“هل قلتِي إنّ الإمبراطورة هي من قدّمت تلك الطفله؟”
لذلك، لم يكن لدى الإمبراطورة الأرملة، التي كانت تبحث دائمًا عن وسيلة للتحكم في الإمبراطورة، خيار سوى أن يقع بصرها على هذي الطفله المسمى بلانش.
“نعم، سمعت أنّه في حفلة الشاي الذي حضره جميع مبعوثي السلام، تجرأت وطلبت أن تجلس بجانب جلالة الإمبراطورة.”
“هي التي طلبت ذلك أولًا؟”
الطبيعي أن الإمبراطورة الأرملة لم تنسَ الهيبة التي تفرضها ليانا
فكم من الآباء النبلاء حاولوا أن يقدّموا أبناءهم لتحيتها، لينتهي الأمر بأطفالهم بالبكاء المرير بدلًا من ذلك؟
لكن هذه الصغيرة تجرأت وطلبت أن تجلس بجوار ليانا بنفسها، ثم أصبحت صديقة اللعب ميلتشزيدك الذي رفض جميع أقرانه حتى الآن، بل جمعت حولها أطفال النبلاء وجعلتهم جميعًا يبكون دفعة واحدة؟
“جلالة الإمبراطورة طيبة القلب إلى حدّ الإفراط، لا شكّ أنّ تلك الطفلة استغلت ذلك.”
لو كانت طفلة في الثالثة من عمرها قد خططت لذلك فعلًا وتمكّنت من الجلوس إلى جوار ليانا دون أن تذرف دمعة، فإنّها بحقّ طفلة خارقة للنمط.
فمن المؤكد أنّ أولئك النبلاء يعرفون أنّ التودّد إلى الإمبراطورة يجلب المكاسب، ولكنهم لم يجرؤوا على إرسال أطفالهم إليها لأنّ خوف الصغار كان أعظم من تلك المنافع.
“حقًّا، لا بدّ أنّها طفلة جريئة أكثر من اللازم.”
ومع ذلك، لم تكن هناك حاجة لتوبيخها الآن لذلك، أومأت الإمبراطورة الارمله برأسها بخفة، بينما عقدت في داخلها العزم على رؤية بلانش بنفسها قريبًا.
فمن وجهة نظرها، الطفلة التي نالت إعجاب ليانا، والطفلة التي تروق لميلتشزيدك والطفلة القادره على جعل أبناء النبلاء جميعًا يبكون — لا يمكن أن يكونوا الشخص ذاته.
هل يمكن حقًّا أن تمتلك طفلة في الثالثة ثلاث وجوه مختلفة؟
من هي بلانش روا فاندالوين الحقيقية يا تُرى؟
حتى الإمبراطورة الأرملة التي ربّت بيركن و ميلتشزيدك بنفسها، لم تستطع أن تتخيلها بسهولة.
***
“……اليوم؟ الآن؟”
“ألم تنتهي من جميع أعمالك على أي حال؟ مثل هذه الأمور، إن طالت ،لا تجلب سوى القلق.”
كان الدوق الكبير يتمتع فعلًا بقدرة مذهلة على الحسم والتنفيذ.
وكما قال، فقد انتهى تمامًا العمل المتعلق بحفل الشاي فبعد أسبوعين من تدريب الموظفين الإضافيين الذين تم توظيفهم خصيصًا من أجل الحفل، أعيد توزيعهم، ونُظِّمت قواعد القصر ونظامه، وتم التعامل مع شتى الأمور حتى انتهى كل شيء بالأمس فقط.
أما هذا الصباح، فلم يتبقَّ سوى تفقد ما إذا كان الصغار يؤدون مهامهم كما طُلِب منهم.
وما إن أصبحت قادرة على التنفس أخيرًا، حتى اقتحم المكان فجأة ليقترح أن نذهب لشراء الخيول.
من المؤكد أن طفلًا في الخامسة من عمره لم يخطط لذلك بنفسه، لذا فلا شك أن الخبر تسرّب عبر الإمبراطورة أي إن الإمبراطورة تلقت الإشعار بالأمس على الأقل، وأخبرت الدوق الكبير هذا الصباح، وما إن سمع بذلك حتى هرع إليّ على الفور.
إذا فكرتِ بالأمر هكذا، فحقًّا يمكن القول إن عزيمته لا تقل عن عزيمة ثورٍ هائج نعم، هذا أمرٌ جيد، لكن بالنسبة لمن يُجرّ وراءه في خضم ذلك الحماس، فهو مرهق لا محالة فأنا من النوع الذي يفضّل وضع خطة مسبقة والسير وفقها بدقة، لذا كان الأمر أشد وطأة عليّ.
“……سأأمر بإعداد الغداء، فتناولي طعامكِ قبل أن نغادر.”
لكن كانت جدران الطبقة الاجتماعية صارمة لا، ربما في هذه الحالة كانت مسألة نفوذ وسلطة فبلانش أيضًا من العائلة المالكة.
وعلى أي حال، إن كان لا يمكنني رفض دعوة للترفيه، فكيف أرفض عرضًا يتضمن مكافأة؟ جلستُ لتناول الطعام وأنا أُعِدّ نفسي ذهنيًا.
تسأل لأي شيء استعداد؟
أليس واضحًا؟ للاستعداد للتملق بالطبع.
فلستُ عاجزة عن التملق كم عامًا أمضيتُ أتصرف مع جلالته كما يتصرّف اللسان في الفم؟ كيف أعجز عن التملق بعد كل ذلك؟
المشكلة فقط أنني لم أمارسه منذ زمن طويل.
أما ما قُلتُه للإمبراطورة فكان مجرد كلامٍ منمّق، لا يرقى إلى مستوى التملق، لذا لا يُحسب على الأقل منذ ثلاث سنوات لم أفعل ذلك، وحتى في أيام لي بايك ريون الأخيرة لم تكن هناك حاجة للتملق أصلًا فمنذ وفاة ولي العهد، لم أتملّق جلالته أيضًا.
لهذا وجب عليّ أن أستعيد ذكرياتي القديمة وأُهيّئ نفسي من جديد بعقلية المنافق لكن المشكلة أن الدوق الكبير لم يُبدِ أي تعاون.
فقد التهم طعامه بسرعة وكأنه يشربه شربًا، وظلّ يرمقني بنظرات تحثّني على الإسراع في الأكل وفي النهاية، بلعت دموعي وأنهيت طعامي على عجل، فإذا به ينهض من مكانه دون أن يشرب حتى كوب الشاي.
لحسن الحظ أن جسدي الآن أكثر حيوية من جسدي القديم، وإلا لكنتُ متأكدة أنني سأمرض بعد هذا اليوم المرهق.
“هل تعرفين شيئًا عن الخيول؟”
رغم أنني كنت أبكي في داخلي، إلا أنني ابتسمت ظاهريًا ابتسامة مشرقة صحيح أن الكبار لا يُظهرون لي كثيرًا من الإعجاب، لكن الابتسام أفضل من أن أبدو عابسة.
“كلا، لا أعرف الكثير.”
بالطبع، كان ذلك كذبًا.
الخيول؟ لقد أمضيتُ نصف حياتي في ساحات القتال بصفتي ضابطة عسكرية.
صحيح أن آخر لقبٍ حُزته كان رئيسة الوزراء، ولهذا يختلط الأمر على البعض فيكتبون في السير أنني كنتُ امرأة دولة لا محاربة.
لقد رأيتُ عشرات الآلاف من الخيول في حياتي، وكانت جميع الخيول التي امتطيتها من أرقى السلالات.
ولذا كنتُ أميز تمامًا أيُّ الخيول تصلح للمعركة وأيُّها لا ينبغي أن تُرسل إلى ساحة الحرب.
لكن الناس أصحاب المقام الرفيع عادةً يحبّون أن يظهروا بمظهر من يعلّم الجهّال.
وعلى أي حال، بما أن تولا بدأت تعلّم الفروسية مؤخرًا، فلا حاجة لها بجوادٍ نفيس، لذا فكّرت أن أكتفي بقبول أي حصانٍ يختاره الدوق الكبير
“وماذا عن جلالتك؟”
“حسنًا، لم يسبق لي أن اخترتُ حصانًا بنفسي من قبل أيضًا، ولكن…”
مرّر الدوق الكبير يده الصغيرة —التي لا تزال تحتفظ بامتلائها الطفولي— على ذقنه.
