My Beloved, Whom I Desire to Kill - 4
كانت مُعلمَةُ الكِتابة تَمتلِكُ عادةً سيئَةً في إعادةِ الأوراقِ المُصححة وَفقًا لِترتيبِ الدرجات.
“جيزيل بيشوب.”
لم يَعُد أَحَدٌ يَتفاجأُ عندما يُنادى هذا الاسم دائمًا أَولًا. و لكِن، كيفَ سَيكونُ رَدُّ فِعلهِم إِذا علِمُوا أَنَّ الطالِبةَ الأُولى على دفعةِ السّنةِ الأَخيرةِ لم تتعلم القِراءةَ الا بعدَ بُلوغِها العاشِرةَ؟
لو كانَ الرجُلُ الذي عَلمنِي الأَبجديةَ شخصيًّا يعلمُ بذلِك، لكانَ سَيتفاجأُ جِدًّا. و كانَ سَيبتسِمُ تِلكَ الاِبتِسامةَ الفَخُورةَ، و يُمطِرُني بِالثَّناءِ بِطرِيقةٍ دافِئةٍ و لطيفةٍ.
جيزيل كانت قد جَمعت بِاجتِهادٍ كُلَّ المهمات التي كانت تحمل حرف “A” بِحجمٍ كبير طِيلةَ السنوات الأربع الماضية، حالِمةً بِتلكَ اللحظة.
لا يَنبغي أَن تتحول فقط الى كومَةً من الأوراق عديمة المَعنى….
الِابتِسامةُ المشرِقةُ تَلاشت بِسُرعَةٍ.
“لَعِبت سوانهو دورًا تارِيخيًّا مُهِمًّا و حاسمًا في الدفاع، لِوُقوعِها على الحُدودِ مع كونستانتين….”
كانت الحِصةُ التاليةُ حِصةَ الجغرافيا. و فيما كانت جيزيل تَستمِعُ إِلى عرضٍ تَقديميٍّ قَدمهُ أَحدُ الطُّلاب، ازدادت تعابيرُ وجهها كآبةً.
“تُعرف الآن بأسم شوانهو، تحت احتِلالِ كونستانتين…”
كان وطنُ جيزيل قد سَقطَ في أَيدي كونستانتين خِلالَ الحرب الجارية.
في غضون بَضعِ سنين، تَقلصَ عَددُ الروزيليين من آلَافٍ إِلى مِئاتٍ قليلة. و لولا تدخُّلُ وحدةِ سيِّدها في حادثةِ سوانهو لِمنعِ وقوع المجزرة، لكانَ حتّى هؤُلاءِ المِئات قد تَبخرُوا ايضًا.
في ذلك الوقت، كانت جيزيل مثلَ جَروٍ جرِيحٍ شارِد و ضال. كانت تَخافُ حتّى من الرجُل الذي أَنقذها في البداية. و لكن، كيفَ يُمكِنُ لِطِفلة أَلَّا تتّبع بِعَمًى رَجُلًا قَدمَ لها الطعام، و الملابس، و مَكانًا دَافِئًا آمِنًا للنوم، و محبَّةً و عاطفةً لا مُتناهية؟
لا تقلقي. لن يُزعِجكِ أَحَدٌ ما دُمتُ أنا هُنَا.”
لم يمضِ وقت طويل قبلَ أَن تَستَطِع أَن تَبتسِمَ لَهُ، رغم أنها كانت لا تَزالُ تَرتجِفُ خوفًا من الجُنودِ الآخرين. كانَ “سَيدُها” قد قدّمَ لها وَعدًا، و قد وَفَّى بِهِ.
و لكن سرعان ما تحركت الجبهة بعيدًا عن القرية وانتقلت نحو الغرب.
كانَ مِن الطبيعي أَن تغادر وحدة “سَيِّدها” عَن القرية و تسير نَحوَ الغرب، و لكن ذلك كانَ مثل صاعِقةً في السّماء الصافية لِيتيمةٍ ذَاتِ عشرِ سنين.
“إِذن ماذا سَيحدُثُ لي…؟”
بدونِه، لم يكن هناك أحدٌ لحمايتها. جيزيل، التي رأت الكثير، لم تستطع الوثوق بالجنود ولا حتى بالكبار في القرية.
