I'll try saving my dad - 18
عندما سمعتُ اسم “نزل زهرة القمر”، تذكرت على الفور المكان الذي رأيت فيه وجه السيدة من قبل. كان ذلك في أيام شبابي، عندما كنت في العشرين من عمري.
“هل قرأتِ هذا الخبر في الصحيفة؟”
“أنتِ أول من يطالع الصحيفة الصباحية، أما أنا فلا علم لي بما تحتويه. ما الجديد فيها؟”
“مالك نزل زهرة القمر حاول إنقاذ طفل كان مهدداً بحادث عربة، ولكنه أصيب بجروح خطيرة. لا يبدو أن إصابته بسيطة، فقد تم نشر صورته في الصحيفة إلى جانب صورة الفارس. هل بقي شيء من مخصصاتنا الشهرية؟”
“أنتِ دائماً تسألين عن التبرعات التي أقدمها بشكل مجهول. لا تزال بعض المبالغ المتبقية، ولكننا، أصحاب منزل الحصى، لا نطلب الكثير.”
أمسكت بحافة بنطال أبي برفق، فربت على رأسي بحنان ثم قرع بإصبعيه، وهو ما كان يشكل أحد رموزنا الخاصة. عندما يقرع بالإصبع الأوسط، كان ذلك إشارة إلى أننا سنحفظ السر. أما عندما يقرع بالإصبع الصغير، فذلك يعني أن هناك توافقًا بيننا.
لاحظ أبي الحزن الذي كان يكتنف السيدة، فقال بلطف
“لقد تناولنا غداءً خفيفًا، أليس كذلك؟ بيري، تيون، هل أنتما جائعين؟”
“أنا بخير.”
“نعم، جائع للغاية!”
رغم أنني لم أتذكر تناول غداء خفيف، رفعت يدي مؤيدة لسؤال أبي.
قال أبي بإبتِسامة
“إذن، هل يوجد مطعم في نزل زهرة القمر؟ نحن نبحث عن مكان لتناول الطعام.”
أجابته السيدة بحزن
“نعم… بالتأكيد. مطعمنا يعتبر من أفضل المطَاعم هُنا.”
* * *
في الطابق الأول من نزل زهرة القمر، نظر رايتان إلى الطفل الذي كان يرتجف على السرير. كان أصغر من بيري، وجسده نحيف للغاية.
راقبت بيري الطفل عن كثب، ثم قالت إنها ستخرج.
هل كان ذلك بسبب ذكرياتها عن معاناتها؟
قال رايتان وهو يوجه كلامه إلى السيدة المالكة للنزل
“هل كانت الأدوية التي وصفها الطبيب غير فعالة؟”
“لقد تدهورت حالته. أكبر مشكلة هي انخفاض درجة حرارته. إذا لمستَ جسده الآن، ستشعر وكأن بشرته تعرضت لبرودة شديدة. وفقًا لما قاله سكان المنطقة، كانت الأدوية التي كان يتناولها سابقًا فعّالة.”
“ربما نجد الوصفة في منزل آن.”
“آه، ربما. الأدوات المنزلية ما زالت في مكانها.”
سرت الابتسامة على وجه السيدة، وكان هناك احتمال أن تكون الوصفة قد تركت في المنزل المهدم حيث ترك الفارس الطفل.
قال رايتان وهو يسلم السيدة سبع قطع من الذهب
“إذا كنتِ بحاجة إلى طبيب آخر، أرسلي إليه، وسأتحمل تكاليف العلاج. أما بالنسبة للأدوية، فلا ينبغي أن تتجاوز قيمتها قطعة ذهب واحدة.”
فوجئت السيدة بالمبلغ الكبير الذي قدمه رايتان، إذ كانت قيمة كل قطعة ذهبية تساوي مائة ألف كونًا.
“لن تتجاوز تكلفة الأدوية قيمة قطعة ذهب واحدة.”
“إن تبقى شيء، يمكن استخدامه لتغطية تكاليف الإقامة.”
نظر رايتان إلى الطفل الذي كان يعاني على السرير، وكان المنظر يعكس مشاعره بوضوح.
كانت الحالة مؤلمة للغاية لدرجة أن تيون، الذي كان يقف بجانب رايتان، اكتفى بتأمُل الطفل في صمت.
“أمي!”
كان ذلك في أوج حرارة الشمس القاسية. فقد سقطت والدته فجأة وأصبحت طريحة الفراش لعدة أشهر.
كان تيون يراقب والدته الضعيفة، التي كانت تتلاشى أمام عينيه، ويشعر بالخوف من أنها قد تتركه للأبد، لكنه كان يخبئ خوفه في قلبه ولا يظهره لأحد.
في تلك الأيام، كان تيون في الثامنة من عمره. يتدرب على فنون المبارزة بمفرده، ويساعد جديه في أعمالهما، بينما يخصص باقي وقته للبقاء بجانب والدته.
