I'll try saving my dad - 9
ما إن وقعت عيناي على جدي حتى خلتُ أن عقلي قد أضحى صفحة بيضاء. ففي ذاكرتي، لم يسبق لي أن اجتمعت معه وحدي من قبل. لقد كنت أتحاشاه عمدًا، ولم يكن هو يرضى بي أصلاً.
كان حكمه عليّ منذ لقائنا الأول قاسيًا: “طفل لا يُرجى منه الكثير.” وظل ذلك الحكم يلازمني طوال حياتي.
“ماذا الآن؟”
لذا، لم أكن أدري كيف أتصرف في مثل هذا الموقف.
ظننت أن رأسي سينفجر من شدة التفكير، لكنني فوجئت بيده وهي تربت عليه. أهو أشبه بما تفعله الوحوش حين تلعق فرائسها الحية؟
“…ماذا تفعل؟”
“…ماذا تعتقد أنني أفعل!”
بعد أن ربت على رأسي عدة مرات، تحدث جدي بصوت صارم، قائلاً: “أخبرني بالتفصيل عمّا كنت تحاول فعله في غرفتي. اتبعني.”
“حاضر…”
صحيح أن غرفة القائد كانت تستخدم كمكان استراحة لأفراد العائلة بموافقته، إلا أنني كنت بلا حول ولا قوة لمعارضته. لم يكن أمامي سوى أن أتبع أوامره وأبرر تصرفاتي.
بينما كنت أصعد السلالم بخطوات متثاقلة، اقترب مني تيون وقال: “سأرافقك.”
كانت ملامح وجهه متجمدة، مثل ملامحي، مما دل على أنه شعر بالخوف نفسه الذي شعرت به تجاه جدي.
لكن ماذا تعني تلك النظرة الحازمة في عينيه؟
إذا رافقني، فقد ينتهي الأمر به وهو يعترف قائلاً: “أنا السارق الذي حاول أخذ الحلوى!”
“أريد التحدث مع جدي وحدي.”
لا يمكنني أن أسمح لجدي أن يأخذ نظرة سيئة عن حليفي المستقبلي!
ابتسمت لتيون بخبث واستمررت في صعود الدرج، فيما كان جدي قد اقترب من آخر درجاته.
آه، يجب أن أسرع وإلا سأتعرض للعقاب.
“لا تركضي!”
“حاضر…”
وأنا أصعد السلالم ببطء، لمحت جمعًا من الناس قد تجمعوا عند طرف الممر. يبدو أنهم جاءوا بعدما سمعوا صوت جدي الغاضب، سيد عائلة ترابل.
وسط الجمع، رأيت وجهًا مألوفًا.
“آنسة…؟”
كانت هناك “آن”، الجاسوسة التابعة لعمتي ماريان.
كان عيناها تتنقلان بسرعة، ليست بدافع القلق علي، بل لتحليل الموقف. أن يُمنح أحد أفراد العائلة المباشرة فرصة الاجتماع مع سيد العائلة كان أمرًا له مغزى كبير.
لأنه قد يجلب الخير… أو العكس.
– “لتضحية رايتان كورتز ترابل المقدسة…”
فجأة، عادت بي ذاكرتي إلى يوم دفن والدي، حين وقف الكاهن أمام نعشه يلقي خطاب التأبين.
أسرعت بالجري خلف جدي الذي اقترب من باب غرفة القائد.
“جدي! أنا آسف!”
“على ماذا؟”
“لقد كانت بيري تحاول سرقة الحلوى من غرفة القائد!!”
ساد صمت ثقيل بين الحضور. خاصةً أن عمي ريكس توقف عن الحديث مع أحد حراسه، ويده ترتجف قليلاً.
“كفى ضجيجًا! ادخلي!”
هل رأيتِ، آن؟ أنا ذاهب لأواجه عقاب جدي. تأكدي من إخبار عمتي.
كان يمكنني تخيل وجه عمتي ماريان وهي تصفق فرحًا. يا له من يوم عظيم!
دخلت غرفة القائد كما يدخل الفأر عرين الأسد.
“آه…”
ما إن أشار جدي بيده إلى الخلف، حتى أقبل العم كالت ووضع شيئاً بجواري، فإذا به إناء زجاجي ممتلئ بالحلوى.
“حلوى…؟”
“كم عمرك؟”
لم أكن قد استفقت بعد من دهشتي حتى سألني جدي الجالس على الأريكة المقابلة. كنت قد سمعته قبل لحظات على السلالم يسأل نفسه إن كنت في السابعة من عمري، فلماذا يسأل الآن؟ أردت أن أسأله إن كان يطرح السؤال رغم معرفته بالإجابة، ولكنني لم أكن سوى طفلة ضئيلة لا تملك حرية التصريح بمثل هذه الأقوال.
“أنا… في السابعة من عمري…”
“إذاً، لِمَ تبدين بهذا القصر؟ لا ينبغي الكذب بشأن العمر.”
“ولكني أقول الحق…!”
