أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 64
الفصل 64 : أبنةُ الأب ⁹
“يا إلهي! إذا كنتِ تتألمين هَكذا، كان يجبُ أن تناديني حتى ولو في الفجر! سأذهبُ فورًا لاستدعاء الطبيب.”
“شكرًا لكِ.”
لكن لسوء الحظ، كان الطبيب الذي كان يُشرف على حالة كورديليا قد غادر العاصمة لأمرٍ آخر. وبشكلٍ عاجل، استدعوا طبيبًا آخر لفحصها.
بعد أنْ تفحص الطبيب الشاب نسبيًا كاحلها، عبس وقال:
“متى أصبتِ بالضبط؟”
“قبل خمسة أيام، أو رُبما ستة.”
“يبدو أنهُ مُجرد التواءٍ بسيط، لكن الوضع ليس جيدًا. بعد مرور ستة أيام، كان مِن المُفترض أنْ يبدأ التورم بالاختفاء. سأكتبُ لكِ بعض الأدوية، احرصي على تناولها. وحاولي عدم استخدام قدمكِ قدر الإمكان.”
غادر الطبيب بعد أنْ قدم نصائحهُ. هَذهِ المرة، بقيت كورديليا في غرفتها ولَمْ تخرج منها، رغم شعورها بالملل.
“يبدو أنْ السيد مشغولٌ جدًا هَذهِ الأيام.”
“حقًا؟ حسنًا، لا بأس.”
كانت تتوقع أنْ يهدأ غضبُ ليونارد خلال يوم أو يومين، لكنهُ لَمْ يُقابلها لمدةٍ قد تجاوزت ثلاثة أيام. حتى عندما حاولت دعوتهُ لتناول الطعام معًا، كانت تحصلُ على ردودٍ غيرُ مُكترثة.
ضحكت ليلى بتوترٍ ثم غيّرت الموضوع.
“كيف حالُ ساقكِ الآن؟”
“أنا بخير.”
ردت كورديليا بشكلٍ تلقائي. في الحقيقة، لَمْ تكُن بخير على الإطلاق. التورم لَمْ يخف تقريبًا، وكانت تُعاني أحيانًا مِن ارتفاعٍ في الحرارة، لدرجة أنها كانت تتقيأ حتى بعد شرب الماء.
لكن ما كان أكثر ألمًا مِن ساقها المُتورمة هو التغيّر المُفاجأ في سلوك مُعلمها.
على الرغم مِن أنْ الوقت الذي قضتهُ مع ليونارد لَمْ يكُن طويلاً، إلا أنهُ كان دائمًا بجانبها عندما كانت تمرض أو تتأذى.
ومع ذَلك، خلال هَذهِ الأيام الثلاثة، لَمْ يأتِ ليونارد لرؤيتها ولو مرةٍ واحدة. الأمرُ كان بالنسبة لكورديليا أكثر مِن مُجرد إحساسٍ بالحزن، بل كان صدمةً.
منذُ صغرها، كانت تتعلمُ الاعتماد على نفسها عندما تمرض. لَمْ تكُن تتوقع أنْ تصدمها فكرة أنْ أحدًا ما لَن يكون بجانبها عند مرضها. لكنها أدركت الآن أنها كانت ترى ليونارد كشخصٍ تجاوزت علاقتُهت به حدود المُعلم.
‘أم أنهُ لَمْ يعدُ يرغبُ في رؤيتي؟’
عندما خطرت لها هَذهِ الفكرة، بدأت تشعرُ بالخوف. حتى أنها حلمُت بكوابيسٍ يتحدث فيه ليونارد بنظرةٍ باردةٍ قائلاً: “لَمْ أعُد بحاجةٍ إلى شخصٍ غبي مثلكِ.”
في اللحظة التي استيقظت فيها مِن هَذا الكابوس، ارتفعت حرارتُها بشدة. وتقيأت كُل قطع الفاكهةٍ الصغيرة قد تناولتها في الصباح، ولَمْ تستطع النوم حتى الليل.
***
في الليل، شعرت كورديليا بشيءٍ باردٍ يُلامس جبينها. فتحت عينيها متوقعةً أنْ تكون ليلى قد بدلت لها المنشفة المُبللة، لكنها تفاجأت برؤية شخصٍ آخر. كان ليونارد هو مَن لمس جبينها الساخن ثم رفع يدهُ.
“… مُعلمي؟”
“عودي للنوم بسرعة.”
“لا تذهب.”
عندما وقف ليونارد مِن الكرسي الذي كان بجانب السرير، قفزت كورديليا كالنابض وأمسكت ذراعهُ بإحكام حتى لا يرحل.
“لقد أخطأت. لَن أخرُج مِن المنزل دوّن إخبارك بعد الآن. سأستمع إليّك وأدرس بجد، أعدُكَ بذَلك يا مُعلمي.”
