رجال الحريم - 56
“أريد التحدث قليلاً.”
ما إن انتهت المقابلة وتوجهوا إلى غرفة الانتظار، حتى أمسكت لاتيل بذراع المبعوث الذي تبعها بشكل طبيعي.
“أنتِ قوية جدًا”
قال هيسينت، الذي كان يغطي وجهه، متظاهراً بالدهشة وكأنه ليس هو الشخص المقصود، لكن لاتيل لم تنخدع.
“لماذا لا تأتي بهدوء، أيها المبعوث من كاريسين؟”
“لماذا؟، أنا المبعوث الثامن؟”
“كنت تقف في آخر الصف”
أشارت لاتيل بذقنها نحو مكان خالٍ من الناس، فتبعها هايسينت بهدوء، من الطبيعي أن يتبعها، فهو الإمبراطور الذي جاء متخفيًا بين وفد المبعوثين، فلا شك أنه سيتبعها.
بعثة كاريسين، لا بد أنهم عانوا كثيرًا في الطريق، فوجود الإمبراطور بينهم لم يكن يسمح لهم بالتصرف بحرية تامة.
وحقيقة ان أخر مبعوث كان يقف في الصف الأخير تبعها مباشرة بعد انتهاء المقابلة، يشير إلى أن مبعوثي كاريسين كانوا يعرفون حقيقة هوية هذا المبعوث الذي يرتدي القبعة.
“جلالتكِ.”
عندما حاول بعض المرافقين أن يتبعوهم، منعتهم لاتيل وأخذته إلى ممر خالٍ، ثم نزعت قبعته.
“بالطبع، إنه أنت”
ما إن نزعت القبعة حتى انسكبت خصلات شعره البني مثل القمح في يوم خريفي، وظهرت عيناه الرماديتان الساحرتان مع ابتسامة طفيفة ترتسم حول عينيه.
“هيسينت”
توقفت لاتيل عن التنفس ونظرت إليه، وقضمت شفتها بإحكام، يا له من شعور مزعج، كيف يمكن أن تشعر بالشوق له في مثل هذا الموقف؟.
عندما كانت تعيش دون أن تراه، كانت تعتقد أنها نسيته تمامًا، ربما لو مرت بضع سنوات أخرى، كانت ستنساه حقًا.
لكن ما إن نظرت في عيني هيسينت حتى أدركت لاتيل أن كل جهودها لنسيانه على مدار السنوات الماضية قد ضاعت هباءً.
بل ربما، الزمن قد خفف من الذكريات السيئة وترك في ذهنها فقط الذكريات الجيدة، قبضت لاتيل على يدها بإحكام، ضاغطة بأظافرها على راحة يدها، محاولة استعادة أنفاسها الثقيلة.
“لماذا جئت إلى هنا؟”
لحسن الحظ، بدا صوتها الذي خرج مسموعًا هادئًا إلى حد ما، لكن في حين كان قلبها مضطربًا، أجاب هيسينت بهدوء.
“لأنني أردت أن أراكِ”
لم تستطع لاتيل أن تحدد إن كان عليها أن تشعر بالارتياح لصوت هيسينت الذي يرتجف بخفة، أم أن تشعر بالسوء.
فالحبيب السابق الذي تركها وتزوج من امرأة أخرى، سواء نسي الماضي وعاش بسعادة مع تلك المرأة، أو لم يستطع نسيان الماضي وظل يرسل مشاعر الندم، سيغضبها في كلتا الحالتين.
“أنت حقًا وقح، أين ذهب ضميرك؟، هل لم يكن لديك من الأساس، أم أنك بعته؟”
قالت لاتيل وهي تكبت غضبها، ممسكة بياقة هيسينت وهمست.
“لقد تزوجت، لذا اهتم بزوجتك، سأهتم برجالي”
بعد أن أنهت كلامها، دفعت لاتيل هيسينت بعيدًا واستدارت بعنف.
لكنها لم تستطع الابتعاد بخطوات واثقة كما فعلت في كاريسين، بما أن هيسينت قد جاء بنفسه إلى هنا، فلا بد أن هناك شيئًا آخر.
“اترك هراء أنك جئت لأنك أردت رؤيتي، ما السبب الحقيقي لوجودك هنا؟، هل يتعلق الأمر بتلك الرسالة؟”
قبل أن يجيب هيسينت، اقترب صوت خطوات من اتجاههما، خطت لاتيل خطوتين للخلف مبتعدة عنه.
ثم ظهر وفد مبعوثي ويلان.