لستُ في موضع يخولني أن أقول هذا، لكن حقًا، ما الذي يسكن هذا الطفل؟ إنه يبدو كشيخٍ صغير.
أتراني كنتُ هكذا أيضًا في أيام لي بايك ريون؟
وبينما كنتُ أحاول استحضار تلك الأيام البعيدة التي لم أعد أذكرها جيدًا، رمقني الدوق بنظرة جانبية.
“لكن ما العمل؟ لقد أوصتني زوجة أخي مرارًا وتكرارًا بأن أعتني بك، فلا بد أن أبذل جهدي.”
لم أستطع معرفة إن كان يقصد ذلك بصدق أم مجرد مجاملة عابرة فربما قالت له الإمبراطورة ببساطة “كن لطيفًا معها اليوم”، لا أكثر
لكن لو أظهرتُ شكّي أو تحدثت بصراحة، لما بدوت كالمتملقرلذا تظاهرتُ بتأثرٍ عظيم واغرورقت عيناي بالدموع فيما رسمتُ على وجهي ملامح الامتنان العميق.
كنتُ آمل أن يرى الدوق ذلك ويثني عليّ أمام الإمبراطورة لاحقًا.
“ ليس لدي سوى الامتنان لفضلِ جلالتها الذي لا يُقاس إلا بسعة البحر.”
لو كانت الإمبراطورة هي من سمعت ذلك، لربما رقت لي وابتسمت، لكن الطرف المقابل طفل، لذا ما كان من الدوق إلا أن قطّب حاجبيه بملامح منزعجة.
“قلتُ لك لا تستخدمِي كلمات صعبة، نطقك يتلعثم.”
لم يكن تلعثمي بتلك السوء في رأيي أنا أيضًا لا أحب النطق غير الواضح، لكن يبدو أن هذا الدوق لا يستطيع تحمّله إطلاقًا.
وبالفعل، إذا فكرتَ في الأمر، فحتى بالنسبة لطفل في الخامسة من عمره، نطقه واضح جدًا.
أما أنا، فبفضل تمريني على الكلام وأنا أمسك القلم بين أسناني، كنتُ أنطق بوضوح مدهش لطفل في الثالثة، ومع ذلك، هو لا يطيق حتى هذا القدر من الارتخاء!
لا أدري حقًا كيف كان يتكلم عندما كان أصغر من ذلك، فليس من المعقول أنه ظلّ صامتًا تمامًا حتى تمكّن من التحدث بإتقان.
“يبدو أنك لا تصدقيني ، لكن زوجة أخي كانت حقًا تهتم لأمرك هذا الصباح كانت تقول بأسفٍ شديد إنها كانت تودّ مرافقتك، لكنها لم تستطع، وكم كان ذلك يؤلمها.”
لم أصدّق كلامه تمامًا، لكن مجرد سماع أن أحدًا يهتم بي كان كفيلًا بإسعادي.
فابتسمتُ عندها، وهذه المرة كانت ابتسامتي صادقة لا مصطنعة.
“جلالتها لها جدول أعمال مزدحم، وهذا أمر مفهوم.”
“نعم، هذا صحيح أيضًا، لكن…”
تنهد الدوق الكبير بخفة.
“لكن حين تحضر زوجة أخي، لا أستطيع التفريق بين الخيول الهادئة والخيول الشرسة، ولهذا يكون الأمر خطرًا.”
“ماذا؟”
“الخيول تخاف منها أمامها تصبح كلها كالحملان الوديعة، فلا يمكنني تمييز أيها طباعه سيئة أو جامحة لذا لو اخترنا الخيول وهي معنا، فقد تحدث حوادث لاحقًا.”
أحقًا إلى هذا الحد؟ أملتُ رأسي بتعجب.
كانت يدا الإمبراطورة، على الرغم من جمال وجهها الرقيق كالأزهار، قاسيتين تكسوهما الندوب، وملامحهما ملامح يد محاربة.
كنتُ أعلم أنها ليست امرأة يسهل التعامل معها، لكن أن يكون تأثيرها قويًّا حتى على الحيوانات؟ بدا الأمر غريبًا حقًا.
ربما شعر الدوق بحيرتي، فبدت على وجهه ملامح الاستغراب.
“كنتُ أتعجب منذ قالت إنكِ ابتسمتَ في وجهها، ألديك غريزة بقاء أصلًا؟ ألم تشعرين كم أن أختي مخيفة؟”
“ربما لا أنا فقط شعرت بأنها لطيفة ودافئة فحسب.”
نعم، إذا فكرتُ بالأمر، فقد أمضيتُ نصف حياتي في ساحات المعارك، حيث الموت أقرب من التنفس فليس غريبًا أن تكون غريزة البقاء لديّ قد تآكلت.
على أي حال، إن كان ذلك ما جعل الإمبراطورة تلتفت إليّ، فأنا أعدّ نفسي محظوظه فحتى لو كنتُ في بلادٍ أخرى، فلن يجرؤ أحد داخل القصر الإمبراطوري على طعني بسيفه.
لذلك، لم أرَ في الأمر مشكلة تُذكر، لكن يبدو أن الدوق كان له رأي آخر.
“لا، أنتِ حقًا…!”
لكن قبل أن ينهي عبارته ويبدأ بالتوبيخ، توقفت العربة فجأة.
“حسنًا وصلنا ، طالما أن زوجة أخي سعيدة، فهذا كافٍ.”
هزّ الدوق رأسه مستسلمًا، وكأنه تخلّى عن النقاش تمامًا، ثم نهض من مقعده.
يبدو أن الدوق قد استسلم في النهاية، فهزّ رأسه يمينًا ويسارًا بتعب، ثم نهض من مقعدهرفُتح باب العربة، وبمساعدة الفارس المرافق نزل الدوق أولًا، ثم استدار بسرعة.
“هيا.”
ما تمَّ مدُّه أمامي كان يدًا صغيرة يبدو أنها أرادت مرافقتي ومساعدتي.
كنت أفكر لماذا يُتعب نفسه بينما هناك بالغ بجانبي يمكنه أن يرفعني بسهولة ويضعني هناك؟ لكن بصراحة، رؤية طفلٍ بطول الدرجة فقط يفعل ذلك كانت لطيفًا نوعًا ما.
“شكرًا لك.”
لذا ابتسمت ابتسامة لطيفة وأمسكت بيده كانت يده صغيرة كأوراق النبات، لكنها كانت أكبر من يدي في هذا الجسد بمقدار كف تقريبًا، فغمرتها يدي تمامًا.
ربما لأن السوق كان مزدحمًا، لم يترك الدوق يدي حتى بعد أن نزلنا من العربة.
في الحقيقة، حتى لو أمسك طفلان يد بعضهما، فسينتهي بهما الأمر بالانجراف مع الزحام فحسب لكن يبدو أن الدوق يشعر بفخرٍ كبير لأنه أكبر من هذا الجسد بسنتين، لذا رأيت أنه من الأفضل أن أدعه يمسك بيدي بهدوء ليس بالأمر الصعب على أي حال.
“الآن بعد أن فكّرت في الأمر، أليست المربية هي من كانت ستركب الحصان؟”
“نعم.”
“من المفاجئ أن المربية تعرف كيف تركب الخيل هل هذا أمر شائع في مملكة لامور ؟”
وكيف لي أن أعرف إن كان الأمر كذلك ؟ أنا في الثالثة من عمري.
لكنها كانت فرصة جيدة فبما أنني أنوي استخدام تولا كوكيلتي فيما بعد، فمن الأفضل أن تُقيَّم مكانتها الاجتماعية بأعلى قدر ممكن.
“قالوا إنهم اختاروا شخصًا متميزًا بشكل خاص لأنها ستذهب إلى الإمبراطورية.”
لم تكن كذبة تمامًا، فأنا بنفسي سأجعلها شخصًا مميزًا وسأعلّمها فنون الفروسية أيضًا.
التعليقات لهذا الفصل " 21"