“أريدُ أن أذهب معكَ، سيّدي.”
“ناتاليا، أنا ذاهبٌ إلى ساحة المعركة.”
“أعلم.”
قالت ذلك وهي تعرف تمامًا أن ذلك يعني العودة إلى ساحة المعركة التي كانت قد أرادت الهروب منها بشدة. بالطبع، كان من الأفضل أن تكون في جحيمٍ يستطيع شخصٌ ما حمايتها فيه، بدلاً من أن تكون في جحيمٍ لا يوجد فيه أحدٌ لحمايتها.
لكنَّ سيدَها لم يكن يستطيع أخذَ الفتاةِ الصغيرةِ معه في الحملة، لذا كان يعتزم إرسالَها إلى دارٍ للأيتام في المنطقة الخلفية. وكان هذا المكان بالنسبة لجيزيل مجرد جحيمٍ آخر.
“سَيقتُلُونَنِي.”
“لا داعي للقلق بشأن ذلك. لا أحد يرغب في قتلكِ بعد الآن.”
“لكنني روزليَّة!”
مغلوبةً على أمرها بخوفٍ شديدٍ من الموت، أقدمت جيزيل على فعلٍ شنيعٍ. قصَّتْ شعرَها بشكلٍ قصيرٍ باستخدام مقصِّ حلاقة الغنم، تماماً كالجندي.
في ذلك اليوم، طَويَت جيزيل الزيَّ العسكري الكبير المُخصَّص لجنديٍّ ، و وقَفَت بعنادٍ أمام سيدها.
“ناتاليا… لماذا فعلتِ هذا؟”
لا تزال جيزيل لا تستطيع نسيان تعبير وجهه في تلك اللحظة.
“أريد أن أكون جنديةً أيضًا! يمكنني حمل الرصاص وإعداد الوجبات. وأنا أيضًا ماهرة في الغسيل والخياطة، بالطبع.”
عندما قامت بلف الأكمام الواسعة لتكشف عن ذراعيها، اللتين فقدتا جميع عضلاتهما وأصبحتا مجرد جلدٍ وعظام، كان تأثير ذلك عكس ما كانت تأمل فيه.
“لا أستطيعُ قَتلَ النّاس، لكنني جيّدةٌ في الاِختِباء. أَعِدُكَ أَن لا أَكُونَ عَائِقًا.”
ما إن تفجّر كُلُّ ما كانت تَحضُرُهُ في صَمتٍ و دون أن تأخذ نفسًا حتّى، سألت جيزيل بجدية:
“إذن سَتأخُذنِي معك، أليس كذلك؟”
عندما تنهد سيدها و مَسَّحت يَدُهُ الكبيرة شعرها الذي قَصتهُ حديثًا، ظَنت أَنَّهُ سيُعطيها الإذْن، و لكنها كانت مُخطِئَة.
“ناتاليا، أَسِف، لكن…”
“سأَفعَلُ كل ما تأمرني به. إِذا قُلت لي أَن أَجوع، سأَجوع. إِذا قُلت لي أَن أَقتُلَ أَحدًا، سأَقتُلُهُ.”
في يأسها، اهتزّت عينا سيدها الهادئتان عادةً. قال شيئًا بصوتٍ مضطرب، لكنّه لم يصل إلى أذنيها.
“سأفعل أي شيء، من فضلك، خذني معك.”
تعلّقت جيزيل بثيابه وانهارت باكية. كانت هذه أول مرة تتصرف بطريقة كهذه، حتى مع والديها الراحلين لم تفعل ذلك.
“آه، يا مسكينة… ماذا يجب أن أفعل معك؟”
لكن كل ما فعله كان تهدئتها. لم يقل أبدًا إنه يمكنها أن تأتي معه.
هنا بدأ اللأمر، أختفاء مفاجئ لِشهيَّتِها، التي لم تَتأَثَّر حتّى في أَسوَأ اللَّحظَات.
لم تَستطِع أَن تأكُلَ شَيئًا. حتّى الطعام الذي أجبرت نفسها أَن تَتناوَلهُ، رَفضهُ جَسدُها و تقيأته.