“جلالتكِ.”
على ما يبدو، لم يتوقعوا أن يجدوا الإمبراطورة هنا، فانحنوا بسرعة ليقدموا التحية.
‘أوه، هايسينت’
كان هيسينت لا يزال بدون قبعته.
شعرت لاتيل متأخرة أنها قد أخطأت ونظرت بجانبها، لكن هايسينت كان قد غطى وجهه بسرعة من تلقاء نفسه.
كان ذلك مريحًا، لكن الأمر أزعجها في الوقت نفسه، وبينما كانت تهمس لنفسها بغضب، أشارت إلى وفد ويلان بأنه يمكنهم التوقف عن التحية.
“بما أنكم وصلتم إلى هنا، أتمنى أن تقضوا فترة إقامتكم براحة، يمكنكم الانصراف الآن”
“نعم، جلالتكِ”
على عكس ما حدث في قاعة الاستقبال، أجاب الجميع بهدوء تام.
باستثناء شخص واحد، ذلك المبعوث الذي كان يستفز لاتيل بحدة غير عادية في قاعة الاستقبال.
ولم يكتفِ بذلك، بل ظل ينظر إليها بين الحين والآخر أثناء عودته مع رفاقه.
“يبدو أنه معجب بكِ”
حتى هيسينت لاحظ ذلك بما يكفي ليمزح.
هل هذا وقت المزاح معي أيها الأحمق؟ حدقت لاتيل فيه بدهشة، لكن هيسينت ابتسم بكل براءة وطلب منها :
“أرخي تعابير وجهكِ، لاتيل، مبعوث ويلان لا يزال ينظر إليكِ، يجب أن نظهر وكأننا على وفاق.”
“أنا أكره هذه الجوانب فيك”
“وأنتِ تحبينني”
“!”
“أليس كذلك؟”
ما إن اختفى وفد ويلان عن الأنظار، حتى أمسكت لاتيل بياقة هايسينت وحدقت فيه بغضب.
“لقد كنتُ أحبك ‘في الماضي’، لا تتحدث بصيغة الحاضر.”
ثم دفعت لاتيل هيسينت بعيدًا، وأدارت ظهرها له بقوة، متجاهلة إياه تمامًا وتوجهت إلى مكان آخر.
لأنها لو بقيت، كانت ستفضح مشاعرها التي لا تزال مضطربة، كانت تشعر أن هيسينت، بذكائه الحاد، قد يلاحظ تلك المشاعر بسهولة في تلك اللحظة القصيرة.
* * *
“جلالتك”
بعد حوالي 15 دقيقة من مغادرة لاتيل، ظهر قائد حرس هيسينت أخيرًا.
“لو كان هناك عدو هنا خلال الـ 15 دقيقة التي غبت فيها، لكنت ميتًا الآن.”
وبخه هيسينت بلطف، مما جعل قائد الحرس يشعر بالأسى وهو يبرر موقفه.
“لقد أوقفتني إدارة تاريوم، وكان علي نقل الأمتعة”
“أوه. إدارة تاريم”
ضحك هيسينت وربت على كتف قائد الحرس.
“في هذه الحالة، لا بأس”
كان مبعوثوا كاريسين يعلمون أن الإمبراطور كان معهم، وكذلك كانوا يعرفون أن قائد الحرس الخاص به كان ضمن الحراسة، لكن إدارة تاريوم لم تكن تعرف ذلك، لذا لم يكن هناك خيار آخر.
ومع ذلك، حتى مع تفهم هايسينت للموقف، لم يتحسن مزاج قائد الحرس.
“جلالتك، ما زلتُ أشعر بالقلق، لا نعرف كيف سيتصرف الدوق داكا، هل كان من المناسب أن تغادر إلى هذا المكان البعيد؟”
“لقد تركت المكان عمدًا لأجبره على التحرك”
“عفوًا؟”
“بما أنه يتراجع ولا يحاول التحرك، قررت ترك المساحة لنرى ما يمكنه فعله”
“!”
ارتسمت ابتسامة ناعمة على شفتي هيسينت أسفل قبعته السوداء.
“إضافة إلى ذلك، كنت أرغب دائمًا في القدوم إلى هنا.”
“هل بسبب الإمبراطورة لاتراسيل؟”
بدلاً من الإجابة، خرج هيسينت من الممر وبدأ يسير بخطوات طويلة إلى وجهة ما.
رغم أن قائد الحرس كان يشعر بالقلق إلا أنه تابع هيسينت بجدية، غير مرتاح إلى الوجهة التي كان يتجه إليها الإمبراطور، في النهاية، لم يستطع كبح فضوله وسأل مرة أخرى.
“جلالتك؟، إلى أين أنت ذاهب؟”
هذه المرة تلقى إجابة.
“إلى الحريم”
“جلالتك، الحريم!”
* * *
“هل هذا حقًا مناسب…؟”
أثناء سيرهما في حديقة الحريم، سأل قائد الحرس بحذر.
لم يكن قائد الحرس يعرف الكثير عن الإمبراطورة لاتراسيل، لكنه سمع أنها عند اعتلائها العرش أعدمت أخاها غير الشقيق وسجنت المحظية التي كان والدها يحبها في برج.
بناءً على ذلك، من المحتمل أن تكون شخصًا مرعبًا، ألم يكن من غير المناسب أن يذهب حبيبها السابق للقاء ازواجها الحاليين؟
لكن هيسينت كان يرغب في رؤية هؤلاء المحظيين الذين يتحدث عنهم نبلاء البلدان الأخرى باستمرار بعينيه.
“جلالتك…”
في اللحظة التي كان فيها قائد الحرس يهمس بصوت خافت، توقف هايسينت فجأة، محدقًا في شيء ما.
كان الشخص الذي يحدق فيه رجلًا بوجه ملائكي وجسد مليء بالعضلات كالنمر، وكانت هالته غير عادية.
“ذلك هو الكاهن الأعظم، أليس كذلك؟”
بمجرد أن رأى هيسينت وجه هذا الرجل ذي العضلات الشبيهة بالنمر، تعرف عليه فورًا وهمس لنفسه.
“ذلك الشخص؟”
“المواصفات تتطابق.”
بعد أن أنهى كلامه، بدأ هيسينت يتوجه نحوه، ثم أوصى قائد الحرس.
“لا تتبعني.”
مد قائد الحرس يده نحو هيسينت، لكنه سرعان ما أنزلها مرة أخرى، موجهًا نظرات قلق نحو ظهره.
في تلك الأثناء، كان هيسينت قد اقترب بالفعل من الكاهن الأعظم.
ما الذي يخطط له؟، شعر قائد الحرس بالقلق لدرجة أنه لم يستطع حتى أن يرمش.
بالطبع، كان الإمبراطور هيسينت، على عكس الأمير كلاين، هادئًا ومدروسًا، لذا فمن غير المحتمل أن يتسبب في مشكلة كبيرة.
إضافة إلى ذلك، كان الأمير كلاين هنا أيضًا، لذا إذا رأى أحدهم هيسينت، قد يعتقدون ببساطة أن مبعوثي كاريسين جاءوا لزيارة الأمير كلاين.
ومع ذلك، بصفته المسؤول عن سلامة هيسينت في وسط هذه البلاد الغريبة، لم يستطع قائد الحرس التوقف عن القلق.
في النهاية، قرر قائد الحرس الاقتراب قليلاً، متأهبًا للتدخل في أي لحظة إذا حدث شيء غير متوقع.
في تلك الأثناء، توجه هيسينت مباشرة نحو الكاهن الأعظم وناداه بصوت واضح: “عذرًا.”
رد الكاهن الأعظم، الذي كان يلتقط بتلات الزهور المتساقطة، على الفور دون أي تردد: “نعم؟”
“ماذا تريد؟”
كان قائد الحرس يترقب الرد بتوتر، ينتظر معرفة العذر الذي سيتخذه هيسينت.
فاجأه هايسينت بعذر بسيط وغير مثير للجدل: “أشعر بدوار قليل وأجد صعوبة في المشي.”
ثم بدا وكأنه سيكمل كلامه، على الأقل من وجهة نظر قائد الحرس، لكن ما كان سيقوله لم يخرج أبدًا، إذ أن الكاهن العظيم قاطعه فجأة قبل أن يكمل كلامه، إذ أمسك بقدم هيسينت الكبيرة بيده القوية.
‘يا إلهي، جلالتك!’
لم يتمكن قائد الحرس من السيطرة على نفسه وكاد أن يمد يده نحو هيسينت.
حتى هيسينت بدا مذهولًا عندما أمسك الكاهن بقدمه بقوة.
“إن المشكلة في رأسي، وليس في قدمي”
لكن الكاهن، غير مبالٍ بما قاله هايسينت، استمر في تدليك قدمه بهدوء، ثم همس :
“هممم، قدمك لا تبدو بها مشكلة.” وبعد ذلك، نهض ورفع هيسينت بين ذراعيه بشكل مفاجئ.