ثم جاء يومٌ لن يُنسى.
“آه..يا صغِيري..إصبر قليلًا فقط..قليلًا…”
“لقد وصل الطبيب!”
غادر جديه لاستقبال الطبيب، تاركين تيون مع والدته. كانت والدته تتنفس بصعوبة، وتئن بين الحين والآخر، لكن يديها تمسكت بيده بقوة غير متوقعة، قوة لا يُحتمل أن تصدر من شخص على وشك الرحيل.
“تيون، هناك شيء يجب أن أخبرك به.”
كان صوت والدته المبحوح يتسبب في ألمٍ حادٍ في حلقها مع كل كلمة تنطق بها. كانت أنفاسها المتسارعة تخترق السكون حول تيون، كما لو أنها تتسلل إلى أذنه وتدوي في أعماق قلبه.
حاول تيون أن يوقفها، أن يخفف عنها، لكنه لم يتمكن. وفي تلك اللحظة، سلمته والدته ساعة جيب صغيرة وقالت بصوت ضعيف:
“هذه من متاع والدك، وجدتها منذ زمن بعيد. عندما تكون قادرًا على الذهاب إلى والدك بنفسك، لا تدع أحدًا يراها.”
والدك؟ كان لدى تيون العديد من الأسئلة التي يرغب في طرحها، لكن شيئًا في قلبه أخبره أن هذه كانت آخر كلمات والدته.
“آه… آه…”
كان صوت الأنين يخرج من فم شقيق آن، نفس الصوت الذي كانت تُصدره والدته في تلك اللحظة.
لاحظ رايتان التغيرات الطفيفة في ملامح تيون، فأمسك بيده برفق وأخرجه من الغرفة.
“إذهب وابحث عن بيري.”
“حسنًا…”
خرج تيون من الغرفة، ورفع يده ليضغط على أنفه، ثم ضغط على جفونه محاولًا كبح دموعه التي كادت تنهمر.
كان يعلم أنه قادر على السيطرة على مشاعره، لكنه لم يستطع إيقاف الدموع التي بدأت تتسلل.
بحث في النزل عن بيري، وأثناء سيره في الممر، لفت نظره أحد الفرسان الذي كان يقف في دورية.
“تيون، هل تبحث عن بيري؟”
“نعم، أين هي؟”
“في الجزء الخلفي من النزُل. هي هناك تلعب مع الآخرين.”
اللعب؟ تساءل تيون بدهشة، ثم تابع السير نحو المكان الذي أخبره به الفارس.
كانت بيري في السابعة من عمرها، ومن غير المعقول أن تلعب مثل هؤلاء الأطفال بدون سبب.
بالنسبة لتيون، كانت بيري تبدو كطفلة، لكن في بعض الأحيان، كانت تبدو أكثر نضجًا، وكأنها تحمل في عينيها معرفةً بأمور قد لا يعرفها هو.
لا يمكنه أن يتخيل بيري وهي تشارك في ألعاب الأطفال. لكنه شعر في قلبه أنها كانت تفعل شيئًا ذا مغزى.
“بيري.”
كانت بيري في الحديقة الخلفية، تقوم بسحق شيء ما في الهاون. كانت تتحدث مع الفرسان بجانبها، ولكنها ابتسمت عندما ناداها تيون.
كان تيون متأكدًا الآن أن هناك سببًا وراء تصرف بيري هذا.
جلس بجانبها بهدوء. كان يشعر براحة غريبة عندما يكون بجانبها.
عندما كان بجانب رايتان، كان يشعر بشيء مشابه، ولكن بما أن رايتان كان معلمًا وصاحب مكانة عظيمة كـ”جراند ماستر”، كان من الصعب عليه ألا يشعر بالتوتر.
صراحةً، لم يفهم لماذا قبِل رايتان بتدريبه. سأل رايتان عن السبب صباح اليوم، لكن الإجابة كانت غامضة جدًا: “لأنني أستطيع رؤية الرياح.”
“هل تفعلين هذا؟ إذًا، هل تريدين أن تسحقين هذا؟ سأذهب لجمع الأعشاب.”
“نعم.”
أخذ تيون الهاون الصغير الذي قدمته له بيري، وأمسكه بكلتا يديه. كانت الرائحة التي انبعثت منه غريبة، كأنها مزيج من العشب الطازج والطعم المر.
أضافت بيري بسرعة أوراق الأعشاب الطازجة إلى الهاون، وكانت أطراف الأوراق تتلون باللون الأحمر.
“هل يمكنك مساعدتي في هذا؟”
“ماذا تصنعين؟”
ضحكت بيري بخفة، ثم أجابت:
“دواء.”
“دواء؟”
“نعم، شقيق آن مريض جدًا. سأصنع له دواءً!”
