كانت تبدو في غاية اللطافة، على نحوٍ لا يُصدق أنها الطفلة الذي جعلت عشرات الأطفال يبكون قبل قليل
“إن كنت متعبًا، فسأأمر بإحضار شاي ذي تأثيرٍ منبّه.”
كانت تلك طريقةً راقية جدًا ليقول له هل كنت تغفو وعيناك مفتوحتان؟
“أنا لا أتفوه بالهراء.”
ابتسم ميلتشزيدك ابتسامةً وديعة
“الأطفال الذين دعوتهم اليوم كانوا مرشحين ليكونوا رفاقي في اللعب لكنني رفضتهم جميعًا، لأنني رأيت أنهم لا يمكن أن يكونوا أهل حديثٍ مثلك ولهذا تراكمت في نفوسهم الضغائن.”
ولم تدرك بلانش سبب الكراهية المفرطة التي أظهرها أولئك الأطفال إلا في تلك اللحظة صحيح أن كونهم رفاق لعبٍ لدوقٍ كبير وهم في الحقيقة رهائن من دولٍ صغيرة قد يثير حنقهم، لكنّ حماسهم العدائي كان أشبه بما تفعله الفراشات التي تُلقي بنفسها في النار — إذًا فالمسألة أعمق، ولها جذور من الماضي.
“إذن، أردت أن ألقّنهم درسًا، أهذا ما قصدت ؟”
“أجل وقد أحسنتِ في ذلك غاية الإحسان ولهذا يجب أن أُكافئك ماذا تطلبين؟”
“إن كان ما فعلتُه قد أفادك ، فذلك شرفٌ عظيم لي.”
كانت تبدأ بالتواضع أولاً وكما هو متوقع من رجلٍ عرض صفقةً صريحة منذ لقائه الأول، بدا الدوق غير مهتمٍ تماماً بالكلام المعسول كان من الأفضل عادةً التمهل قليلاً قبل طرح الطلب، لكن هذا يعتمد على الشخص المقابل؛ فالتردد أمام من يكره المماطلة قد يؤدي إلى ضياع الفرصة.
“إذن، هل يمكنني أن أحصل على حصان؟”
“……حصان؟”
تأمّلها ميلتشزيدك بنظرةٍ فاحصة من أعلى إلى أسفل.
“نعم.”
“وهل تعرفين ركوب الخيل أصلًا؟”
سؤالٌ وجيه فبلانش لم تكن لتستطيع ركوب حمار، فضلًا عن حصان، لصِغر حجمها.
“لا، ليس لي أردت أن أهديه إلى مربيتي.”
وكان ذلك الجواب بدوره مدعاةً للتساؤل، إذ نادرًا ما تمتلك المربيات مؤهلاتٍ نبيلة تتيح لهن ركوب الخيل غير أن ميلتشزيدك بدا غير مكترثٍ بمدى صدق كلامها، فاكتفى بهز كتفيه قائلًا
“حسنًا، حصان إذًا سأجعلهم يجهزونه لك.”
ثم نهض من مكانه دون أي تردد، وكأنّ الأمر قد انتهى تماماً وبما أنه كان قد صرف الخدم أيضاً، لم تستطع بلانش النهوض لمرافقته، فاكتفت بانحناءة خفيفة
قال وهو يغادر غرفة الاستقبال
“سنلتقي مجددًا.”
ثم خرج، وبقيت بلانش وحيدةً في المكان.
***
بقيتُ وحدي، ففككتُ ياقة ثوبي المحكمة بإحكام وأرخيتُها قليلاً في العادة، لا يمكن أن أُرهق لمجرد أنني ابتسمت بضع ساعات، لكن ربما لأن جسدي صغير، شعرتُ بتعبٍ غير مألوف بدا لي أنني بحاجة إلى بعض الراحة.
“هل تحتاجين إلى شيء يا سمو الاميره ؟”
يبدو أن تُولا رأت الدوق وهو يغادر، فدخلت الغرفة.
نظرتُ إليها، كانت لا تزال واقفةً بوضع مستقيم بخلاف جسدي المرهق المترهل على المقعد، ففتحتُ فمي
“تُولا.”
“نعم، يا سموّ الأميرة.”
“دَعي الأطفال يرتاحون.”
معظم الأطفال الذين يعملون في هذا القصر أرسلتهم الإمبراطورة بنفسها، أي أن لا سبب لديهم ولا وقت لتكوين أي ولاءٍ تجاهي.
وقد عملوا بجدّ طوال اليوم، لذا يجب أن أُتيح لهم بعض الراحة، فإن لم أفعل، ستنشأ المشاكل عاجلاً أم آجلاً.
“نعم، كما تأمرين.”
انحنت تُولا بانحناءةٍ مؤدبة، ثم غادرت الغرفة دون أن تدير ظهرها لي.
أما أنا، فاسترخيتُ في مقعدي وأغمضتُ عينيّ.
كان من المفاجئ أن يُعجب الدوق بهذه النتيجة، فالحفلة التي عاد منها نصف الضيوف باكين كانت ـ من الناحية الموضوعية ـ فشلاً ذريعاً.
وبحكم خبرتي، كنتُ أرى أنه حتى لو غضب الدوق، فالأمر مفهوم، لكن مع ذلك، من الأفضل ألا تتدهور علاقتي به.
ومن هذه الناحية، كان ردّ فعله هذا أمراً مفرحاً.
فوق ذلك، قد أستطيع انتزاع بعض الكلام المفيد منه أيضاً بدأتُ أفكر بأنه يجدر بي أن أُعلّم تُولا الفروسية والدفاع عن النفس في المستقبل، ويبدو أن الظروف بدأت تُهيّئ لذلك.
“لكن… هل يوجد إسطبل هنا أصلاً؟”
حسناً، لا بد أن هناك واحداً، لكن لا أعلم إن كان يُدار بشكل جيد.
على الأرجح لا يوجد خيول، وبالتالي لا يوجد من يرعى الإسطبل.
ترى، هل سيتكفّل الدوق بتجهيزه لي؟
أم ينبغي أن أطلب ذلك من الإمبراطورة؟
بينما كنتُ غارقةً في تلك الأفكار، بدأت جفوني تثقل شيئاً فشيئاً.
لم أقاوم النعاس وأغمضتُ عينيّ تماماً ففي النهاية، يمكنني التفكير في كل ذلك غداً بعد أن أستريح.
***
حين عادت تُولا بعد أن أعلنت للخدم وقت الراحة، وقعت عيناها على بلانش الغارقة في نومٍ عميق.
“يا إلهي…”
ارتسمت ابتسامة على وجه تُولا الذي كان متجهماً بملامح الجدية قبل لحظات اقتربت بخفة ورفعت الأميرة الصغيرة بين ذراعيها بحذر.
“في هذه الليلة التي غفا فيها القمر والنجوم أيضاً،…ورغم ما في القلب من أسفٍ، فقد حان وقت الوداع.”
تمتمت تُولا وهي تسير بخطوات هادئة، تُدندن بلحنٍ يشبه التهويدة.
لقد أمضت أميرة الصغيرة الأسبوعين الماضيين وهي تُرهق خدم قصر جاسبر وكأنها تطارد الفئران بلا هوادة.
حتى إن الأطفال الصغار في الثالثة من عمرهم، الذين لا يزال نطقهم متعثراً، أصبحو يرتجفون خوفاً منها وفوق ذلك، جعلت اليوم عدداً من أبناء النبلاء ـ يزيد على العشرة ـ يبكون قبل أن يعودوا إلى بيوتهم.
ومع ذلك، أمام تُولا، كانت بلانشي دائماً أميرة الصغيرة، تلك التي يمكنها رفعها بسهولة بين ذراعيها، وتغني لها تهويدة، وتغطيها بالبطانية، وتربّت على صدرها حتى ترتخي ملامح وجهها المتصلب وتبدأ بالأنين كطفلة مدللة.
لذلك تخلّت تُولا مؤقتًا عن ما كانت الأميرة تردده بلا كلل — عن الوقار — وجثت على ركبتيها بجانب السرير، تربّت على الأميرة بلطفٍ وحنان
حتى تنتهي قيلولة الأميرة الصغيرة القصيرة
***
يبدو أن حفلة الشاي التي لم يُرضِ فيها سوى المضيف والدوق الأكبر فقط، قد اكتسبت شهرة من نوع خاص كان هذا أمرًا طبيعيًا، حيث كان أطفال العائلات المشاركة إما يعودون وهم يبكون ، أو ينغلقون على أنفسهم في الغرف ويبكون فور عودتهم.
وحين بدأ النبلاء بالتحقق من سبب ذلك، اكتشفوا أن أبناءهم لم يكونوا الوحيدين الذين عانوا من الأمر نفسه، وهكذا بدأت الأحاديث تنتشر خفية بين الناس.
لو أن طفلاً واحداً فقط بكى في حفلة الشاي، لكان الأمر مجرد حادث طريف يُتجاوز بالضحك ولو أن خمسةً منهم بكوا، لكان اللوم على المنظم ولكن إن كان جميع الحاضرين قد بكوا؟
“الناس يتهامسون متسائلين إلى أي مدى يمكن أن تكون تلك الفتاة شريرة؟ ويقولون إن جلالة الإمبراطورة قدّمت لجلالته الدوق الأكبر فتاة سيئة الطبع.”
من كانت تهمس بهذه الكلمات هي زوجة الماركيز تشيس كانت تحمل في قلبها ضغينة تجاه الإمبراطورة ليانا، لأنها فشلت ذات مرة في جعل ابنتها أميرةَ التاج.
“هكذا إذن.”
والتي كانت تصغي إليها هي الإمبراطورة الأم لاتشيا فندلتون.