“!”
اتسعت عينا قائد الحرس من الصدمة.
“مهلاً…”
نادى هيسينت الكاهن بصوت أكثر هدوءًا من ذي قبل، لكن الكاهن سأل بلطف : “إلى أين تريد الذهاب؟، سأوصلك”
كان لطيفًا ولكنه بالتأكيد غير مدرك لما يجري، ولكن قبل أن يتمكن قائد الحرس من التدخل لمنع الكاهن من أخذ هيسينت، جاء شخص آخر غير مدرك لما يجري أيضًا.
“أوه؟، ألست السير روستا؟”
تعرف قائد الحرس فورًا على الصوت المألوف القادم من الخلف، استدار بسرعة ليرى الأمير كلاين، الذي ظهر فجأة دون سابق إنذار.
“أليس كذلك؟، أنت السير روستا، صحيح؟”
كما توقع، لقد كان الأمير كلاين، وفي أسوأ وقت ممكن.
“ماذا تفعل هنا؟، هل تسللت مع الوفد؟”
نعم، تسللت مع جلالته.
كان الأمير كلاين يبتسم بحرارة وهو يتحدث، لكن قائد الحرس وجد صعوبة في الرد، إذ لم يكن يعرف ما إذا كان هيسينت يعتزم إخبار الأمير كلاين عن زيارته أم لا، لذلك لم يتمكن من الرد.
تأخر قائد الحرس في الرد لوهلة، الأمير كلاين، بعد أن أدرك الأمر فجأة، أمسك بذراع قائد الحرس وهمس بصوت منخفض : “أوه، صحيح. ينبغي أن تكون زيارتك بصفتك قائد حرس إمبراطور كاريسين سرية، أليس كذلك؟”
عندما يحاول شخص عديم الفطنة التصرف كأنه ذكي، غالبًا ما يزداد الوضع تعقيدًا، هذا ما حدث هنا تمامًا.
لم يكن لدى قائد الحرس حتى الوقت لقول شيء قبل أن يسحبه كلاين نحوه.
“سيدي… أنا فقط…”
قال قائد الحرس متلعثمًا، بينما نظر بسرعة نحو الإمبراطور هيسينت بعيون قلقة وكأنها تقول: “ماذا أفعل الآن؟”
لكن هيسينت لم يكن هناك، لقد اختفى مع الكاهن الاعظيم إلى مكان غير معلوم.
‘جلالتك!’
* * *
على الرغم من وصول هيسينت، بل وربما بسبب حضوره، كانت لاتيل تعمل بسرعة وفعالية أكبر خلال يومها، أرادت أن تُظهر أنها لا تتأثر بوجوده أو تزعزع بسببه.
بالطبع، مجرد الرغبة في إثبات هذا الشيء يعني نوعًا من التأثر، لكن على الأقل كان ذلك أفضل من الغضب بلا فائدة والتساؤل فقط : “لماذا أتى هيسينت إلى هنا؟”
هذا ما اعتقدته لاتيل.
وبعد الانتهاء من المهام المحددة لهذا اليوم.
“أين يقيم وفد كاريسين؟” سألت لاتيل ببرود أثناء قيامها من مكتبها ووجهت السؤال إلى سونوت.
بعد أن أكملت عملها، كان عليها أن تتعامل مع هيسينت، أرادت أن تحبسه في غرفة وتستجوبه حول سبب ظهوره المفاجئ.
“إنها في هذا الاتجاه”
لكن عندما وصلت إلى مكان إقامة الوفد، لم يكن هيسينت موجودً، فتشت الغرف واحدة تلو الأخرى، ولم تجده.
لكن لم يكن هذا هو المشكلة الوحيدة.
“أين إمبراطوركم؟”
“عفواً؟”
“أنا أعلم أنه جاء معكم، فلا داعي للكذب”
سألت لاتيل بشكل مباشر عندما لم تتمكن من العثور على هيسينت، مما جعل المبعوث يتلعثم ويكذب.
“إنه… جلالته نائم بالفعل”
لكن ما كان أكثر غرابة هو ما سمعته لاتيل من أفكار المبعوث خلف تلك الكذبة.
[ماذا أفعل؟ الكاهن الأعظم أخذ جلالته ولم يعد حتى الآن…]
[هل يجب أن أقول الحقيقة وأطلب المساعدة؟]
تغيرت ملامح وجه لاتيل بشكل ملحوظ، ماذا يعني ذلك؟، أين هيسينت؟ ،ومن أخذ من؟