“يا إلهي، إن بيري صغيرة لكن قلبها كبير حقًا.”
كان الفرسان المحيطون ببيري يبتسمون ويشيدون بها. كانت روحها الطيبة والرحيمة تجاه المرضى محط إعجابهم، ولكن لم يكن أحد منهم يعتقد أن ما تصنعه بيري هو في الواقع دواء.
أومأ تيون برأسه وقال
“أفهم الآن.”
***
عندما نظر تيون إلى شقيق آن، أدرك على الفور ما كان يعاني منه.
كان مرضًا نادرًا يُصاب به أفراد قبيلة الذئاب، وكان يُسمى “مرض العشرين شهرًا”.
كانت أعراضه تتضمن جفاف الشفتين مع نزيف مستمر، وانخفاض حرارة الجسم حتى في الأماكن الدافئة، مع ظهور كدمات زرقاء تختفي وتظهر بشكل عشوائي.
سمِّي “مرض العشرين شهرًا” لأنه عادةً ما يؤدي إلى الوفاة بعد مرور عشرين شهرًا من الإصابة.
“لم أكن أعرف أن شقيق آن يحمل دماء من قبيلة الذئاب. ربما يكون أحد والديه من تلك القبيلة بينما الآخر من البشر.”
ربما لا أفهم كل شيء، لكنني الآن أفهم لماذا عملت آن كجاسوسة تحت إشراف خالتها. لا يزال هذا المرض نادرًا جدًا ولا يوجد له علاج مناسب، لذلك كان الحل الأمثل هو استخدام أدوية فعّالة لكل عرض على حدة لتخفيف الأعراض قدر الإمكان.
ولهذا السبب كانت الأدوية غالية. رغم أن الأدوية المتوفرة في الأسواق كثيرة.
“إذا جمعنا الأعشاب بأنفسنا، لا يكلفنا شيء! أما إذا اشتريناها من السوق، فسعرها حوالي 500 كونا.”
علاج مرض “العشرين شهرًا” كان سهلاً لدرجة أنه يبعث على السخرية أمام معاناة المرضى ووفاتهم.
كل ما كان يحتاجه المريض هو تناول عصير أوراق زهرة “المانترا” لمدة خمسة أيام، وسيزول المرض. وإذا استمر المريض في تناوله كل عام، فلن يعاوده المرض مرة أخرى.
“لكن الآن المشكلة تكمن في كيفية إطعامه هذا العلاج…”
كنت أسحق الأوراق في الهاون، وألقي نظرات سريعة على الفرسان الذين كانوا يتجاذبون أطراف الحديث من حولي.
كانوا يتظاهرون بأنهم يشاركونني اللعب، لكن إذا علموا أنني أعتزم إطعامه هذا الدواء، لكانوا جميعًا قد اعترضوا بشدة.
لأنهم سيرون في ذلك مجرد لعبة أطفال لا أكثر.
“همم، يبدو أنه من الأفضل أن أختبئ وأقوم بذلك في سرية.”
لكن خطتي باءت بالفشل.
كان والدي قد أنهى طعامه في المطعم، وكانت تلك هي الفرصة المثالية، لكن تيون لم يرغب في الابتعاد عني. حاولت أن أطلب منه الذهاب إلى الحمام أو إحضار شيء من العربة، لكن كل محاولاتي باءت بالفشل.
على عكس الفرسان الذين تجاوبوا معي، كان تيون مصرًا على البقاء بجانبي، وكأنني كنت غارقة في حيرة.
“تيون، أريد أن أكون وحدي…”
“قال المعلم إن عليّ مراقبتك جيدًا.”
لم يكن هناك أمل. كنت أدور حول الأشجار القريبة من الهاون، أفكر في كيفية التسلل إلى غرفة شقيق آن في الطابق الأول، ربما من خلال النافذة… لكنني لا أستطيع حتى أن ألامس إطار النافذة.
“هل ستتركين الدواء هنا؟”
“ماذا؟”
التفت بسرعة.
“لقد صنعتِ دواءً لتلك الخادمة الصغيرة، أليس كذلك؟”
“أه…”
هل كان يمزح؟ درست وجهه بعناية، لكن لم ألحظ أي إشارة على وجهه الوسيم تدل على أنه كان يمزح.
“هل تعتقد أن الدواء الذي صنعته فعال؟”
“ألم تصنعيه من الأعشاب؟ كنت أعتقد أن المعلم هو من طلب منك ذلك. كما قلتِ سابقًا أنك كنت جائعة، تمامًا كما قال المعلم إنه لا يمكنه القيام بذلك بنفسه.”
“أوه، صحيح.”
ها هي الحجة التي كنت بحاجة إليها.
تسرعت في سؤاله، ولم أتمكن من إخفاء ابتسامتي.