أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 59
الفصل 59 : أبنةُ الأب ⁴
قال بارون مُبتسمًا:
“بقيت ساعةٌ واحدة، وسنصلُ إلى المنزل في غضون ثلاثين دقيقة، لذا لدينا مُتسعٌ مِن الوقت.”
رد ليونارد بلهجةٍ حادةٍ قائلاً: “مَن سألكَ عن ذلك؟”، لكنه لَمْ يسأل عن الوقت مرةً أخرى.
شعر البارون بشيءٍ غريب.
كانت هَذهِ أول مرةٍ في حياته يرى ليونارد يتعلقُ هَكذا بشخصٍ بشري وليس سحرًا. حتى مع عائلتهِ، لَمْ يكُن ليونارد يُبدي اهتمامًا كبيرًا بأحدهم، سواءًا كان والديه أو إخوته.
ومع ذَلك، ها هو الآن يتخلصُ مِن والدِ كورديليا، ويعلم أنها تشعر بالوحدة، ويُخصص وقتًا ليكون بجانبها رغم انشغالهِ الشديد.
كان مِن الصعب اعتبار هَذهِ العلاقة مُجرد علاقةٍ بين مُعلمٍ وتلميذ.
‘المُشكلة ربما تكون في الآنسة كورديليا.’
يبدو أنْ مشاعر ليونارد واضحةