التي كانت لديها إِرادَةٌ لِلتلوُّثِ بِالدَّمِ و التظاهُر بالموت في سبيلِ النّجاة، الْآن أستسلمت لِبؤسِها
ما الذي سيعني لها هذا العالمُ بِدونِ وجوده؟
أَرادَ أَن يجعلَ هذهِ الطفلة تعرِفُ أَنَّ في هذا العالم هُناكَ أَشخاصٌ سيُقدمونَ لها الْمُساعدة دونَ أَن يتوقعوا أَيَّ شيءٍ في المُقابِل.
و معَ ذلك، بَعدَ أَربَعِ سِنينَ مِن جُهودِهِ، عِندما حانَتِ السَّاعةُ ليُحررَها، فاجأَتهُ بِإِرادتِها لِلتخلِّي عن الحَياة مَرَّةً أُخرى.
“من فضلِك، لا تذهب.”
عندما تَمَّ استِدعاؤه إلى الحرب، تَشبثت به جيزيل، تبكي. و عندما لم تَنجح تلك المُحاوَلة، توقفت عن الأكل تَمامًا.
“من فضلِك، لا تذهب. أُرِيدُ أَنْ أَعيشَ هُنا معك.”
لَكِن هذهِ المرَّة، لم يَستطِع أَن يُحققَ لها أَمنيتَها. كجُنديٍّ، كانَ لديهِ واجِبٌ في الدِّفاعِ عن وَطنِه.
في السابِق، عِندما اصطحَبها مَعهُ، كانَ ذلك بِسببِ خوّفِه مِن أَنهُ إِذا تَركها وَراءَهُ، قد لا يَراها مُجددًا. لكِن الآن، كانت الأُمورُ قدِ اختلفت.
“أَعِدُكِ، سأعودُ إِليكِ.”
“يَجِبُ أَن تَعود.”
و بِذلك الوعد، تَركَ إِدوين جيزيل في الحُدودِ الآمِنةِ التي كانَ قد أَنشأَها لها.
على مدارِ الأربعِ سَنواتِ الماضيةِ، عَبرَ جبَاهِ المعارك الجحيميّة، كانَ إِدوين يُفكرُ في شيءٍ وَاحِدٍ فقط — هِيَ.
كانت فترَةُ أَسرِهِ كأَسيرِ حربٍ، التي لم تَكُن جحيمًا مَجازيًّا معَ وِلادَةِ الشياطين، قابِلةً لِلتحمُّلِ فقط بِفضلِ عزمِهِ على عدم تَركِ تِلكَ الفتاةِ بِمُفرِدِها مَرَّةً أُخرى.
كانت جيزيل الوحيدَةُ لإِدوين، كما كانَ هوَ الوحيدَ لها.
بِمُجردِ عودَتهِ إِلى وَطنِهِ، تلقّى تَقاريرَ من مُحاميه و رئيس أكاديمية فولرتون حولَ حالِ جيزيل في غيابِه.
لم تَكتفِ بِتجاوزِ الفترةِ دونَ أَيِّ مشاكِلَ كبيرَةٍ، بَل تَمَّ قبولُها أَيضًا في جامِعةٍ مَرموقةٍ بِدَرجاتٍ مُتميزَةٍ، و كانت على وَشَكِ التخرُّجِ. شعرَ بِفخرٍ غيرِ مبرَّرٍ، كأنهُ هوَ مَن ربَّاها بِنفسِه، على الرَّغمِ مِن غيابِه عنها.
و لكِنهُ لم يَذهب لِرؤيتِها.
رُبمَا كانت كلِمةُ “لم يَستطِع” أَدَقَّ وَصفًا.
“فولرتون. المحطّةُ التاليةُ هيَ فولرتون.”
انتهت مُعارِكهُ الطّويلة معَ نفسِه أَخيرًا عِندما مَرَّ في الممَرِّ الذي يُعلِنُ عن وصولهِ للمحطّة. أَغمضَ إِدوين عينيه و أَخذَ نَفسًا عَميقًا.
كم مِنَ الأيّامِ و اللّيالي قَضاها و هوَ يُعاني في التفكير في ما إِذا كانَ عليه رُكوبُ هذا القِطار؟
في النّهاية، انتصرت الفِكرة التي تُلِحُّ عليه بِأَن جيزيل لا يَنبغي أَن تُتركَ وَحدَها، حتّى في يومِها الأَخير في المدرسة. فبعدَ كُلِّ شيءٍ، لا يُمكِنُهُ تَجنُّبُ لِقائِها إِلى الأَبد.
لَعَلَّها سَتجري نَحوَ أَحضَاني.
جَعلتهُ فِكرةُ رؤيتِها مَرَّةً أُخرى يَتذكرُ الصّوتَ البَهيجَ الذي يُنادِيه: “سيدي!”
ثُمَّ تَرَددت ضحكةٌ ساخِرة.
فَتحَ إِدوين عينيه و حدَّقَ في نفسه مُجددًا. كانَ الوجهُ المَعهُودُ، و لكِنهُ تَساءَلَ عمَّا إِذا كانت تِلكَ النَّظرةُ الحادّةُ هيَ نَظرتَهُ بِالفِعل.
خِلالَ الرّحلة الطّويلة، خَلعَ أَخيرًا الجاكيت القاسي الذي كانَ يرتديه بِتكلُّفٍ شديدٍ. فَكَّ زِرَّ الكُمِّ الأَيسرِ و شمَّرَ عن قُميصهِ الناصِعِ ليُظهِرَ ساعِدًا عضليًّا مُتناسِقًا. ما كانَ في الماضي وَشمًا باهِتًا لِورقَةِ نِفلٍ ذاتِ أَربَعةِ ورَقاتٍ أَصبحَ مَحفُوفًا بِالعديدِ مِنَ الخُدوش.
أخرجَ إِدوين قلم حِبرٍ مِن سترته، و بِجانِبِ وَشمِ الاِسمِ “جيزيل “، خَدشَ جِلدهُ حتّى تَكوَّنت قُطراتٌ مِنَ الدَّمِ.
لا تَلمِس تِلكَ الطفلة.
في لَحظةٍ واحدَةٍ، استعادَ إِدوين هُدوءَهُ المعهود. و لكِن نَظرَتهُ، التي ثَبَّتها على اِنعِكاسِه، كانت بَارِدةً كمن يُحدِّقُ إِلى غَريبٍ.
فِكرةُ أَنهُ قَضى أَربَعَ سنواتٍ يُفكرُ في جيزيل فقط كانت غالِبًا وَهمًا خلقهُ لِنفسِه.
—
كَان هذا آخِرَ يومٍ ترتدي فيه زيَّها المدرسي. قامت جيزيل بِتعديل مَلابِسها ثُمَّ جلست عند مَكتبِها.
“هووف…”
نَظرت جيزيل إِلى نَصِّ خِطابِ التخرُّج المفرود أمامها، فَخرجت مِنها تنهيدةٌ غَيرُ مَقصودةٌ.
“هل أَنتِ مُتوترةٌ، آنِستي؟”
سألت إلينا بِمرحٍ، و هيَ تجلِسُ و تُديرُ ظهرها إِلى المكتب و تُضيفُ لَمساتِها النهائية على مكياجِها.
“لا.”
لم يَكُن هذا تَوتُّرًا، بَل تنهيدة إِحبَاطٍ.
ما الفائِدةُ من الوقوف في الموقِف المُشرِّف لِمُمثلةِ التَّخرُّج؟ على أَيِّ حالٍ، لن يَشهدَ السيّد ذلك.
قد مَرَّ عِشرونَ يومًا مُنذُ عودة السيّد.
عِندَ عودتهِ، لم يَقُم سِوَى بِزيارةِ جلَالتِهِ الملِك في القصر، و تَجنبَ جميعَ المُناسبَات الأُخرى، مُلازِمًا العُزلة في قصر الدوقية في تيمبلتون. و قد انتشرَت هذهِ الشائِعاتُ على نِطاقٍ واسِعٍ.
لِذلِك، لن يَحضُرَ حَفلَ التخرُّج أَيضًا. لم يَرِد أَيُّ خَبرٍ عن قُدومِهِ.
كانَ الناسُ يَتناقَلُونَ بِحماسٍ شائِعاتٍ عَن كيفيةِ عَدمِ زِيارةِ الدوق لـِجيزيل حتّى الآن.
“لقد تَخلَّى عنها.”
و لكِن الخادم من بيتِ إِكليستون في العاصِمة كانَ قادِمًا اليوم لِنقلِ مُتَعِ جيزيل، مِمَّا يَدُلُّ على أَنهُ لم يَتخَلَّ عنها.
“لَعَلَّهُ قد تَبنَّى يتيمًا آخَرَ هذِهِ المَرَّةَ؟”
و كانَ هُناكَ بَعضُ الأَشخاصِ الخبيثينَ يُروِّجونَ افتِراضاتٍ بشِعةً مِثلَ هذِهِ.