رجال الحريم - 64
كانت لاتيل تثق في جيستا، فهو لم يكن من النوع الذي يعطي شخصًا الدواء دون علمه.
لكن لاتيل لم تكن تثق في الطبيعة البشرية، مهما كان الشخص طيبًا فإنه لا يخلو من الغضب، ومهما كان طيبًا فإن المصالح الشخصية دائمًا تلعب دورًا.
تعرض جيستا للإهانة من كلاين عدة مرات، ربما كان قد اتخذ هذا القرار بدافع من غضب مفاجئ، أو ربما للدفاع عن نفسه.
‘قد يكون شخص ما من أتباع جيستا هو الذي فعل هذا، أو ربما أحد المحظيين الآخرين الذين يرغبون في استغلال الفرصة لتحقيق مصالحهم.’
كان هناك العديد من الأشخاص الذين يمكن أن يكونوا المذنبين.
‘ما العمل؟’
بعد تفكير طويل، استدعت لاتيل رئيس طهاة القصر وأعطته تعليمات سرية.
“أعد حساء الفطر ثم برده، أريده أن يبدو وكأنه قد تم تحضيره قبل عدة أيام، وليس الآن.”
“هل تريدين أن يكون الطعم قد بدأ يفسد قليلاً؟”
“سيكون ذلك جيدًا، لكن لا تجعله يفسد حقًا”
“أستطيع أن أجعله يبدو قديمًا دون أن يفسد، جلالتكِ”
بعد فترة، حضر رئيس الطهاة الحساء الذي بدا وكأنه قد تم تحضيره قبل أيام، تذوقت لاتيل منه وأومأت برأسها راضية.
“رائع، طعمه مثل القمامة، هذا تمامًا ما أريده”
أكان هذا مدحًا؟، شعر رئيس الطهاة بشيء من الانزعاج، لكنه شكرها بانحناءة وخرج.
“ما الذي تنوين فعله بهذا الحساء؟”
سألها السير سونوت الذي لم يكن يفهم ما الذي تحاول القيام به، لكن لاتيل اكتفت بابتسامة غامضة وهي تحرك الملعقة.
“أريد فقط التحقق من شيء ما.”
***
“هل سمعتِ عن ذلك؟”
“هل تقصد عن الحساء؟”
“نعم، رانامون هو من أكل الحساء الذي كان مخصصًا لكلاين، ويبدو أن هناك شيئًا ما كان بداخله”
“سمٌ، صحيح؟”
“أليس مجرد دواء مسهل؟”
“لا أعلم، على كل حال، رانامون شرب منه وبدأ يشعر بشيء غريب في جسده، يبدو أن الدواء الذي تم وضعه في الطعام كان قويًا، لحسن الحظ، شرب القليل منه فقط وبقي معظم الحساء، وعندما علمت جلالتها بالأمر، غضبت وأخذت الحساء”
كان خدم الحريم يجتمعون كلما أتيحت لهم فرصة للراحة، يتهامسون فيما بينهم.
ولم يكن هذا الحديث مجرد همسات بين عدد قليل من الأشخاص، بل سرعان ما انتشر لدرجة أن حتى الخدم الذين لا يختلطون بالآخرين كثيرًا سمعوا عن قصة الحساء.
“لكن لماذا أخذت جلالتها الحساء؟”
“ربما للتحقيق في ما وُضع فيه؟، عليها أن تعرف حتى تتمكن من علاج رانامون، أليس كذلك؟”
“هل يمكن أن يكتشفوا ذلك من خلال الحساء؟”
وصلت هذه الشائعات إلى منير، خادم جيستا.
لكن على عكس الآخرين الذين كانوا يشعرون بالفضول فقط، شعر منير بالخوف.
“رانامون تناول الدواء؟، وجلالتها أخذت الحساء؟”
رانامون كان الابن الأكبر لعائلة الدوق أتراكسيل، وكان الجميع يعلم أن الإمبراطورة لاتراسيل، رغم معاملتها اللطيفة مع حريمها، لديها تاريخ مخيف معروف.
فبعد توليها العرش، نَفَت المحظية المفضلة لدى والدها، وأعدمت إخوتها غير الأشقاء الذين تنازعوا معها على العرش.
كانت الإمبراطورة لاتراسيل تبدو ودودة في كثير من الأحيان، لكنها كانت تملك طبيعة حادة مخيفة تُنهي الأمور فورًا إذا شعرت بأي تهديد.
والآن، بعدما غضبت وأخذت وعاء الحساء الذي يحتوي على الدواء، لم يكن لمنير إلا أن يشعر بالخوف.
“لا بأس، لا يوجد دليل حتى الآن، حتى لو عرفوا ما هو الدواء الذي تم وضعه، فهذا كل ما في الأمر.”
***
“هل انتشرت الشائعات؟”
“نعم، الحريم بأكمله يتحدث عنها الآن”
لكن الذين يتحدثون عن لاتيل، رانامون، وحساء الفطر، ربما لا يدركون أن مصدر تلك الشائعات كان لاتيل نفسها.
“ألم يكن من الأفضل استدعاء كل شخص واستجوابه واحدًا تلو الآخر؟”
على الرغم من أن كبير الخدم نشر الشائعات بناءً على أوامر لاتيل، إلا أنه لم يكن يظن أن هذه كانت الطريقة المثلى، فسألها بحذر.
لم يكن هناك خيار آخر، حتى كبير الخدم لم يكن يعرف بالتحديد ما كان ذلك “الدواء” الذي تناوله رانامون.
لو كان يعرف الحقيقة، لفهم سبب رغبة لاتيل في التعامل مع الأمر بهدوء، لكنها لم تخبره عن التفاصيل لحماية كرامة رانامون.
“لا يمكنني تضخيم الأمر إذا لم يكن رانامون يريد ذلك”
“ومع ذلك، أخشى أن يتكرر نفس الشيء مرة أخرى إذا تم التعامل مع الأمر بهدوء”
“سنفكر في ذلك لاحقًا”
ربتت لاتيل على كتف كبير الخدم بخفة لتخفيف قلقه، ثم طلبت منه قائلة :
“أحضر المحظيين إلى القاعة باستثناء رانامون، يا ماركيز سابل”
“نعم، جلالتكِ”
“آه، وهناك شيء آخر.”
“؟”
***
حوالي ثلاثين دقيقة بعد ذلك، كانت لاتيل تفكر في سبب يدفعها للذهاب إلى كاريسين بنفسها، وعندما شعرت أن جميع المحظيين قد اجتمعوا الآن، قررت القيام والتحرك باتجاه الحريم.
كما توقعت، كان الجميع مجتمعين في الغرفة، المحظيون وخدمهم.
كان كارلين بوجهه المعتاد الخالي من التعبير، بينما كان كلاين يتثاءب، جيستا بدا غير مرتاح بوجود الكثير من الأشخاص، أما عظيم الكهنة فكان يبتسم ببراءة ويتبادل المزاح مع تيسير، من الواضح أن عظيم الكهنة وتيسير تقاربا بسرعة بعد أن عالجه.
وفي أحدي زوايا الغرفة، كانت هناك طاولة ، وعليها صحن مغطى بغطاء فضي مستدير.
نظرت لاتيل بعناية إلى وجوه الخدم والمحظيين، ثم تعمدت أن تُصدر صوتًا بخطواتها وهي تتجه نحو المقعد الأول في الغرفة.
“هل وصلتِ، جلالتكِ”
ما أن اكتشفوا وجود لاتيل، حتى وقف الجميع محظيون وخدمًا يحيونها في انسجام.
لوحت لاتيل بيدها بخفة لتجنب التحية، وبعد أن عم الصمت، اتخذت تعبيرًا صارمًا وبدأت تتحدث بنبرة حادة :
“ربما يكون بعضكم قد سمع بالفعل، لكن أحدهم وضع شيئًا في الحساء الذي كان من المفترض أن يشربه رانامون”
سبق وأن جمعت لاتيل الحريم والخدم عندما تعرض جيستا لإصابة بحجر، حيث ألقت محاضرة عليهم آنذاك.
ولهذا، حين كانوا في طريقهم إلى هنا، توقع الجميع أن تكون لاتيل ستتحدث عن حادثة الحساء.
لكن عندما بدأت لاتيل الحديث عن الأمر بشكل صريح، اتخذت وجوه الجميع تعبيرات مظلمة.
إلقاء الحجارة أمر خطير، لكن وضع سم أو أي نوع من الأدوية المجهولة في الطعام هو شيء مرعب حقًا، الجميع كانوا غير متأكدين مما قد تفعله لاتيل التي أعدمت إخوتها غير الأشقاء عند الغضب.
“تيسير”
فجأة، نادت لاتيل تيسير، الذي مال برأسه قليلاً متسائلًا.
“نعم، جلالتكِ”
“تقدم وافتح ذلك الغطاء”
تقدم تيسير إلى الطاولة ورفع الغطاء، وعندها أطلق الجميع تنهيدة جماعية، كان هناك وعاء الحساء.
بما أن الشائعات حول الحساء كانت قد انتشرت بالفعل في الحريم، افترض الجميع أن هذا هو الحساء الذي شربه رانامون.
وكان هذا هو ما أرادته لاتيل بالضبط.
تيسير، الذي كان يحمل الغطاء بيده، نظر إلى لاتيل، معبرًا بتعبيره عن تساؤله، كان يبدو غير مدرك لماذا طلبت منه فتح الغطاء.
بدلاً من إجابته، أشارت لاتيل بعينيها إلى الخدم المنتظرين خارج الغرفة، على الفور، دخل أحدهم حاملاً مجموعة من الملاعق الفضية ووضعها على الطاولة.
كانت خمس ملاعق، نظر تيسير إلى لاتيل بنظرة مليئة بالدهشة، وكأنه يسألها “أحقًا؟”.
قالت لاتيل : “كل شخص يتناول ملعقتين بالتناوب.”
عند سماع كلام لاتيل، زادت همهمة الحاضرين.
“جلالتكِ، داخل هذا الوعاء…”
أحد الخدم الشجعان حاول الحديث، لكن عندما رمقته لاتيل بنظرة باردة، صمت على الفور.
“داخل الوعاء ماذا؟”
“حسنًا…”
“يبدو أنك تعلم ما بداخل الوعاء، أليس كذلك؟ أما أنا فلا أعلم”
أدرك الخادم أن أي اعتراض في هذه اللحظة قد يجعله يبدو وكأنه هو من وضع شيئًا في الحساء، فتراجع بهدوء إلى الخلف، عندها، أمرت لاتيل تيسير مرة أخرى:
“تناول ملعقتين فقط”
ثم بدأت لاتيل تتفحص من في الغرفة بنظرة تحذيرية، وتمتمت قائلة : “لا بأس، رانامون تناول ملعقتين ولم يمت”.
كانت الكلمات تحمل في ظاهرها طمأنة، لكنها في الحقيقة لم تكن كذلك، مما جعل وجوه الجميع تشحب من الخوف.
لم يكن أحد يعرف ما هي حالة رانامون بالضبط، فلم يكن من السهل عليهم تخمين معنى “لم يمت” بشكل دقيق.
وفي تلك الأثناء، ظن الجميع أن لاتيل ربما تحاول معاقبة الجميع بسبب عدم معرفة من وضع السم في حساء رانامون، فاعتقدوا أن الإمبراطورة ستنفذ عقوبة جماعية.
“……”
لكن تيسير، بعد تفكير قصير، ابتسم بخفة وتناول ملعقتين على الفور.
وعندما وضع تيسير الملعقة جانباً، حولت لاتيل نظرها مباشرة إلى كارلين.
“التالي، كارلين”
تقدم كارلين بلا تردد، وتناول ملعقتين من الحساء ثم تراجع.
“كلاين”
كان كلاين يبدو محبطًا، ووجهه يعكس شعورًا بالظلم وكأنه يفكر : “لو كانت الشائعات صحيحة، كنت أنا الضحية المحتملة، فلماذا أفعل هذا؟”، لكنه على أي حال تناول ملعقتين كما طُلب منه، حتى وإن كان ينظر إلى لاتيل بنظرة اعتراض طوال الوقت.
بعدما تراجع كلاين، جاء دور عظيم الكهنة، الذي تناول الحساء أيضاً، وبعده جاء دور جيستا.
جيستا، مثل الآخرين، لم يظهر أي رد فعل غير عادي، وتقدم ليتناول ملعقتين من الحساء.
وأثناء تناول جيستا للحساء، بدأت لاتيل تراقب الخدم بحذر، بمن فيهم منير.
* * *
منير، كان أكثر من شعر بنظرة لاتيل الباردة تلك، سواء كانت الإمبراطورة تحدق به حقًا أو أن شعوره بالذنب جعله يشعر بذلك، فإنه لم يكن قادرًا على التنفس بسهولة بجانب الخدم الآخرين، خوفًا من أن يسمعوا نبضات قلبه العالية.
‘هل يمكن أن يكون الحساء حقًا هو الحساء الذي وضعت فيه الدواء؟’
تفكيره وتردده جعله يشعر بالندم، لو كان الحساء قد وصل إلى كلاين كما كان مخططًا، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد.
لكن، بسبب تغيير الصحون بين الخدم، انتهى الحساء إلى رانامون، وبهذا كُشف أمر الدواء.
‘اللعنة، ماذا أفعل؟’
بينما كان يراقب جيستا وهو يرفع الملعقة نحو فمه، شعر منير وكأن كل شيء يتحرك ببطء شديد، حتى الهواء والموجات الخفيفة للغبار العالق في الجو.
‘لا، هذا غير ممكن، لا يمكن أن يأكل سيدي الشاب هذا الحساء’
وفجأة، عندما وضع جيستا الحساء في فمه وأغلق فكيه، لم يستطع منير تحمل الأمر أكثر، وفتح فمه ليقول شيئًا.
***
قبل عدة أيام، تلقى قائد فرقة فرسان النبيذ الأبيض، بايك هوا، تقريرًا عن القبض على شخص يُعتقد أنه ساحر أسود في إحدى القرى الصغيرة ذات المواصلات السيئة، لكن، عندما وصل إليه هذا التقرير، كانت الإمبراطورة لاتراسيل غائبة، لذا لم يتمكن من إبلاغها بالحادثة وقرر مغادرة القصر للتأكد من صحة المعلومات.
لم يكن السحر الأسود نادر الوجود في الماضي، لكن معظمهم اختفوا أو اختبأوا، مما جعل اكتشافهم أمرًا صعبًا، غالبًا ما يمضي الناس حياتهم دون رؤية واحد منهم، وعندما تحدث ضجة حول ظهور ساحر أسود، يُعتقد عادةً أن الأمر لا يعدو كونه مزحة سيئة أو اتهامًا باطلًا.
لهذا السبب، بينما كان بايك هوا في طريقه إلى القرية الصغيرة، لم يكن يتوقع أن يكون الساحر الأسود الموجود هناك حقيقيًا.
“ما الأمر هنا؟”
ومع ذلك، أدرك بايك هوا منذ دخوله القرية أن الأمر سيكون أكثر تعقيدًا مما توقع، بسبب السكون الغريب الذي يشعر به.
أخذ الفارسان اللذان جاءا معه يتبادلان النظرات، وكانا يبدوان قلقين.
“الهدوء هنا مريب”
“صحيح، رغم أنها قرية صغيرة… لكن هذا مقلق”
مهما كان مدى صمت القرية، ينبغي أن توجد أصوات طبيعية مثل زقزقة الطيور أو أصوات الحشرات في العشب، لكن هنا، لم يكن هناك أي صوت.
علاوة على ذلك، لم يكن هناك أي شخص يتجول، حتى في الأرياف، لا يُفترض أن يظل الناس داخل منازلهم في وضح النهار.
“لا أدري إن كان ينبغي علينا الدخول”
همس أحد الفرسان، فأومأ بايك هوا برأسه بحذر.
“نعم، الأمر مقلق بالفعل”
“علينا العثور على أعضاء الفرقة الذين قبضوا على الساحر، إذا حدث شيء خطير، فمن المحتمل أنهم تركوا علامات”
“لنبدأ بالتجول حول القرية”