رجال الحريم - 67
‘لا، لا ينبغي أن تظهر هنا، إذا فعلت ذلك، فما الذي يعنيه ذهابي إلى رانامون وتلقي نظرات الكراهية فقط؟’
كان الغضب يغلي في رأس لاتيل، لكنها لم تستطع الانجراف مرة أخرى مع هيسينت هنا.
‘إذا بدأ في قول الهراء، سأسمع صوت نباح الكلاب يتردد في رأسي طوال الليل بينما أستلقي في السرير، هل هذا في صالحي؟، بالطبع لا’
قررت بصرامة أن تتجاهله، استدارت لاتيل بسرعة وواصلت السير عبر الممر، دون أن تلتفت مرة واحدة حتى دخلت غرفة نومها.
“ربما يجب أن أعتبره أمرًا جيدًا”
هيسينت لم يحاول أيضًا أن يمسك بها.
“جلالتكِ، هل عدتِ بهذه السرعة؟”
تفاجأت الخادمات اللواتي كنّ يلعبن في غرفة الاستقبال، ووقفن بسرعة عندما رأين لاتيل، تمامًا مثل خادم رانامون.
كنّ قد سمعن أنها ذهبت إلى الحريم، لذا كنّ متفاجئات لأنهن اعتقدن أن لاتيل ستقضي الليلة هناك.
“الماء الساخن للحمام لم يُحضّر بعد… ماذا نفعل؟” سألت أرنديل، إحدى الخادمات، بقلق، فردت لاتيل بتنهيدة خفيفة وقالت، “لا بأس”، ثم دخلت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب.
“سأهتم بالأمر بنفسي، يمكنكنّ أن تسترحن”
خلعت لاتيل ملابسها التي بدت أثقل من المعتاد، ودخلت إلى الحمام، عندما فتحت الصنبور، تدفقت المياه الباردة بسرعة.
في الأيام العادية، كانت الخادمات يجهزن مسبقًا الماء الدافئ ويملأن الحوض، لكن اليوم، لم يتم تحضير أي شيء، لا الماء الدافئ، ولا بتلات الزهور، ولا حتى الرغوة الناعمة.
بدأت لاتيل تغسل وجهها ببطء بالماء البارد، وهي تحاول الاسترخاء.
بعد أن انتهت من غسل وجهها، لم تذهب إلى السرير، بل التقطت كتابًا كانت قد بدأت قراءته قبل أيام وجلست على الكرسي المريح.
كانت تقرأ الكلمات التي لم تكن تستوعبها، لكنها استمرت بذلك لبعض الوقت، وأخيرًا، لم تستطع تحمل الأمر أكثر، فأغلقت الكتاب ووضعته على الكرسي وركضت إلى النافذة.
رفعت الستارة قليلاً وأخرجت رأسها لتبحث بسرعة عن المكان الذي كان يقف فيه هيسينت.
“…”
لكنه لم يكن هناك، ضحكت لاتيل بسخرية، بالطبع لن يكون هناك، ما الذي كنت أتوقعه؟، هل كان من المفترض أن ينتظر هناك لساعات؟
تركت الستارة وسارت نحو السرير، لكنها توقفت وعادت إلى النافذة، ثم أسدلت الستارة مرة أخرى.
لم تكتفِ بذلك، بل عقدت الحبال حتى لا تفتح الستارة مجددًا، ثم عادت إلى السرير واندست تحت الأغطية.
“كان يجب أن أتحمل الأمر حتى النهاية”
شعرت بأنها غبية ومغفلة لأنها لم تستطع الصبر ورفعت الستارة، ما الفائدة من الجدال معه في البداية، إذا كنت ستتصرفين هكذا خلف الكواليس؟.
بينما كانت لاتيل تغرق في الأغطية، شعرت بالاختناق تدريجيًا، فخفضت الأغطية إلى النصف واستدارت لتنظر إلى الجانب الفارغ بجوارها، لا أحد كان مستلقيًا بجانبها.
مدت يدها لتلمس المكان بجانبها، فشعرت بملمس بارد وناعم يلتصق بيدها.
“ذلك الوغد هيسينت جاء للحظة ثم رحل، لماذا تظل آثاره تلاحقني؟”
ظلت تتلمس المكان بجانبها لفترة طويلة، ثم سألت بصوت مرتفع دون أن تدرك :
“متى ستغادر؟”
بالطبع، لم يكن هناك رد، أغلقت لاتيل عينيها بضعف.
لو كان أحد أفراد عائلتها، سواء أمها، أو أبيها، أو حتى أخوها بجانبها في هذه اللحظة، هل كان ذلك ليخفف من الأمر؟.
***
اختفى الضوء الذي كان يتسلل من بين الستائر تمامًا، تحولت النافذة إلى سوادٍ حالك تحت السماء المظلمة.
لم يعد من الممكن رؤية النافذة بوضوح، فقط عندما يظهر القمر من بين السحب، تضيء إطارات النافذة قليلًا في الضوء الخافت.
“تصبحين على خير، لاتيل”
استدار هيسينت وعاد إلى القصر المخصص للضيوف، بينما كان يمشي، كان يشعر بالاستياء من نفسه، فبدأت خطواته تزداد سرعة.
هي تكره حتى رؤيته، فلماذا أتى إلى هنا؟، يبدو أنه زاد من غضبها فقط.
“جلالتك.”
عندما وصل هيسينت إلى الغرفة التي كان يقيم فيها، وجد قائد الحرس واقفًا أمامها بقلق، بدا عليه التوتر، وكأنه لم يكن يريد مجرد توبيخه على التجوال بمفرده في هذا الوقت المتأخر.
“ادخل”
أدرك هيسينت على الفور أن هناك أمرًا ما، فدخل الغرفة أولًا، تبعه قائد الحرس وأغلق الباب بصمت، ثم تحدث بصوت هادئ :
“جلالتكِ الإمبراطورة ليست على ما يرام”
“الإمبراطورة؟، هل تقصد آيني؟”
“نعم”
خلع هيسينت عباءته التي كانت تخنقه، وعبس.
“لماذا فجأة؟، كانت بصحة جيدة، أليس كذلك؟”
بما أن آيني كانت عدوته، كان هيسينت على علم دقيق بحالتها الصحية أكثر من مجرد شريك زواج سياسي عادي، وعلى حد علمه، كانت آيني ذات بنية صحية للغاية.
فلماذا ساءت حالتها فجأة؟.
خفض قائد الحرس صوته أكثر.
“الأمر ليس بسبب المرض”
“؟”
“يقولون إنها تهذي، وتردد أن الأمير هيوم عاد”
ابتسم هيسينت بسخرية عندما سمع اسم هيوم.
“لم أترك المكان لتظهر مثل هذه الأشياء”
“هل تعتقد أنها تتظاهر بالجنون عمدًا؟، الدوق داغا يقول إنها تهذي بسبب ارتفاع شديد في الحرارة.”
كان من الطبيعي للدوق داغا أن يتصرف بهذه الطريقة، فتحدث الإمبراطورة عن عودة الأمير الذي قاد التمرد، وهي التي كانت حبيبته في السابق، هو أمر من شأنه أن يثير القيل والقال، حتى وإن لم تكن قد جنّت، فلابد أن يدّعي أنها مجنونة.
ومع ذلك، لم يظهر هيسينت أي رد فعل وهو يخلع معطفه، لكن حركته في فك رباط الرداء أصبحت أبطأ تدريجيًا، إذ استغرق في التفكير.
بينما انتظر قائد الحرس بصبر، تحدث هيسينت مجددًا، تقريبًا في اللحظة التي انتهى فيها من فك الرباط.
“ليس هناك فائدة تُرجى من أن تتظاهر آيني بالجنون، ولا من إثارة قصة هيوم.”
“بالطبع، صحيح، مع أن الإمبراطورة آيني تحدثت عن الأمير، إلا أن الجميع بدأوا يتحدثون عن الماضي من جديد، هناك حتى من يقولون إنها جنّت بسبب حنينها إلى حبيبها السابق.”
رغم أن الدوق داغا طموح، إلا أنه ليس من الحمقى الذين سيعترضون هيسينت في الوقت الحالي.
لو كان ينوي التخلص من هيسينت، فسيكون ذلك في اللحظة التي تحمل فيها الإمبراطورة آيني وريثًا ملكيًا، إذاً، في هذه الحالة…
“الأمر يبدو غريبًا”
“هل تعتقد أن هناك مؤامرة؟”
“لا، ما هو غريب هو أن آيني تهذي”
“هل تصدق ذلك؟”
“بعض الكلام الذي يقوله الأعداء يكون منطقيًا أكثر”
ناول هيسينت رداءه لقائد الحرس ثم نظر إلى الخارج، كانت الليلة تبدو أكثر ظلمة من المعتاد، وكأن ضوء النجوم والقمر قد خفت بشكل غير طبيعي.
“يجب أن أعود فورًا.”
***
“هل أحلم بكابوس لأنني نمت وأنا ألعن و اسب هيسينت؟”
تمتمت لاتيل وهي تنظر حولها في القلعة المظلمة، لم ترَ قلعة بهذا الرعب من قبل، مقارنة بكل القلاع التي زارتها.
كانت مظلمة ورطبة للغاية، حتى أكثر من المكان الذي كانت تُحتجز فيه المحظية أناكاشا.
“هل أنا في سرداب؟”
كان من الواضح أن هذه القلعة ضخمة، ولكن الغريب أنه لم تكن هناك أي نوافذ.
“يشبه السرداب حقًا”
عندما لامس الهواء البارد أنفها، شعرت بالقشعريرة واحتضنت نفسها بينما استمرت في السير ببطء إلى الأمام.
“يا له من حلم واقعي للغاية”
لكن على الرغم من أنها كانت تعلم أنها في حلم، إلا أنه لم يظهر أي شيء سوى الممرات، مهما سارت، بدأت تشعر كما لو أنها كانت في متاهة وليست قلعة، وفجأة، أمسك شخص ما بذراعها.
“!”
استدارت بفزع لترى رجلًا يرتدي قناع ثعلب يقف أمامها، كان هو من أمسك بذراعها.
عندما نظرت إليه لاتيل، رفع الرجل يده عنها وفتح شفتيه ليتحدث، لكن قبل أن يتمكن قناع الثعلب من قول شيء…
من أسفل الممر، بدأت تتردد أصوات خطوات أحذية تصطدم بالحجارة، وأصوات همسات خافتة، يبدو أن هناك درجًا في الجهة المقابلة، وأن أحدهم يصعد نحو هذا الاتجاه.
نظرت لاتيل حولها بسرعة، لكنها لم تجد مكانًا تختبئ فيه، إذ كان الممر فقط يمتد أمامها.
‘لكنني بالفعل اكتشفت من قبل قناع الثعلب، لا فائدة من الاختباء الآن’
في تلك اللحظة، قام الرجل ذو قناع الثعلب بخلع معطفه ووضعه فوق رأس لاتيل.
‘ما هذا؟’ نظرت إليه مذهولة، فرأته يرفع إصبعه إلى شفتيه مشيرًا لها بالصمت.
“ششش” كانت الإشارة واضحة، بدا وكأنه يحاول حمايتها من الخطوات القادمة نحوهم…
شعرت لاتيل بالدهشة.
‘أيعقل أن مجرد تغطية رأسي بالمعطف وإغلاق فمي سيجعلني غير مرئية؟’
‘هل هذا الرجل قناع الثعلب هو حقًا حيوان؟، فالحيوانات غالبًا ما تظن أنها تختبئ بمجرد أن تغطي عيونها.’
ولكن…
‘هل فعلاً لا يراني أحد؟’
عندما وصل الأشخاص الذين صعدوا الدرج، لم يلقوا حتى نظرة نحو لاتيل، ولا حتى نحو الرجل ذو قناع الثعلب.
‘هل هذا نوع من السحر الأسود؟’
لكن ما أثار دهشتها أكثر هو رؤية الشخص الذي كان يتصدر المجموعة، كان ذلك تالا، الشخص الذي أمرت بإعدامه وشهدته بنفسها.
وأتباع تالا كانوا يلبسون أقنعة حيوانات مختلفة… الوحيد الذي لم يكن يرتدي قناعًا هو تالا نفسه.
‘هل هو حقًا على قيد الحياة؟’
عندما تراجعت لاتيل إلى الخلف خطوة، صدر صوت احتكاك حجارة تحت قدميها، يبدو أنها ركلت بعض الحصى المتناثرة على الأرض.
في تلك اللحظة، توقف تالا فجأة وبدأ ينظر حوله.
“هل سمعت شيئًا؟”
غطت لاتيل فمها ونظرت بترقب إلى تالا، كان يتفحص المكان بعينيه، ثم التفت إلى الجهة اليمنى، مرّ نظره بجانبها مما جعل جسدها يقشعر.
لحسن الحظ، لم يلاحظها تالا وعاد ليواصل سيره، بدا أنه لم يرَ لاتيل بالفعل.
“بالمناسبة، أين الثعلب؟، لماذا هو دائمًا مفقود؟”
“إنه دائمًا مشغول، أليس كذلك؟”
لكن بالكاد شعرت لاتيل بالراحة حتى انتفضت مرة أخرى، أحد أتباع تالا، الذي كان يرتدي قناع أرنب، ألقى نظرة خاطفة نحوها بعد أن سمع حديث تالا.
ولكن بدلاً من أن يتفاعل أو يقول شيئًا، عاد لينظر إلى الأمام وواصل حديثه مع تالا.
“بفضله، تسير الأمور بسهولة”
“أمي محتجزة في البرج، أختي لديها شخصية فظيعة، لذا من المؤكد أنها تسيء معاملتها، يجب أن أُنقذها”
اختفى تالا ومن معه تمامًا بعد أن استمروا في المشي، وعاد الصمت المظلم إلى المكان الذي كان مليئًا بالكلام قبل لحظات، في تلك اللحظة، أبعد الرجل ذو قناع الثعلب معطفه عن رأس لاتيل وقال:
“ليس الوقت المناسب بعد”
‘ليس بعد؟’
عقدت لاتيل حاجبيها مستغربة من كلامه الغامض، لكن الرجل ذو قناع الثعلب لم يشرح المزيد، بل عرض عليها :
“سأرافقكِ إلى القصر، تمسكي بي جيدًا…”
لكن قبل أن يكمل حديثه، أمسكت لاتيل بقناعه ونزعته بسرعة، وكان الوجه الذي ظهر هو…
* * *
“أنت!”
صُدمت لاتيل وأنتفضت، لتجد نفسها تمسك بفك جيستا، وعندما التقت عيونها المرتبكة بعينيه المتفاجئتين، أسقطت يدها بسرعة وقالت :
“آه، آسفة”
نظر إليها جيستا بوجه مذهول قبل أن يسأل بتلعثم :
“جلالتكِ؟ هل… أنتِ بخير؟”
نظرت لاتيل حولها.
لم يكن هذا هو الممر المظلم والمخيف، بل كانت حديقة جميلة داخل الحريم، مضاءة بمصابيح تشبه النجوم.
“لماذا أنا هنا؟”
سألت لاتيل، فهز جيستا رأسه بعجز.
“لا أعرف، كنت أتجول ورأيت جلالتكِ مستلقية هنا…”
فكرت لاتيل لوهلة إن كان جيستا هو الرجل ذو قناع الثعلب، وإن كانا قد كانا معًا في ذلك القصر، لكن بالطبع، كان مظهر جيستا مختلفًا تمامًا عن الرجل ذو القناع، إلا أن الوضع بات مشبوهًا بعد أن نزع القناع.
“أمم، جيستا…”
“نعم، جلالتكِ”
ولكن قبل أن تتمكن لاتيل من طرح سؤالها…
“أين جلالتها؟”
قاطعها صوت كارلين قادم من مكان قريب، بينما كان صوت خطواته على العشب يقترب أيضًا.
“هل لم تستفق جلالتها بعد؟”
وبعد لحظات، ظهر كارلين معه الطبيب الملكي،
“جلالتكِ.”
اقترب كارلين منها بوجه مطمئن، ثم مد يده بلطف ليتفحص وجهها.
“هل أنتِ بخير؟”
سألت لاتيل : “لماذا أنا هنا؟”
تبادل كارلين وجيستا نظرات قصيرة قبل أن يسألها كلاين بحذر :
“هل لا تتذكرين شيئًا؟”
عندما هزت لاتيل رأسها نفيًا، تحدث كارلين بصوت جاد :
“عندما وجدناكِ، كنتِ بالفعل مستلقية هنا”
“انتما؟، هل وجدتني أنت وجيستا معًا؟”
“نعم.”
نظر الطبيب الملكي إليهم بحيرة، ولم يكن يعرف ما يجري، التفتت لاتيل ودفعت شعرها المتساقط عن وجهها إلى الخلف وهي تفكر.
‘إذًا، لم أكن في ذلك القصر الأسود حقًا، بل كنت هنا طوال الوقت؟؟ هل يمكن أن أكون نائمة أو أمشي في نومي؟’
شعرت بخيبة أمل كبيرة.
‘إذًا، تالا وقناع الثعلب… هل كان لقاؤهما مجرد حلم؟’