رجال الحريم - 76
كانت شفتي لاتيل ترتجف بغضب مكبوت، كان وقع الصدمة عليها هائلًا لدرجة أن مؤخرة رأسها شعرت بالخدر، حتى لو خرج والدها الراحل من هناك فجأة، لما كانت لتُصدم بهذا القدر.
‘لا، ربما هذا ليس صحيحًا، لأن ظهور والدي الراحل سيكون أمرًا مرعبًا فوق كونه مفاجئًا؟ ربما كنت سأفزع أكثر’
لكن حتى هذا، كان أكثر مما يمكنها تحمله، تراجعت لاتيل خطوة إلى الوراء، وقد بدا عليها الارتباك.
“ابنتي، ستنهارين، ألا تريدين أن تجلسي قليلًا؟”
تحدثت والدتها بصوت قلق وهادئ كعادتها، ذلك الصوت الذي كان دائمًا مليئًا بالدفء، بدا الآن للاتيل غير مرحب به.
سمعته مزيفًا، كأنه سكين مخبأة في ابتسامة، أو كأس من الخمر الحلو الممزوج بالسم.
“القلادة… ليست اتنين، صحيح؟”
تساءلت لاتيل، وهي تتصور احتمالية أن يظهر وجه آخر لو خلعت القلادة الثانيه، ليتها كانت تلك الحقيقة، لكن بالطبع لم يكن ذلك ممكنًا.
“إنها واحدة فقط.”
ابتسمت والدتها، حتى في هذا الموقف.
خفضت لاتيل حاجبيها إلى الأسفل، خيانة من شقيقها، والآن والدتها؟، وكأنها تتلقى صفعة على خدها الأيمن والأيسر، ثم ضربة قوية على مؤخرة رأسها، حتى أنها شعرت بالخدر.
“كيف يمكن أن تفعلي هذا بي؟”
“ساقاكِ ترتعشان، ربما من الأفضل أن تجلسي.”
“لماذا يحدث هذا لي؟”
“ألن تجلسي؟”
“لو جلست، أشعر وكأن الأرض ستنقلب ويخرج فخ من تحت قدمي، هذا هو شعوري الآن، كيف لي أن أجلس هنا بطمأنينة وأنا لا أستطيع الوثوق بكِ؟”
“…”
بدت والدتها متضايقة، عندما كانت لاتيل تعيش معها، كانت دائمًا ما تشعر بالقلق عندما تظهر والدتها تلك النظرة على وجهها، كانت تحاول أن تجعلها تبتسم مجددًا، وغالبًا ما كانت تقول كلامًا عشوائيًا في سبيل ذلك.
وحينها كانت والدتها تضمها بقوة وتقبل جبهتها، وهي تغني: “ابنتي الجميلة، ابنتي الرائعة.”
مجرد تذكر تلك الذكريات جعل الدموع تملأ عيني لاتيل.
“أنتِ بالنسبة لي السماء والأرض، أمي، إذا كنتِ ستتصرفين هكذا، فما الذي سيبقى لي؟، عالمي سينهار وينقلب رأسًا على عقب.”
“في عالمكِ، أنتِ السماء وأنتِ الأرض، لا تدعي أذى الآخرين يهدّمك.”
“هل تعتقدين أن ذلك سهل؟، وكيف يمكن أن يكون سهلًا إذا كان هذا الآخر هو أنتِ؟”
“حتى لو لم يكن سهلًا، عليكِ أن تكوني كذلك، إذا كنتِ ستنهارين بهذه السهولة، فما حال شعبكِ الذي يعتمد عليكِ؟”
“حتى شعبي، لقد أخذتهم!”
“لم أسرقهم، لاتيل، لقد استعرْتهم فقط.”
قبضت لاتيل يدها بإحكام وحدقت في والدتها بغضب.
“ماذا تعنين بذلك؟”
كان كارلين ينظر بتوتر بين لاتيل والإمبراطورة السابقة، لم يظهر الكثير من المشاعر على وجهه، لكنه بدا متأزمًا للغاية.
حتى لو كان الخلاف صغيرًا بين زوجته وحماته، كان سيكون موقفًا محرجًا، فكيف به الآن وسط هذا الصراع الهائل؟، كان من الصعب حتى أن يتحدث.
تنهدت والدتها بعمق.
“أنتِ وشقيقكِ كلاكما أطفالي، لاتيل، كان عليّ اتخاذ هذا القرار لإنقاذكما معًا.”
“لماذا يأتي ذكر أخي الآن؟، لقد كان بخير تمامًا برفقة العالم العظيم.”
بالطبع، طلبت منه تولي شؤون الدولة لفترة قصيرة، لكن ذلك كان لعدة أيام فقط، ولم يكن الأمر خطيرًا على الإطلاق.
“هل كنتِ تعتقدين أن شقيقي سيموت إرهاقًا لمجرد أنه تعامل مع شؤون الدولة لبضعة أيام؟”
“تنفسي بعمق، لاتيل”
“ماذا؟”
“قد تكونين تجسيدًا لـ اللورد، رب مصاصي الدماء.”
بينما كانت لاتيل تستمر في الجدال مع والدتها، محاولة فهم سبب خيانة والدتها وأخيها المقربين لها، قُطِع النقاش الواقعي فجأة بتصريح غير واقعي تمامًا، أصابها هذا الكلام بالذهول للحظة.
“ماذا؟”
كررت لاتيل السؤال بنفس الاندهاش.
“ماذا قلتِ؟”
“اللورد.”
أعادت والدتها الكلمة بهدوء، فتحت لاتيل عينيها على مصراعيها وارتفعت زاوية شفتيها، محاولة كبح ضحكة خرجت رغمًا عنها، لم يكن هذا وقتًا للضحك، لكن الأمر كان سخيفًا للغاية، يبدو أن البشر عندما يصابون بصدمة بالغة، لا يمكنهم كبت ضحكهم حتى في مثل هذه الظروف.
“عن ماذا تتحدثين؟”
أشارت والدتها بأصابعها إلى الحذاء الذي نزعه كارلين من قدميها، عندما أحضر كارلين الحذاء، ارتدته وقالت:
“ألم تكوني تُجرين تحقيقًا؟، عن السحرة السود، مصاصي الدماء، الزومبي، واللورد -رب مصاصي الدماء- الذي يبعث مرة كل 500 عام؟”
قطبت لاتيل جبينها وقالت بسخرية : “وهذا اللورد الآن أنا؟”
“لا شيء مؤكد، لكنه احتمال وارد، لنقل بدقة، أنتِ واحدة من المشتبه بهم.”
شعرت لاتيل بالصدمة والحنق، فقالت ساخرة: “ماذا تقولين؟ أنا ابنتكِ! هل من الممكن أن يكون والدي من نسل اللورد؟”
“الأمر لا يتعلق بالدماء، بل بالتجسيد الروحي.”
“هذا غير صحيح!”
صرخت لاتيل بصوت عالٍ، تشعر وكأن كيانها بالكامل يتم إنكاره، كان غضبها شديدًا لدرجة أنها بدأت تلهث.
ثم أدركت أنها ربما لا يجب أن ترفع صوتها الآن، فحراسها الشخصيون الذين جاءت بهم والدتها قد يكونون بالخارج، عليها أن تكون حذرة.
“أنا ابنتكِ!”
لكنها لم تستطع البقاء صامتة، خفضت صوتها، لكنها صرخت بصوت متقطع باكيًا
“أعلم، لاتيل، مهما كان من تكونين في حياتك السابقة، فأنتِ ابنتي التي أنجبتها واحتضنتها، هذا شيء لا يتغير.”
“إذًا لماذا؟”
“لأن لورد مصاصي بوجوده فقط يمكنه إيقاظ كل شرور العالم، ألم تقرئي ذلك في التحقيقات؟”
لم تكن لاتيل قد لاحظت أنها اقتربت من والدتها، كان كارلين جالسًا على حافة النافذة، يراقب هذا الجدال المربك بصمت.
“إذا كان الأمر كذلك، لماذا سمحتم لي أن أصبح ولية العهد؟”
“انا كنت في المعبد حينها.”
“آه، نعم، بالطبع، لم تكوني بجانبي أبدًا منذ البداية.”
كانت لاتيل تمسك شعرها بعنف من شدة التوتر، ثم سألت بغضب: “من الذي أطلق هذا الهراء بأنني اللورد؟، هل هو أخي؟، إذا كان كذلك، لماذا سمح لي بأن أصبح ولية العهد؟، لا، بل هو من دفعني لهذا المنصب منذ البداية!، هل كان يخطط لهذا الأمر منذ ذلك الحين؟”
ردت والدتها: “ليس الأمر كذلك، لاتيل.”
“لا أصدقكما، لا أستطيع أن أصدق شيئًا قائله أمي أو أخي.”
“لم يكونوا متأكدين من أنكِ مشتبه بكِ حتي قبل أن تصلي إلى منصب ولية العهد.”
“والآن تقولون إنكم غير متأكدين أنني لورد؟، فكيف لم تكونوا متأكدين أنني مرشحة؟”
“عندما أصبح رايان تلميذًا للمعلم العظيم وذهب إلى المعبد، سمع علامات مؤكدة تشير إلى اللورد، وظن أن هناك احتمالاً كبيرًا أن تكوني أنت.”
نظرت لاتيل إلى والدتها بغضب، بينما كانت تتنفس بصعوبة، أرادت تفسيرًا واضحًا، ولكن في الوقت ذاته تمنّت لو تنكر والدتها كل شيء وتصفه بالكذب، بل شعرت برغبة قوية في تحطيم كل شيء في الغرفة.
“إذا كنتم تعلمون بذلك عندما كنت ولية العهد، فلماذا لم تحاولوا إيقافي حينها؟”
قالت والدتها بهدوء: “أنتِ ابنتي وأخته، عندما عرفنا أنك قد تكونين تجسيد اللورد، لم نستطع التخلي عنكِ، نعلم كم أنتِ طيبة القلب، اعتقدنا أنكِ ستكونين مختلفة، حتى لو كنتِ تجسيدًا.”
“لكنكم الآن تعتقدون أنني لست كذلك؟”
أطلقت لاتيل نفسًا عميقًا وهي تحاول كبح غضبها، لم تستطع تقبّل كلمات والدتها حتى وإن كانت مليئة بالحنان.
“وفقًا للنبوءة، صعدتِ إلى العرش وأنتِ تسفكين الدماء.”
تذكرت لاتيل يوم تتويجها، حينها، حتى رايان الذي كان يكره اخيهم تالا مثلها، انتقدها على قتل أخيها غير الشقيق، تساءلت إذا كان ذلك أيضًا مرتبطًا بهذا الأمر.
“أنتِ تديرين الدولة بشكل جيد وتحكمين بحكمة، ولكن، مهما كنتِ إمبراطورة جيدة، هناك طاقة مظلمة تتزايد حولكِ، لاتيل، بدأت أمور غريبة تحدث، مثل اختفاء سكان القرى النائية بالكامل.”
صرخت لاتيل بانفعال : “هذا ليس بسببي!، أنا لست اللورد!”
ردت والدتها بحزم : “لم نتمكن من ترك الأمور كما هي، لذلك تدخلنا.”
صرخت لاتيل بغضب : “إذاً، لماذا لم تخبريني؟”
“ماذا كنت سأقول؟، أن العالم ينهار بسببكِ؟، وأنه عليكِ ترك العرش؟، هل كنتِ ستصدقين ذلك؟ لا، بل كنتِ ستظنين أنني ورايان قد فقدنا عقولنا وتحاولين منعنا من الاقتراب منكِ.”
“!…. وماذا لو تبين لاحقًا أني لست اللورد؟، ماذا لو كنتِ مخطئة وندمتِ؟، وفقًا لتحقيقاتي، اللورد هو تالا، أنا شبه متأكدة من ذلك.”
قالت والدتها بجدية: “أخبرتكِ، إنه مجرد احتمال، قد يكون تالا بالفعل.”
ضحكت لاتيل ببرود : “إنه ليس احتمالاً، بل حقيقة، تالا هو اللورد، فكرة صعودي إلى العرش مع إراقة الدماء؟، تالا أيضًا ينطبق عليه ذلك، أما أنا فلا أعرف شيئًا عن السحر الأسود أو أي شيء من هذا القبيل، بينما تالا مات ثم عاد للحياة ويفعل أشياء غريبة جدًا.”
حتى بعد تفسيرها الواضح، لم تكن والدتها مقتنعة بالكامل، بل ضيّقت عينيها وسألت: “هل أنتِ متأكدة أن تالا عاد للحياة؟”
“نعم!”
“كيف تكونين متأكدة؟”
“لأنني رأيته بنفسي!”
صاحت لاتيل بثقة، لكن والدتها ظلت محافظة على نبرتها الهادئة: “لاتيل، هل تالا عاد للحياة فعلاً أم أنكِ رأيتِ شخصًا ميتًا؟، هل أنتِ متأكدة تمامًا أي منهما هو الصحيح؟”
كانت كلمات والدتها كالسهم الذي أصاب لاتيل في الصميم، في لحظة واحدة، بدأت تراجع موقفها، رؤيتها لتالا كانت غامضة، وغير مؤكدة، هل كان ذلك حلمًا؟، أم واقعًا؟.
لو كان تالا قد عاد حقًا، فهذا يجعله اللورد المحتمل، ولكن، إذا كانت لاتيل قد رأت شخصًا ميتًا بفعل قوة مظلمة، فهذا يعني أن احتمال كونها اللورد أصبح أقرب إلى الحقيقة.
تساءلت بحدة: “إذن ماذا تريدين؟، بما أنني قد أكون اللورد، هل تنوين قتلي؟، أن تقتليني ثم تعيشي كإمبراطورة تتظاهرين بكونكِ أنا طوال حياتك؟ِ”
ردت والدتها بهدوء: “حتى نتأكد أنكِ لستِ اللورد، عليكِ البقاء في المعبد.”
