رجال الحريم - 73
كان الأمر أشبه بالنظر في المرآة، رؤية شخص يبدو تماماً مثلها يحدق فيها مباشرةً، هل يمكن لشيء غريب كهذا أن يحدث؟
غالباً ما يُقال إن “ما لا يمكن رؤيته بعينيك مباشرةً هو وجهك”، ليس الوجه الذي تراه في المرآة، بل الوجه الذي يُقابل وجهك فعلاً، هذا هو ما كانت لاتيل تختبره الآن.
“مرحباً.”
لكن حتى لو كان الأمر مدهشاً، لم يكن بإمكانها الوقوف هناك لتحدق في وجهها فحسب.
ابتسمت لاتيل بخجل متعمد وبدت مترددة، ثم ألقت التحية أولاً على الإمبراطورة المزيفة، تلاها المشرف المسؤول ومساعده بالترتيب.
عندها، ارتكزت الإمبراطورة المزيفة على يدها وطرحت سؤالاً بدا غريباً : “لماذا توجهين لي التحية أولاً؟، هل تعرفين من أنا؟”
سؤالها بدا وكأنه اختبار، بل من المحتمل أن تكون قد طرحته عمداً لتختبرها.
لكن بمجرد سماعها ذلك السؤال، أدركت لاتيل أن المزيفة لم تكن تعلم بعد أنها الإمبراطورة الحقيقية.
طرح سؤال مستفز كهذا يشير إلى أنها كانت تريد أن تعرف شيئاً ما.
‘هل أجيبها بأني أعرف؟، أم أنكر معرفتي؟، في النهاية، معظم العامة لا يعرفون وجه الإمبراطورة…’
بعد تفكير قصير، اتخذت لاتيل قرارها بسرعة وأجابت : “ألست جلالتة الإمبراطورة؟”
ابتسمت المزيفة بسخرية من زاوية شفتيها عند سماع إجابة لاتيل.
“كيف تعرفين وجهي؟”
ردت لاتيل بثقة ودون تردد : “لقد لاحظت أن المسؤول عن المقابلة ترك أعلى المقاعد شاغراً من أجلكِ، بينما الشخص الآخر لم يُسمح له حتى بالجلوس، فكرت أنه لن يكون هناك داعٍ لكل هذا إذا كان الزائر مجرد مسؤول عادي أو نبيل.”
ظلت المزيفة تحدق في وجه لاتيل بصمت، أما لاتيل، فقد بدت وكأنها تشعر بالحرج من نظراتها المستمرة، فتعمدت خفض رأسها لتحدق فقط في قدميها.
لحسن الحظ، لم تجد المزيفة شيئاً غريباً بشأنها بعد ذلك، ولم تقل شيئاً آخر، بدلاً من ذلك، طرح المسؤول بعض الأسئلة العادية فقط.
“سيتم الإعلان عن النتائج بعد يوم، يمكنكِ المجيء إلى المكتب غداً في الساعة الثانية بعد الظهر للتحقق منها.”
بعد انتهاء المقابلة، انحنت لاتيل لتحييهم ثم خرجت من غرفة المقابلة بحذر، ولكن بمجرد إغلاق الباب خلفها، شعرت أن التوتر قد زال تماماً، واستبدل ذلك بشعور وكأن قلبها قد تجمد.
نظر المرشحون الآخرون إليها بقلق، وبدت وجوههم وكأنها تقول : “ما الذي حدث داخل الغرفة؟”، لكنهم لم يتمكنوا من سؤالها عن ذلك لأنهم لم يكونوا قد تحدثوا معها مسبقاً.
لم تحاول لاتيل أيضاً فتح حديث معهم، بل غادرت مكان المقابلة بسرعة، شعرت أنها إذا بقيت هناك أكثر، قد تفلت منها كلمات مليئة بالغضب والشتائم.
‘أيتها المزيفة الوقحة… يا لها من جرأة!’
***
بطبيعة الحال، نجحت لاتيل في اجتياز المقابلة.
كان من المعروف أن الجزء الأصعب من اختبار الخادمات كان المرحلة الأولى المتعلقة بالوثائق، أما المرحلة الثانية، فكانت المقابلة مخصصة فقط لمعرفة إن كان الشخص يتصرف بتوتر شديد أو قد يخطئ أمام النبلاء، لم يكن من المتوقع أن تفشل.
حتى ظهور الإمبراطورة المزيفة لم يكن ليؤثر كثيراً، حضورها كان فقط بهدف العثور على لاتيل، ولم يكن له تأثير كبير على التقييم.
”عليّ مقابلة رايان، طالما أنني أرتدي زي الخادمة، سأتمكن من التنقل في معظم الأماكن، حتى لو غادرت منطقتي المحددة، يمكنني القول إنني جديدة وضعت قدمي في المكان الخطأ.”
بينما كانت لاتيل تستعد ليومها الأول في العمل، كانت ترتب مظهرها بعناية وتفكر في عشرات الطرق لمقابلة رايان.
“لن يضعوا موظفة جديدة في مكان مهم منذ البداية، من المرجح أن يأخذني الزملاء الأكبر سناً معهم لأداء بعض الأعمال البسيطة.”
ولكن بمجرد أن وصلت إلى العمل، حدث أمر غير متوقع.
“أنا سأعمل في غرفة جلالتها؟”
كان هذا ما قاله المسؤول عن الخدم في القصر، مشيراً إلى أن مكان عملها سيكون غرفة الإمبراطورة.
لاتيل، التي فوجئت تماماً، سألت غير مصدقة، لكن المسؤول رد بملامح صارمة : “العمل في غرفة جلالتها شرف كبير، لماذا تبدين وكأنك قد تلقيت خبراً سيئاً؟، إياكِ أن تظهري هذا التعبير أمام جلالتها.”
‘هل رأى يوماً شخصاً يحمل هذا التعبير؟’
فكرت لاتيل بضيق بينما تظاهرت بالخوف وردت : “لم أتعلم أي شيء عن العمل في القصر، وأخشى أن أرتكب خطأ إذا وُضعت فجأة في مكان قريب من جلالتها، أن يتم تعييني في منصب كهذا دون سابق إنذار ليس أمراً جيداً دائماً.”
اعترف المسؤول أن لديها وجهة نظر، لكنه لم يغير رأيه : “لكن هذا بأمر من جلالتها، ولا يمكن تغييره، عليكِ فقط أن تكوني ذكية وسريعة الفهم.”
‘اعتقدت أنني لم أُكتشف بعد، لكن يبدو أنني كنت مخطئة، هل استدعتني إلى جوارها فقط لتسخر مني؟’
بالطبع، إذا كانت قريبة من الإمبراطورة المزيفة، فستزيد فرصتها في التخلص منها، لكن التخلص من المزيفة يتطلب الحذر الشديد.
ألم يكن شقيق لاتيل، رايان، قد سبقها إلى خداع حلفائها بإقناعهم بأن المزيفة هي الحقيقية؟.
حتى لو حاولت أن تتفق معهم لتحديد الفرق بين المزيفة والحقيقية، فلن يمنحها رايان مثل هذه الفرصة أبدًا، للتغلب على هذا، كانت لاتيل بحاجة إلى حلفاء مقربين يستطيعون تأكيد أنها الحقيقية.
أي تصرف متهور، مثل قطع رأس المزيفة دون إثبات، قد يجعلها تبدو كخائنة تُتهم بقتل الإمبراطورة، مما يتيح لرايان فرصة للانقضاض عليها دون أن تتمكن من الدفاع عن نفسها، لذا، كان عليها أن تكون حذرة للغاية.
***
ورغم أنها عُينت في غرفة الإمبراطورة، إلا أن فرصها لرؤية المزيفة كانت ضئيلة جدًا.
بدأت لاتيل تفهم لأول مرة كيف تتم عملية ترتيب الغرفة في غيابها.
“قبل وصول جلالتها، يجب تنظيف الغرفة بالكامل والاستمرار بتهويتها كل ساعة، ويجب غلي الماء باستمرار ليبقى ساخنًا، ليأخذه الخدم لاحقًا إلى داخل الغرفة.”
“حسنًا.”
“كما يجب تقديم وجبات خفيفة ومشروبات للحراس الواقفين كل ساعتين، وإذا استخدمت الخادمات أشياء من غرفة الاستقبال، يجب إعادتها فورًا إلى مكانها.”
“حسنًا.”
“كل ما عليكِ فعله الآن هو متابعة الزميلات الاقدم في البداية.” قالت مدبرة الخدم، ثم أضافت بنبرة جادة: “آه، هناك أمر مهم آخر.”
“ما هو؟”
“قبل بضعة أيام، حاولت ساحرة التسلل إلى القصر متنكرة في هيئة جلالتها، لذا يجب أن تكوني حذرة.”
“حقاً؟، فهمت.”
أجابت لاتيل بمهارة، متظاهرة بالدهشة، رغم أن المدبرة كانت تنظر إليها بعدم ثقة، لكنها لم تضف المزيد من التعليقات.
بعد ذلك، بدأت لاتيل تتبع الخادمات الأخريات، متفقدة الغرفة بعناية بحثاً عن أي تغييرات أو أشياء غريبة قد تكون الإمبراطورة المزيفة قد تركتها وراءها، لكن الغرفة بدت طبيعية تماماً، المزيفة كانت دقيقة للغاية، ولم تستخدم سوى الأشياء الموجودة بالفعل في الغرفة.
كانت لاتيل تأمل أن تلتقي رايان بطريقة ما، لكن ذلك لم يتحقق، سمعت أنه يلتقي بالمزيفة في مكان ما، لكنه لم يكن يأتي إلى غرفتها.
من ناحية أخرى، رغم أن لاتيل كانت تعتقد أنها ستكون حرة في التجول، إلا أن تخصيصها للعمل في غرفة النوم الخاصة بالمزيفة جعلها تلتزم بالبقاء مع الخادمات الأخريات دون فرصة للتحرك بحرية.
***
لم تتمكن لاتيل من رؤية الإمبراطورة المزيفة جيداً إلا بعد يومين من بدء عملها، رغم أن الأمور لم تكن تسير بسلاسة كما توقعت، إلا أنها صبرت وتحلت بالإصرار، حتى جاء اليوم الذي اشتكت فيه المزيفة من صداع، وقررت البقاء في غرفتها بدلاً من حضور الاجتماعات الرسمية.
كانت الوصيفات يقدمن لها العناية المباشرة، بينما كانت الخادمات مثل لاتيل منشغلات بتوفير الماء الساخن والمناشف النظيفة، وكونها جديدة، اقتصرت مهام لاتيل على الأعمال البسيطة والمساعدة في الأمور الصغيرة، لكن في حوالي الساعة السادسة مساءً، سنحت لها الفرصة للبقاء وحدها مع المزيفة في نفس الغرفة.
كانت الخادمات قد خرجن جميعاً إلى غرفة الاستقبال، والمزيفة كانت مستلقية على السرير وعيناها مغمضتان.
بينما كانت لاتيل تتحرك بين النافذة والحمام، كانت تراقب المزيفة بنظرات جانبية، متسائلة عما إذا كانت ترتدي قناعاً سحرياً مثلها.
‘ماذا لو ذهبت وفحصت وجهها؟، إذا استطعت نزع قناعها، مهما كانت خطط رايان، يمكنني قلب الموقف فوراً.’
“لنقم بذلك.”
انتظرت حتى تأكدت من أن المزيفة قد استغرقت في النوم، تقدمت لاتيل ببطء وحذر نحوها، مخفية خطواتها.
بمجرد اقترابها، توقفت لاتيل لتراقب رد فعل المزيفة، وحين تأكدت من نومها العميق، مدت يدها ببطء شديد نحو وجه المزيفة دون إصدار أي صوت.
لكن في اللحظة التي كادت يدها تلامس وجه المزيفة…
دق الجرس!
رن الجرس المعلق عند السرير فجأة، مما أيقظ الإمبراطورة المزيفة على الفور، في تلك اللحظة، سحبت لاتيل يدها بسرعة وتظاهرت بأنها مشغولة بعصر منشفة مبتلة بجانبها.
“ما الأمر؟” سألت المزيفة بحدة.
“السيد كارلين يطلب مقابلتكِ، جلالتكِ.”
واصلت لاتيل عصر المنشفة حتى توقفت عن إخراج الماء، ثم رفعتها وكأنها تحاول التخلص من الحرارة الزائدة، وضربت بها راحة يدها بخفة، ورغم أن الإمبراطورة المزيفة كانت تراقبها، لم تُعرها لاتيل أي انتباه.
في تلك الأثناء، فتح الباب ودخل كارلين الغرفة.
‘ماذا سيفعل زوجي الآن؟’ تساءلت لاتيل في سرها.
‘لا بد أنهم شعروا بالصدمة عند سماع خبر ظهور المزيفة، ربما كان كارلين الأكثر تأثراً’
‘هل من الممكن أن تكون المزيفة قد حاولت لمس احد ازواجي؟!’ فكرت لاتيل بغضب.
‘لو كان لدى رايان القليل من الذكاء، لمنع ذلك، ليس من أجلي بل خوفاً من أن يكتشفوا زيفها.’
كان كارلين قد اقترب من السرير، حيث جلست المزيفة ببطء، مخاطبة إياه بصوت ضعيف : “ما الذي جاء بك إلى هنا، كارلين؟”
سمعت لاتيل ذلك وشعرت بتيقن أكبر: ‘لا يمكن أن يكون رايان قد دبر كل هذا وحده’
أسلوب المزيفة في التحدث مع كارلين كان قريباً جداً من الطريقة التي كانت تتحدث بها لاتيل مع محظيّيها، من المستحيل أن تحاكي المزيفة تلك التفاصيل الدقيقة دون أن يُعلّمها أحد.
استمرت لاتيل في عصر المنشفة وهي تراقب كارلين بحذر. ‘هل سينخدع بها؟’
رغم أملها في عكس ذلك، بدا أن الخدعة قد تنجح، لاتيل نادراً ما كانت تتحدث بعمق مع محظيّيها، إذ كانت تتركهم يتعاملون مع بعضهم البعض دون تدخل، باستثناء تيسير الذي كان يرافقها في المواقف خطرة، أما كارلين، الذي لم يتحدث معها إلا قليلاً، فقد كان من الطبيعي أن ينخدع.
زاد تأكيدها عندما لم ينظر كارلين حتى باتجاهها، مما جعلها تشعر بالإحباط وهي تعصر المنشفة بإصرار.
“سمعت أن جلالتكِ ليست بخير، فحضرت للاطمئنان عليكِ، هل أنتِ بخير؟”
“لست بخير، رأسي يؤلمني باستمرار.”
“هل هذا بسبب الساحرة التي ظهرت قبل أيام؟”
“ربما، لا أعرف كيف أتعامل مع هذا الأمر، لا توجد حتى سجلات تساعدني… لكن، لحسن الحظ، لديّ عظيم الكهنة بجانبي، أليس كذلك؟”
“نعم، رؤية جلالتكِ الثاقبة تظهر في مثل هذه الأوقات.”
بصوت منخفض وهادئ، واصل كارلين تهدئة المزيفة، بل واقترب منها ورفع الغطاء الذي انزلق قليلاً عن ركبتيها ليعيده إلى مكانه بعناية.
“عندما تشعرين بالتعب، اعتمدي علي، جلالتكِ، أنا دائماً في صفكِ.”
الإمبراطورة المزيفة بدت راضية عن اهتمام كارلين، وأومأت برأسها وهي تبتسم، كادت لاتيل تفقد أعصابها وكادت تمزق المنشفة بين يديها، راودتها فكرة غمر المنشفة بالماء وصفع ظهر كارلين بها بشدة.
‘زوجتك الحقيقية هنا، أيها الأحمق!’
كارلين دون أن يلقي نظرة واحدة عليها، مستمر في تصرفه المليء بالعناية تجاه الإمبراطورة المزيفة، ازداد غضب لاتيل، فأمسكت بدلو الماء وخرجت من الغرفة.
ورغم أنها لم تكن تربطها علاقة وثيقة جدًا مع كارلين، إلا أنها شعرت بالضيق من رؤيته يعتني بشخص آخر غيرها بهذه الطريقة، هو زوجها لها وحدها.
صبّت الماء في الحديقة القريبة وهي تصرخ: “كارلين ايها الأحمق!، كيف له أن يتصرف بتلك اللطافة مع المزيفة ويناديها بـجلالتكِ”؟!
رغم أن صوتها كان عميقًا ومهيبًا كالعادة، إلا أن استيائها الشديدة بقي في ذهنها.
“انتظر لحظة… جلالتكِ؟”
فجأة، أدركت شيئًا غريبًاذ، كارلين لم يناديها أبدًا بـ”جلالتكِ”، بل كان دائمًا يناديها بـ”مالكتي”، حتى عندما طلبت منه أن يتوقف عن ذلك، ولكنه اليوم استخدم لقب “جلالتكِ” مع المزيفة.
كما أنه لم يبدِ أي اهتمام برقبتها كما اعتاد.
“هل اكتشف الأمر؟!”
بينما كانت تتأمل ما حدث، استدارت فجأة لترى كارلين يقف بين الشجيرات، ينظر إليها مباشرة.
“هل اكتشف المزيفة… وأيضًا اكتشفني؟”
ما هذا؟، هل هو كلب؟، دائم التعلق برقبتي، والآن يبدو كأنه يعتمد على حاسة الشم مثل الذئاب.
رغبت في الاقتراب منه وسؤاله، ولكنها تذكرت أن نافذة غرفتها تطل على هذا الموقع، لذلك، تجاهلته واستمرت في عملها، ثم عادت إلى غرفتها وكأن شيئًا لم يحدث.
في الداخل، علّقت المنشفة على الحامل وبدأت تضربها برفق لتجف، ولكن فجأة، اقتربت رئيسة الخدم وقالت بلهجة تنم عن القلق:
“فانيسا، جلالتها تطلب حضوركِ فورًا.”
“لماذا؟” فكرت لاتيل، هل رآها أحد أثناء تبادل النظرات مع كارلين؟، قلبها بدأ يخفق بقوة، ولكنها لم تستطع الرفض، لذا دخلت الغرفة ببطء.
لدهشتها، لم تكن المزيفة وحدها، بل كان رينيان موجودًا أيضًا.
‘شخصان أرغب في خنقهما هنا معًا!’
فكرت انها ربما هذه إشارة من القدر لتصطدم رأسيهما ببعضهما لتفجرهما.
رغم أفكارها الغاضبة، اقتربت بخطوات هادئة وسألت بهدوء:
“سمعت أنكِ طلبتني، ما الأمر؟”
ولكن الإجابة التي تلقتها كانت كالصاعقة.
“اخلعي.”