رغم أنها لَمْ تكُن قادرةً على تناول الطعام خلال الأيام الماضية بسبب ضعفها، إلا أنْ قوتها عادت فجأةً، وتشبثت بذراعهِ يائسةً كما لو كانت فرخًا يتشبثُ بأمه.
“لقد فهمت، الآن عودي للنوم.”
“لا تتخل عني. إذا تركتني، سأتبعُكَ حتى النهاية وأتشبثُ بك… أرجوكِ. لقد أخطأت. أرجوكَ سامحني.”
على الرغم مِن أنها ظنت أنْ دموعها قد جفت، فإن رؤية وجهِ ليونارد أعاده مِن جديد.
غرقت كورديليا في بحرٍ مِن الخوف الغامض، مُستمرةً في طلب العفو. وبينما كانت نصف نائمةٍ، طغى عليها الهلع مِن احتمال أنْ يرحل ويتركها ليونارد إلى الأبد.
“لَن أتخلى عنكِ. توقفي عن البكاء الآن، الجميع سيستيقظ.”
رغم لهجتهٍ القاسية، مسح دموعها مِن خديها بلطف. بدا أنْ ليونارد البارد والعنيد قد اختفى، وعاد الشخص الذي تعرفهُ كورديليا.
شعرت كورديليا بالاطمئنان، لكن أيضًا ببعض الشك. فكرةُ أنْ ليونارد قد دخل إلى غرفتها في منتصف الليل ليمسح دموعها بدت وكأنها حلمٌ غيرُ واقعي.
“ربما كُل هَذا مُجرد حُلم…” فكرت.
وفي تلكَ اللحظة، نهضت واحتضنت خصرهُ وغرست نفسها في صدره. فاجأهُ تصرفُها، فدفع كتفيها برفق.
“ماذا تفعلين؟”
“لَن تذهب، أليس كذَلك؟”
“ابتعدي.”
“مُعلمي، قُم بوعدي بسرعة بأنكَ لَن تذهب.”
“لَن أذهب، فقط ابتعدي.”
“إذا كنتَ لَن تذهب، فلا بأس أنْ أبقى هَكذا، أليس كذلك؟”
“توقفي عن هَذا الهراء…”
كان على وشك أنْ يدفعها، لكن عندما بدأت عيناها بالاحمرار وبدت وكأنها ستبكي مجددًا، استسلم ليونارد أخيرًا.
“نامي فقط.”
استلقت كوردليا بينما لا تزال مُتمسكةً بهِ بشدة، وبطبيعة الحال، استلقى ليونارد بجانبها. لَمْ يكُن بإمكانها الاستمرار في احتضانه، فقبضت على طرف قميصهِ بإحكام. كان جسدُها قريبًا جدًا منهِ لدرجة أنها تمكنت مِن سماع دقات قلبه، والتي منحتها بعض الطمأنينة.
أغلقت عينيها وهمست: “لَن أنام.”
“لماذا؟”
“سأبقى مُستيقظةُ لأراقب إذا كنتِ ستذهبُ أم لا.”
“توقفي عن هَذهِ السخافات ونامي. لَن أذهب.”
“مُعلمي.”
“نامي.”
“هل ستسامحني الآن؟”
“….”
لَمْ يكُن سبب غضبهِ وبرودهِ منها لأنها خرجت دوّن إبلاغه، بل لأن كورديليا أصبحت نقطة ضعفهِ، ولَمْ يكُن يعرفُ كيف يُسمي مشاعرهُ نحوها، لذا أبعدها عنه دوّن سبب.
عندما لَمْ يرد، فتحت كورديليا عينيها ونظرت إليّه مِن أسفل.
“لماذا لا تُجيب؟ قُل بأنكِ تُسامحني.”
“يا إلهي.”
شعر ليونارد بالإحباط. أطلقت شفتيهِ صوتًا ساخرًا طفيفًا. فتحت كورديليا عينيها على مصراعيها وأمسكت بقميصهِ بقوةٍ أكبر.
“أسرع. لقد سامحتُكَ مِن قبل، تذكُر؟”
“متى؟”
“في اليوم الذي قبلتني فيه كـ تلميذتك. ألا تتذكر؟”
حاول استعادة ذكرياتهِ. نعم، لقد حدث ذَلك قبل أربعة أشهر فقط.
أصيب ليونارد بصدمةٍ خفيفة عندما أدرك كم أصبحت كورديليا جُزءًا لا يتجزأ مِن حياتهِ خلال تلكَ الفترة القصيرة.
“لقد سامحتُكَ مرةً، لذا سامحني أنتَ هَذهِ المرة أيضًا.”
“لقد نسيتُ ذَلك الأمر بالفعل. أنتِ بالغة، لستِ بحاجةٍ إلى إذني للخروج.”
“لا. مِن الآن فصاعدًا، لَن أخرج مِن المنزل دوّن إذنكَ.”