لم تكن لآتشيا تحمل في قلبها حقداً شخصياً على ليانا لكن بطبيعة الحال، فالإمبراطورة الأم والإمبراطورة الحاكمة هما على التوالي المرأة التي كانت في يومٍ ما الأرفع مقاماً في الإمبراطورية، والمرأة التي أصبحت الآن الأرفع مقاماً فيها لذا فالعلاقة بينهما لا يمكن أن تكون ودية أبداً.
وفوق ذلك، كان بين لآتشيا و ليانا سببان إضافيان جعلا العلاقة بينهما أكثر سوءاً.
أولهما: أن الإمبراطور السابق توفي في وقتٍ مبكرٍ جداً.
وثانيهما: أن بيركن يحب ليانا حباً مفرطاً.
كان من المفترض، في الظروف الطبيعية، أن تبقى لاتشيا في مركز السلطة إلى الآن، تمارس نفوذها لعشرين سنة أخرى على الأقل، ثم تتنحى عندما تشعر بالتعب من الحكم.
لكن بسبب وفاة الإمبراطور السابق المبكرة، وجدت لاتشيا نفسها وقد أُقصيت إلى الظل في سنٍّ صغيرة جداً لم تكد تتذوق حلاوة السلطة بعد، حتى انتُزعت منها بسرعة بالغة.
وفي خضمّ أسفها على العرش الذي سُلب منها قبل أوانه، بقيت مشكلة أخرى تؤرقها أن بيركن يحب ليانا حباً يفوق الحد.
في الأحوال العادية، لم يكن ذلك ليشكل مشكلة؛ فانسجام الإمبراطور والإمبراطورة ليس بالأمر المذموم.
لكن المشكلة كانت في طبيعة ليانا نفسها.
ليانا فندلتون امرأة عقيمه لا يمكنها إنجاب الأطفال، أي إنها لا تستطيع إنجاب وريث للعرش وبحسب العرف، فإن امرأةً كهذه لا يمكن أن تصبح إمبراطورة مهما كانت مكانتها أو مواهبها.
والأدهى أن هذا الأمر كُشف حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها، أي حين كانت ما تزال أميرة التاج وقد تصرف آل كايبرهان، بيتها النبيل المعروف بولائه للإمبراطور، بشرف، فأبلغوا الإمبراطور بحقيقة ابنتهم، وأعلنوا استعدادهم لسحبها من خطوبة ولي العهد.
صحيح أن ليانا لم تكن قادرة على الإنجاب، لكن كونها ابنة عائلة مرموقة وموهوبة لم يتغير حتى لو فقدت منصب أميرة التاج، كان مستقبلها لا يزال واعداً.
لقد كشفوا عن المشكلة مقدماً واقترحوا حلاً لها، فلم يكن في الأمر ما يسيء إلى الإمبراطور وبما أن مهارتها في السيف كانت استثنائية، فحتى لو لم تصبح أميرة التاج، لكانت مؤهلة لأن تتولى قيادة فرسان القصر الإمبراطوري.
غير أن كل شيء تغيّر عندما رفض بيركن الحل الذي اقترحته عائلة كايبرهان.
قال بيركن: “لن أتزوج أي امرأة غير ليانا.”
كان ذلك عناداً لم يرده أحد، حتى ليانا نفسها لكن بيركن قاوم جميع الاعتراضات، متشبثاً بحبه لها.
وبفضل ذلك، بقيت ليانا أميرة التاج، وبعد ست سنوات أصبحت الإمبراطورة ولحسن الحظ، كانت الإمبراطورة الأم حاملاً آنذاك بـميلتشزيدك مما جعل مسألة الوريث تُحلّ دون مشاكل.
بدت كل الأمور وكأنها انتهت على خير فقد كسبت عائلة كايبرهان ولاءً مطلقاً للإمبراطور الذي أظهر حباً وثقة عظيمين بابنتهم رغم عجزها.
وحصلت إمبراطورية ريتايل على إمبراطورة هي أمهر فرسانها تخطى الإمبراطور وزوجته المحن معاً، ووطدا إيمانهما ببعضهما البعض، ومع وجود ولي عهد قوي وذكي، لم تعد هناك مخاوف بشأن الخلافة.
ومع ذلك، لم تستطع الإمبراطورة الأم أن تنسى تلك الحادثة التي قلبت القصر رأساً على عقب.
في ذلك الوقت، حين كانت ليانا نفسها مستعدة للتنحي بلا تردد، كان بيركن وحده من ثار، مستعداً للتخلي عن لقب ولي العهد، بل وعن العرش نفسه، من أجلها.
لم تكن لاتشيا تحمل كراهية لابنها أو لزوجته، لكن رغم ذلك، لم تستطع أن تمحو من ذاكرتها ذلك العصيان الكبير الذي أقدم عليه ابنها.
أن يملك الإمبراطور نقطة ضعفٍ عاطفية بهذا الشكل ليس بالأمر الجيد.
وأن يعرف جميع نبلاء الإمبراطورية أن الإمبراطورة نفسها هي تلك النقطة، فذلك أسوأ بما لا يقاس.
التعليقات لهذا الفصل " 20"