“المعبد؟”
“لقد أعددت كل شيء، الكهنة مستعدون لتقديم العلاج لتهدئة طاقتكِ والحد من تأثيرها.”
ضحكت لاتيل بسخرية : “إذن عندما قلتِ إنك ذاهبة للمعبد لتهدئة روحكِ، كنتِ في الحقيقة تخططين للسيطرة عليّ؟”
“إذا ثبت أنكِ لستِ اللورد، يمكنكِ العودة إلى مكانكِ، ولهذا السبب سأتظاهر بكوني أنتِ مؤقتًا.”
بدأت لاتيل تغلق قبضتها وتفتحها مرارًا، مشاعرها متأججة، كانت هناك أسئلة تريد طرحها، لكن خوفها مما قد تسمعه جعلها تتردد.
وفي النهاية، قررت السؤال: “وإذا كنتُ اللورد فعلاً؟، هل ستقتلينني؟”
نهضت والدتها فجأة من على السرير، في أول حركة حادة لها منذ بداية المحادثة.
“لن يحدث ذلك، لاتيل.”
“لا أستطيع تصديقكِ.”
“لكن يجب أن أمنعكِ من إلحاق الضرر بالعالم.”
رفعت لاتيل زاوية شفتيها بسخرية: “لماذا لا تكونين صادقة؟، أنتِ تفعلين هذا لحماية أخي، أليس كذلك؟”
صمتت والدتها قليلاً قبل أن تقول: “بصراحة، لاتيل، لو لم يكن لديكِ أخ، لما كان يهمني إن كنتِ اللورد أو إن كان العالم في خطر، كنت سأهتم بحمايتكِ فقط.”
“!”
“لكن لدي طفلان، وعليّ حماية كليكما.”
عضت لاتيل شفتها السفلى بقوة، وبدأت عيناها تدمعان، مشاعرها كانت مزيجًا من الغضب، والحزن، والظلم، والضياع.
ثم أضافت والدتها بصراحة أكبر: “هل أقولها بشكل أوضح؟، لو كان شخص آخر هو مرشح ليكون اللورد، لكنت قتلت كل المرشحين دون تردد، هذا هو الحل الأكثر أمانًا.”
“!”
“ولكن لأنكِ مرشحة، لأنكِ ابنتي، أردتُ حمايتكِ، ولهذا أصبحت الأمور معقدة إلى هذا الحد.”
اقتربت والدتها منها ووضعت يديها على خديها، محاولة طمأنتها، لكن لاتيل تراجعت خطوة إلى الوراء قبل أن تلمسها، متذكرة أنها كانت ترتدي قناعًا سحريًا يغير ملامح وجهها، لم تكن تعرف إذا كانت والدتها تدرك ذلك أم لا، ولم تكن تريد المخاطرة.
عندما وجدت لاتيل نفسها في هذا الوضع المأزوم، قررت ألا تكشف كل أوراقها المتبقية، ورغم ذلك، لاحظت أن والدتها شعرت بالارتباك حين رفضت لمستها، وكان في عينيها انعكاس لجرح عميق.
رؤية تلك النظرة جعلت قلب لاتيل يتألم، على الرغم من الغضب الذي كانت تشعر به تجاه والدتها، كانت تحمل مشاعر متناقضة: لوم شديد تجاهها، وفي نفس الوقت كره لرؤيتها متألمة.
قالت والدتها بصوت متوسل: “لاتيل، من فضلكِ، اذهبي إلى المعبد بهدوء، لا أريد أن أراكِ تتألمي، عندما تهدأ الأمور، يمكنكِ العودة إلى حياتكِ الطبيعية، سأحرص على إطلاعكِ أسبوعيًا بكل ما يجري في شؤون الدولة، وستصلكِ الأخبار يوميًا، فكّري في الأمر كاستراحة قصيرة، حسنًا؟”
فكرت لاتيل بتمعن قبل أن تهز رأسها بالموافقة.
“حسنًا، سأفعل.”
فتحت ذراعيها وقالت : “لا أستطيع أن أغفر لكِ ما فعلتِ حتى الآن، لكنني أعلم أن ما تفعلينه هو من أجلي، لذلك، سأقبل طلبكِ، أنا أيضًا أريد سلامة أخي.”
عند سماع كلمات لاتيل، ظهر الحزن في وجه والدتها، تقدمت واحتضنتها بشدة كما كانت تفعل حين كانت صغيرة، وقالت: “هذا كله من أجلكِ، لكنني آسفة، لاتيل.”
عانقتها لاتيل بقوة أكبر، لكنها مالت برأسها نحو أذن والدتها وهمست بصوت منخفض : “لقد كذبت، يا أمي، لكنني لست آسفة.”
“!”