زفر جدي بغضب مصحوباً بصرير أسنانه.
“يبدو أنك لم تحصلي على الغذاء الكافي، ولهذا لم يكتمل نموك.”
“لا… أبي كان يحرص على إعداد وجبات غنية بالعناصر الغذائية التي تساهم في نمو الأطفال بشكل يومي…”
“وما الذي يعرفه ذلك الأحمق المغرور عن التغذية؟”
“لكنه يعرف الكثير…”
“هَه، صغيرة الجسد ولكن لسانك لا يعرف التراجع. حقاً، إنك نسخة مصغرة من والدك.”
لم يكن في نيتي أن أزعج جدي، لكني لم أتحمل أن يُهدر كل مجهودات والدي هباءً. كم بذل أبي من الجهد في تربيتي بمفرده! لو أن جدي ألقى نظرة على كتاب وصفات أبي، لَصمت عن كل تلك الأقوال الباطلة! يا له من ظلم!
“لكن…”
توقفت نظرات جدي عندي وأنا غارقة في الأريكة، عيناه الذهبيتان اللامعتان كانتا كفيلتين بإثارة الخوف في قلبي.
ابتلعت ريقي بصعوبة وأخفيت يدي المرتعشتين على حين غرة، فكان العرق قد بدأ يتصبب من كفي.
– “يُقال إن ما أبحث عنه مدفون في خزينة جدك.”
كانت ذكرى قديمة تدور في رأسي، تلك الذكرى التي جاءت بعد جنازة جدي، حينما جاء ولي العهد تيون لزيارتي وأنا في الرابعة والعشرين من عمري. كان يحمل في يده رسالة أُرسلت من القصر الملكي، كتبها جدي وطلب إرسالها بعد وفاته.
– “من المحتمل أن تحتوي الرسالة على دليل دامغ يثبت تواطؤ أحد أقاربك مع المتآمرين الذين خططوا لقتل رايتان كورتز ترابل.”
– “أيعني ذلك أن جدي كان على علم بأن وفاة والدي لم تكن طبيعية…؟”
– “علينا التحقق من الأمر. سأقوم بذلك بنفسي.”
– “كلا، سأفعل أنا. هناك جلسة قراءة للوصية هذا المساء، ولن يلاحظ أحد غيابي. الكل سيكون منشغلاً بمن سيخلف جدي في زعامة العائلة.”
وهكذا، فتحت خزينة جدي، وعثرت على الرسالة التي كانت الدليل، ثم قتلت على يد شخص مجهول، بسيفٍ لم أستطع التعرف على حامله…
“لكن لماذا أرسل جدي تلك الرسالة إلى ولي العهد تيون؟” كان هذا السؤال لا يزال يحيرني.
كنت واثقة أن أحد أفراد عائلتي هو المجرم، إذ وجد ولي العهد رمز العائلة محفوراً على مقتنيات القاتل. ولكن، ما الذي جعل جدي يرسل الرسالة إلى تيون؟ ألم يكن يعلم أن كشف الحقيقة سيؤدي إلى إدانة أحد أبنائه بتدبير مقتل والدي؟
“وفوق ذلك، كان جدي يؤمن أن وفاة والدي كانت نتيجة حادث عارض.”
لم يكن يصغي إلى حديثي حينما كنت أعبّر عن شكوكي حول موت والدي، إذ بدا الأمر لي آنذاك وكأنه قدر محتوم لا مفر منه. لقد شعرت بالمرارة والحسرة، لكنني اقتنعت أن لا حيلة لي في تغيير الواقع.
فجدي كان كلما وقعت عيناه على أبي، ثارت ثائرته عليه، واصفًا إياه بالابن العاق عديم النفع.
“هل من الممكن أن جدي لم يكن يكره أبي كما كنت أعتقد؟”
لطالما ظننت أن عدم اكتراثه بموت والدي كان نابعًا من بغضه له، كما لو كان موت شخص يكرهه لا يستحق أدنى اهتمام. لكن المفاجأة الكبرى كانت في أن جدي كان يتحرى بنفسه عن ملابسات وفاة والدي. ليس هذا فحسب، بل كان أكثر قربًا إلى الحقيقة منّي ومن ولي العهد تيون.
“هل إخبار جدي لولي العهد بأهم الأدلة كان إشارةً لرغبته في معاقبة الجاني؟”
غُصت في التفكير العميق، حتى إنني لم أنتبه إلى اقتراب عينَي جدي الذهبيتين مني. كنت غارقة في حيرتي بشأن كيف كان جدي ينظر إلى والدي، ولم أترك مساحة في عقلي لأي شيء آخر.
نهض جدي من مجلسه، مستندًا إلى الطاولة، ثم اقترب ناظرًا إلي بعينيه الثاقبتين وقال:
“هذه المرة لم تنفجري في البكاء.”
“…عفواً؟”
“ألا تجدين في هيبتي ما يثير في نفسك الرهبة يا حفيدتي؟”
((هيبة مين يا ابو هيبة؟؟))