“لَستُ جَائِعة.”
تذكّرت كيفَ كانت عَيناهُ البارِدَة و الجَادَّة، و التي كانت تراقِباها، بدا عليهما الحُزن الآن.
رغمَ انطِباعِهِا الأوَّلِ عنه، الذي بدا عليه كأنه يحمِلُ قَلبًا جليدي، كانَ سّيدها شَخصًا دافِئًا و حَنونًا.
“حسنًا. تعالي مَعِي.”
“شكرًا، سَيِّدي! لن أَنسَى هذا المعروف طِوَالَ حياتي!”
“لكِنكِ عليكِ أَن تَعِدينني أَن تَطيعِيني بِدُونِ تَساؤُل. إِذا قُلتُ لَكِ أَن تَركضي، فأركضي دون أَن تَلتَفتِي إلى الوراء.”
“نعم، نعم. أَعِدُك.”
في النهاية، كانَ على سيِّدِها أَن يأخُذَ طِفلة في عُمُرِ العاشِرَة إلى ساحات القِتال لِمُدَّةِ ثلاثةِ أَشهُرٍ حتّى هدأت الحرب.
بالنظر إلى الوَراءِ الآن، كَانَتْ قِصةً مليئة بِالخجَلِ بالنسبة لها ، لكِنَّ في ذلك الوقت، كانت تَظُنُّ أنّها سَتَمُوتُ بدُونَهُ.
حتّى الآن، كانت جيزيل تؤمن بأَنَّها لم تَكُن لِتنجو بدُونَهُ.
و حتّى لو أَنَّها نَجت بِطريقةٍ ما، لكانت قد عاشت حياة أَشَدَّ بؤسًا من الموت.
حياة في المجاري كجروٍ ضال لا يَحلُمُ حتّى بذلك….
طوالَ الحصة الدراسية، كانت جيزيل تداعب القلم المَنقوش عليه أسم سيِّدِها. كانَ هوَ من عَلمها كيفَ تَستَخدِمُه.
كانَ دائِمًا شعورًا جيدًا أَن تُمسِك بالقلم الذي كانَ دافئًا من يَدُهُ.
ذلك الدَّفء الذي كانَ قد جمَّدَها في البداية، جَلبَ الآن رَبِيعًا لِقلبِ جيزيل.
و لكِن لِلآسف، لم يَدُم الربيع طوِيلًا.
أَينَ نِهايةُ هذا الشتاء؟
خارِجَ نافذةِ الفصلِ الدراسي، تسَاقطت بتلات الزَّهور في نسيم الربيع، لكِن بالنسبة لجيزيل، كانت العاصِفة الثلجيَّة قد أستمرت فِي قَلْبِهَا لِمُدَّةِ أَربَعِ سِنينَ.
قلبُها المتجمّد كان يذكره في كل لحظة من لحظات حياتها اليومية. حتى أثناء مناقشة خططها المستقبلية مع أستاذة الكتابة بعد الحصة، لم تستطع التوقف عن التفكير فيه.
“لقد قررتِ الالتحاق بجامعة كينغسبريدج، أليس كذلك؟”
“نعم.”
تلقت جيزيل رسائل قبول من جميع الجامعات الخمس التي تقدمت لها في العام الماضي. كل واحدة منها كانت مؤسسة مرموقة ذات تاريخ طويل، مما جعل من الصعب عليها اختيار واحدة فقط.
لو كان السيد هنا، لكنت قد سألته.
بعدَ تفكيرٍ طويل، اختارَت جيزيل جامعة “كينغزبريدج”، الجامعة ذات أطوَلِ تَقَالِيد. تذكّرت بِشكلٍ غَيرِ وَاضِحٍ أنّها سمِعَت في وَقتٍ ما أَن هذهِ هيَ الجامعة التي كانَ يَرغبُ “سيدها” في الالتِحاقِ بِها عِندما كانَ أَصغرَ سِنًّا.
“إنّها جامعتي الأُمُّ. قريبًا، يا آنِسة بيشوب، لن تَكوني طالبتي بَعدَ الآن بَل سَتكُونينَ زميلتي.”
أُستاذُها، الذي كانَ دائِمًا يُظهِرُ لها عِنايةً خَاصةً، عدَّلَ نظارتهُ و ابتسَمَ لها بِلُطف.
“هل قَررتِ ما الذي سَتدرُسينه؟”
“لا. أُخطِّطُ لِأَخذِ وَقتي في أتخاذ القرار أَثناءَ حُضورِ الدروس.”
—
على الرغم من أنها لم تكن بحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن تخصصها حتى تلتحق بالسنة الثانية، كان هناك سبب خاص دفع معلمها لاستدعائها.
“ماذا عن التخصُّصِ في الأَدب؟”
“عُـذرًا؟”
“كما تَعلمين، لديكِ مَوهبةٌ في هذا المجال. الكِتابةُ هيَ أَحدُ الطُّرُقِ لِجعلِ العالمِ مكانًا أَكثرَ جَمالًا و دَفئًا. كِتاباتُكِ تحمِلُ هذا النَّوعَ مِنَ القُوَّة.”
المُعلمُ، مُشيرًا إِلى موضوع الواجب الذي تم تكليفها به سابِقًا، أَشادَ بِكِتابَتِها و قالَ إِنهُ يَرى في موهبَتِها إِمكنياتٍ تجعلها تصبح كاتِبةً رِوائِيَّةً أَو شاعِرةً بارزةً.
—
“ألن يجعل مشاركة القصص الجميلة التي بداخلكِ مع الجميع العالم أكثر دفئًا؟”
“شكرًا جزيلًا على كلماتك الطيبة. سأفكر في الأمر بجدية.”
لكن ذلك لم يكن أكثر من كذبة مؤدبة. لم تكن تنوي أن تصبح روائية أو شاعرة.
كانت جيزيل تعرف. ما كان بداخلها لم يكن جميلًا. إذا شاركته مع الجميع، لكان العالم قد أصبح أقبح.
بينما كانت تَستطِيعُ إِخفاءَ ذلِكَ في الواجبات القصيرة الّتي لا تَتجاوَزُ خَمسَ صفحاتٍ، لم تَكن قادِرةً على التعامُلِ معَ الأَمرِ في الكِتاباتِ الأَطول.
قد تَكُونُ قِصَّةُ سيِّدِها القصة الوحيدة التي كانت جميلة، لكِنها أَرادَت أَن تَحتفِظَ بِها لِنفسِها إِلى الأَبَد.
بِالإِضافةِ إِلى ذلك، لم يَكُنِ الوقتُ مُناسِبًا لِلقلَقِ حولَ تَخصُّصِها في السنة المقبلة. فالمسائِلُ الأَكثَرُ إِلحاحًا كانت تَتعلَّقُ بِالشهرِ المُقبِل.
أَينَ سأَذهَبُ بَعدَ التّخرُّج؟
على الرَّغمِ مِن أنّها يُمكِنُها أَن تَنتقِلَ إِلى سكنِ الجامعة في الخريف، إِلا أَن الثلاثة أشهر التي تسبق ذلك كانت هيَ المُشكِلةَ الحَقيقِيةَ.
البقيَّةُ سَيعُودُونَ إِلى مَنازِلِهِم، لكِن جيزيل لم تَستطِع أَن تَعترِفَ بِأَن قصرَ الدوق، الذي خَلا الآنَ مِن سِيدِها، هوَ منزِلُها.
علاوة على ذلك، عِندما مَرَّ يومُ ميلادها في تِلكَ الفترة و أصبحت بالِغةً، لم يَعُد سيِّدُها وَلِيَّ أَمرِها. لم يعد لديها سَببًا آخرَ لِلرُّجُوعِ إِلى هُناكَ.
و لم يَقُل مُحامي سيِّدِها شيئًا حتّى الآن حولَ أَينَ ستذهَبُ بَعدَ التخرج. بَدَا أَنهُم ينتظرون نهاية الحرب قريبًا، و فقط بَعدَ تَأَكُّدِ مصيرِ سيِّدِها سَيتحدَّثُونَ في هذا الموضوع.
هل كانَ هذا ما يَشعُرُ بِهِ المَرءُ و هوَ عالقٌ في الجحيم؟