قالت كورديليا بجديةٍ وكأنها تعدهُ وعدًا مُقدسًا، لكنهُ لَمْ يستطع إلا أنْ يجد الأمر مُضحكًا.
“الآن، نامي.”
“قُلتُ لكَ بأنني لَن أنام. لستُ نعسانة، وأنتَ… هاااام.”
همس ليونارد بتعويذةٍ للنوم بصوتٍ مُنخفض. رمشت كورديليا عدة مراتٍ، وسرعان ما غطت في نومٍ عميق.
بدأت يدها التي كانت تُمسك بقميصهِ تفقدُ قوتها تدريجيًا. رغم أنْ لا شيء كان يمنعهُ الآن مِن المُغادرة، شعر ليونارد بأنهُ لا يستطيعُ الرحيل.
نظر إلى كورديليا الهادئة، وقام بترتيب خُصلات شعرها المُبللة بالعرق بلطف.
“كورديليا.”
ما زال لَمْ يجد اسمًا لهَذهِ المشاعر.
لَمْ يكُن يعرفُ كيف يصف إحساسهُ تجاهها. كان أعمق مِن مُجرد شفقةٍ أو تعاطف، وتفسيرهُ على أنهُ مُجرد شعورٍ تجاه تلميذتهِ الأولى بدا سخيفًا.
خلال الأيام الأربعة الماضية، أدرك ليونارد أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ مِن حياته.
حتى شروق الشمس، بقي ليونارد بجانب كورديليا كما وعد.
في الصباح الباكر، وبينما كانت ليلى تُحضر الماء لكورديليا حتى تغتسل، صُدمت لرؤية شخصٍ بجانب سيدتها النائمة. فأسقطت الوعاء الفضي على الأرض في حالةٍ مِن الذهول.
“مَن هُناك…!”
المُفاجأة أنْ الوعاء الفضي لَمْ يسقط على الأرض، بل بقي مُعلقًا في الهواء دوّن أنْ يُسكب منهُ قطرةُ ماء واحدة.
لكن ليلى لَمْ تكُن مُندهشةً مِن هَذا السحر بقدر دهشتها مِن وجود سيد القصر نائمٌ بجانب كورديليا.
“اهدئي.”
“آسفة… آسفة، سيدي.”
رفع ليونارد إصبعهُ إلى شفتيه مُحذرًا الخادمة مِن إيقاظ كورديليا. ثمَ نهض بحذرٍ شديد كي لا يوقظها.
“لقد نامت للتو، عودي لاحقًا.”
“نعم، سيدي. سأفعل.”
غادرت ليلى الغرفة وهي تحملُ الوعاء الفضي دوّن أيِّ اعتراض. راودها شعورٌ بأن هَذهِ الغرفة، التي بُنيت لسيدة منزل عائلة أتيلي، قد تكون مُستعدةً لاستقبال سيدتها بالفعل قريبًا كـ سيدةٍ للقصر. لكنها بحكمةٍ اختارت ألا تُفصح عن تلكَ الأفكار وقررت فقط أنْ تعتني بكورديليا بأقصى قدرٍ مِن الاحترام.
****
“متى سَـ تَستيقظين؟”
“…..”
“لقد ارتفعت الشمس إلى مُنتصف السماء، أيتُها الكسولة.”
سمعت كورديليا تلكَ الكلمات وكأنها هلاوسٌ صباحية. عَبَسَتْ ورفعت الغطاء حتى رأسها، لكن يدٌ وقحةٌ وسريعة سحبت الغطاء عنها فورًا.
“ماذا…؟ مـ… مَن هَذا؟”
“مَن تظنين؟ كم الساعة الآن وأنتِ ما زلتِ نائمة؟”
“مُع… مُعلمي؟”
“نعم، يا تلميذتي الكسولة.”
كان ليونارد يقفُ بجانب السرير مُرتديًا ثيابهُ كاملةً. فركت كورديليا عينيها مرارًا، غيرُ قادرةٍ على تصديق ما تراه، وبقيت للحظةٍ غيرُ قادرةٍ على النطق.
“لماذا أنتَ هُنا؟”
“يبدو بأنكِ قد نسيتِ تمامًا كيف تشبثتِ بي البارحة وتوسلتي حتى لا أرحل.”
“أنا؟ متى فعلتُ ذَلك؟ لَمْ أفعل شيئًا كهَذا… آه!”
ألَمْ يكُن ذَلك حُلمًا؟
بدأت بعض الذكريات تتدفق إليّها. لقد كانت مُتأكدةً أنْ كُل ما حدث كان مُجرد حُلم، لكن يبدو أنهُ كان حقيقةً.
نظر ليونارد إليّها بنظرةٍ ساخرةٍ وقصيرة.
“بما أنكِ قد استيقظتِ، اغسلي وجهكِ. رائحتُكِ ليست جيدة.”
“أنتَ… اخـ… اخرُج! اخرُج الآن!”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة