My Beloved, Whom I Desire to Kill - 5
“ماذا قال؟”
سألت إيلينا وهي في طريقها إلى قاعة الطعام لتناول العشاء بعد الاجتماع.
“قال: ما رأيكِ في التخصص في الأدب؟”
“الأدب؟”
قطّبت إيلينا جبينها وكأنها قد تذوّقت شيئًا حامضًا، فهي تكره الكتب.
“وماذا قلتَ له؟”
“قلتُ إنني سأفكر في الأمر.”
“حقًّا؟”
“لا. تعلَمينَ أَنني سَأَدرُسُ شيئًا يَكونُ ذا فائِدةٍ حقيقيَّةٍ.”
لَيسَ مِن أَجلِ العالمِ، بَل مِن أَجلِ السيِّدِ.
لستُ طُفيليًّا جاحِدًا لا يرُدُّ الجميل.
قُدرَتي على الذَّهاب إِلى الجامِعة دونَ أَيِّ قلَقٍ كانت بِفضلِهِ وَحدَهُ.
و على ما يَبدو، كانَ قد أَوصَى المُحامي مُسبقًا قَبلَ ذِهابِهِ إِلى الحرب.
“إِن لم يَتمكن مِنَ العودة قَبلَ تَخرُّجِكِ، فقد أَمرَ الدوق بِاِستِخدامِ ثروتهِ الشّخصيّة لِدعمِ قُبولِكِ في أَيِّ جامِعةٍ تختارينها. لِذا، رَجاءً، ركِّزي على دِراساتِكِ دونَ قَلقٍ.”
لم يَقتصِر الأَمرُ على ذلك فَحسبُ، بَل طلبَ مِنَ المُحاميِّ أَن يستعِدَّ لِكُلِّ الاِحتِمالات مُسبقًا.
أَفهمُ أَن يَتخِذَ اِحتياطاتٍ لِظُروفِ المرض، و لكِن لِماذا لِلزواج؟
كُلما تَعمَّقت في التفكير، اِزدادَ وجهُها اِحمِرارًا.
ماذا يجِبُ أَن أُصبِحَ لِأَكونَ عونًا لِلسيِّد؟ لقد كانَ عليهِ أَن يُخبِرني بِذلك قَبلَ أَن يرحل.
“لا. هذا سؤالٌ يجِبُ طرحُهُ عِندما يَعودُ. لِأَنهُ سَيعودُ بِالتأكيد.”
و لكِن اِسم إِدوين إِكليستون لم يَكُن مَذكورًا في صحيفةِ المساءِ التي تَلقتها خِلالَ العشاء.
قد تقلّصت القائِمة إِلى النصفِ مُنذُ الصّباح، و بِحُلولِ الغدِ، سَتتقلّصُ أكثر.
بينما كانت إِيلينا و جيزيل تتحادَثان، تسيران في مَمر السكن الدّراسيّ، فجأة سَمِعا.
“رودنيك!”
نَادَاها شخصٌ مِن فوق بِاِسمِها القديم.
تظاهرت بِأَنها لم تَسمع، و أكملت السّير، و فجأَةً…
شيءٌ ما اِنسكبَ على جيزيل.
تَلألأَت قطرَاتُ الماءِ أَمامَ عينيها و هيَ تَرمشُ بِشكلٍ غريزيٍّ. ما تَسلَّلَ عبرَ سُترتِها الرَّقيقة، مُبلللًا قميصها وجِلدَها، أَرسلَ قُشعريرَةً بارِدَةً على طولِ عَمودِها الفقريِّ.
ما سُكِبَ عليها كانَ ماءً مُتَجمدًا.
تَشبَّعَ شعرُها الأشقرُ الطّويلُ، المَجدولُ بِإِحكامٍ، بِالماءِ، و أخذت القطراتُ تَنهمِرُ مِنهُ كأَنَّ دَلوًا قد فُرِّغَ فوقَ رأسِها.
لم تكن هذهِ المرَّةُ الأُولى التي تَتعرَّضُ فيها لِمِثلِ هذه الإهانة.
ففَتاةٌ مِنَ العامّة، و فوقَ ذلك “روزالية”، قد دخلت مدرسةً مرموقَةً مَخصوصَةً لِلنُّخبة، مَدعومَةً مِن قِبلِ سيِّدٍ يَنتمي إِلى واحِدةٍ مِن أَعرقِ عائِلاتِ المملكة، عائِلةٍ لا يُضاهيها مكانَةً سِوَى العائِلة المالِكة نَفسِها.
كانَ مِنَ الواضِحِ مُنذُ البِداية أَنَّها ستُصبِحُ هدفًا لِلغيرة و المُضايَقات.
لِذلك، في البداية، أخفت أَنَّها “روزالية”، كما كتمَت حقيقةَ قُبولِها في المدرسة بِتوصيةٍ مِنَ السيِّد.
ففِي ذلك الوقت، كانت قد تَخلَّت مُنذُ مُدَّةٍ عن لهجةِ “روزل” و أَتقَنت اللهجةَ الرَّفيعةَ لِطبقةِ نُبلاءِ “ميرسيا” بِبراعةٍ، مِمَّا جَعلَ أَمرَها يبقى طَيَّ الكِتمان خِلالَ الفصلِ الدّراسيّ الأَوَّلِ، عدَا بَعضَ المُعلِّمينَ الذينَ كانوا يَعرِفونَ الحقيقة.
و لكِن، كما هوَ الحَالُ دائِمًا، لا أسرَارَ تَبقَى في هذا العالم.
“يقولُونَ إِنَّ اليتيمةَ ‘روزال’، التي اِلتَقطها الدوق إِكليستون خِلالَ حادِثةِ ‘سوانهو’، تَلتحِقُ بِهذهِ المدرسة.”
لم يَستَغرِق الأَمرُ طويلًا حتّى اِكتشفَ الجميعُ أَنَّ “جيزيل بيشوب” هيَ تلك اليتيمةُ المذكورَةُ.
و هُنا بدأت المُضايَقات.
فَبعدما كشفَ أَحدُهُم هوِيتهَا و نَشر اِسمَها الأصليّ، “ناتاليا رودنيك”، بدَأَ الطُّلابُ في مُنادَاتِها بِهِ على سبيلِ السُّخرية.
“مَن كانَ لِيُصدِّقَ أَنهُم يَقبلونَ حتّى أَبناءَ المُزارعين المُستأجِرين هُنا؟ لا شَكَّ أَنَّ أَكاديمية ‘فولرتون’ في تَدهورٍ.”
أَهَانوها بِالقولِ إنّها أَساءَت إِلى مَكانةِ المدرسة، و لكِن الطُّلابَ الأَعلى منزِلةً لم يُشارِكوا في تلك المُضايَقات، فَمكانتُهُم كانت أَرفعَ من ذلك.
أَما هؤلاءِ الطُّلاب، فَلم يَكونوا يُلقونَ لها بالًا.و إِنِ اضطُرُّوا إِلى التعامُلِ مَعها في الفُصولِ الدّراسيّة أَو النشاطات الطُّلابية، فقد كانوا يَتصرفونَ بِأَدبٍ كافٍ. رُبما كانوا يَحقِدونَ عليها في الخفاء، و لكِن”جيزيل ” لم تَكُن تُبالي.
أَما المُعلمون، فعامتُهُم كانوا يميلونَ نَحوَها، فقد كانَ “السيِّدُ” يُقدِّمُ تَبرُّعاتٍ سَخيَّةً بِاسمِها كُلَّ عامٍ.
و إِنْ كانَ بَعضُهُم يَكنُّ لها الاِزدِراء في قُلوبِهِم، فإِنَّ البالِغينَ يُجيدونَ إِخفاءَ ما في صُدورِهِم.
أَبناءُ العائِلات رفيعة المنزِلة الذينَ كانوا يعرفون قيمة السيِّد، كانوا يتَّبعونَ طريقةً مُختلِفةً في تَعذيبها.
“إذن، أنتِ يا آنِسة بيشوب، هيَ اليتيمة المسكينة التي يَدعمُها الدوق.”
في بعضِ الأحيان، كانوا يَدعونَها لِشايٍ أَو لِوجبةٍ. تَظاهُرًا بِاللُّطفِ عَلهُم يَفوزونَ بِوُدِّ السيِّد، و لكِنَّ حقيقتَهُم تَكمُنُ في السَّعي لِإِسقاطِها.
“أَرجو أَن أَسمعَ كيفَ التقيتِ الدوق في ساحةِ المعركة.”
أَوَّلًا، كانوا يُحاوِلونَ إِقناعَها بِرِواية كيفَ التقت السيِّد، بإِجبارهَا على سَردِ ماضيها التَّعيس.
“هل يُقدِّمونَ هذا في الجِبال القريبة مِنَ الحُدود؟”
كانوا يَقدِّمونَ مأكولاتٍ كانت هي قد مَلَّت من تناوِلها في قصرِ الدوق، تظاهُرًا بِأَنها أَشياءٌ نادِرةٌ لم تَراها في الأَراضي القروية.
“لا بُدَ أَن يَكونَ هذا صعبًا عليكِ، فقد فقدتِ والِديكِ في سِنٍّ صغيرةٍ.”
و مِن بَعدِ ذلك، كانوا يَنظُرونَ إليها بِشفقَةٍ طوَالَ الوقت، و عِندما تَغادِرُ، يُسلِّمونَها شيكًا، كأَنَّهُم يَتبرَّعونَ لِقضيةٍ فقيرةٍ.
كانوا يذكرونها بذلك بطريقة ضمنية، أنه مهما كانَ الأمر، فهي لا تزال “يتيمة روزالية” و ليست مُنافِسة على مقعد الدوقة.
لن أَستَهدِف مقعد الدوقة أَبدًا على أَيِّ حالٍ. إِنهُ قَلقٌ غَيرُ ضروريٍّ.
رُبما لِهذا السّبب اقترحَ بَعضُهُم أَن تَنضمَّ إِلى ديرٍ.
السيِّدُ، الذي قالَ يومًا إِنَّ حُلمَهُ كانَ أَن يُرافِقها إِلى المَذبَح، سَيكونُ غاضِبًا إِذا سمِعَ ذلك.
و في وقتٍ ما، كانَ الطُّلابُ الذينَ تَنمروا على “جيزيل” بِأَكثرِ الطُّرُقِ وضُوحًا هُم في الواقعِ مِنَ العائِلاتِ الأَدنَى رتبةً في المدرسة.
كانوا أبناءَ الأغنياء الجُدُدِ أَو مُلَّاكِ الأراضي الرّيفيّة الذينَ لا يملِكونَ أَلقابًا أو اصولًا راقية، و الذينَ يفتَخِرونَ بِقُبولِهِم في أَكاديمية فوليرتون.
لِأولاكَ الطُّلاب الذينَ نَاضلوا ليبلغوا ما رَأَوهُ شَرفًا نادِرًا، كانت “جيزيل” – اليتيمة التي حَقَّقت ذلك مِن خِلالِ مَنحتِها – شوكةً في جانِبِهِم.
“إِيلينا”، ابنةُ التاجِر الأجنبيِّ، كانت أَيضًا هدَفًا لِلتمييزِ و التنمُّر، مثل “جيزيل”. و بِالتالي، تَحارَبَتا سَويًّا، جنبًا إِلى جنب.
“أولئك البائسين الأوغاد! هااه!، ما هذا؟”
أتضحَ أَنهُ لم يَكُن مجرّدَ ماءٍ فقط الذي سُكِبَ عليها. عِندما مَسَحت إِيلينا رأسَ “جيزيل”، سَقَطت كُتَل سوداء على الأرض عندَ قدمها.
كانت علَقة.
لا عَجبَ أَن رائِحةَ الماء كانت كريهةً.
“امسحيها.”
قَدَّمت إِيلينا لِجيزيل منديلًا، لكِنَّ “جيزيل ” مسحت حقيبتها أَوَّلًا، لا وجهها.
عَمَّ الصمتُ لِفترةٍ بَعدَ إعلانِ تَبادُلِ الأَسرَى، لكِن معَ تَزايُدِ الشَّكِّ حولَ عودةِ “السيّد”، بَدؤوا في العودة إلى تَصرُّفاتِهِم و أساليبهم القديمة مرَّةً أُخرى.
السيّد سيَعود.
صرت “جيزيل ” على أسنانها و هيَ تَحدُقُ في الأرض. في العامِ الماضي، استَخدَموا عَلَقةً حيَّةً. أَمَّا هههِ المرَّة، فكانت مَيِّتةً. الرّسالة كانت واضِحةً.
لقد اِنتهت أَيامُكِ في امتِصاصِ الدِّمَاء.
أَنا لستُ عَلَقةً.
سَأُردُ الجميل.
صرت “جيزيل” على أسنانها مرَّةً أُخرى، ثُمَّ اِنحنت بِجسدِها بِرقَّةٍ و أتزان.
بدأت تَجمعُ الكُتَلَ السّوداء التي اِنزَلقت على الطّريق المُعبَّد، واحِدَةً تِلوَ الأُخرى، و هيَ تَظهرُ كـ”شَبحٍ مائيٍّ” غارِقٍ، و الماءُ يَتساقطُ من جسدِها بِغزارةٍ.
“يا إِلهي!، إنّها تَلتَقِطُ ذلك الشيء بيدَيها.”
“يا لَهُ من مَشهدٍ مُقزِزٍ.
على عَكسِ “إِيلينا”، التي كانت تصرُخُ بِغضَبٍ، و تَشتمُ بِلُغتِها الأُمِّ، لم تَرُدَّ “جيزيل” و لم تَرفَع بَصرَها.
لم تَكُن بـحاجَةٍ إِلى النَّظرِ لِتعرِف من يَكون.
إِنهُنَّ نَفسُ الفتيات مِنَ الصّباح.
كانت تعلَمُ أَنَّ الوقتَ المُناسِبَ سَيأتي لِترُدَّ.
لم يَكُن هُناكَ فائِدةٌ مِنَ الشَّكوى إِلى مُشرِفة السَّكن أَو المُديرة. بِما أَنَّ المدرسة ملئيَةٌ بِالفتيات مِن عائِلاتٍ مرموقَةٍ، إِلا إِذا كُنتِ أَميرةً، فإِنَّ المدرسة لا تَتدخَّلُ في شُؤونِ الطالِبات فيما بَينهُنَّ.
كانَ هذا يعني أَنهُم لن يَتدخَّلوا في ما تَفعلُهُ “جيزيل” أَيضًا.
في تلكَ اللّيلة، تَعثَّرت قائِدةُ المجموعة التي كانت تَتنمَّرُ على “جيزيل” في الحمام المُشترَك أثناءَ الاِستِحمام، و أَصيبت بِكسرٍ في ساقِها.
“جيزيل فعلت هذا!”
زَعمتِ الفتاةُ أَنها اِنزَلَقت بِسبب “علَقة” و سقطت فجأَةً على رأسِها، و لكِن الأَدِلة قد امتَصَّتها المجارى و اختفت.
“لولا إِخبَارُ جيزيل لِلمُشرِفة، لقد كانَ مِنَ المُمكِنِ أَن تَبقى مُستَلقيةً على أَرضيَّة الحمام طوَالَ اللّيل و يجِدوها مَيتةً في الصّباح التالي، فما الذي كانت تَهذي بِه؟”
المدرسة مِثلُ ساحَةِ معرَكةٍ أَنيقةٍ.
لو كانت تِلكَ الفَتياتُ عِصابةً مِنَ المُشاغِبات في الأَزِقَّةِ الخلفيةِ، فإِنَّ جيزيل جُنديةٌ مُحنَّكةٌ، تُخضِعُ العَدوَّ بِضربةٍ وَاحِدةٍ نظيفَةٍ، ثُمَّ تَستدعي المُسعِف.
—-
في الصّباح التالي، خَيَّمَ الصَّمتُ على قاعةِ الطّعام. وَسطَ أَنظارِ الجميع، كانَ الصّوتُ الوَحيدُ الذي يَملأُ المكان هوَ انفِجارُ “جيزيل” بِالبُكاء.
القائِمةُ التاسِعةُ لِأَسرَى الحرب المُعادين إِلى الوطن
القائِد “إِدوين فيتزجيرالد إِكليستون”
مَلاكُ “جيزيل” كانَ عائدًا حَيًّا مِن جحيمِ الحرب.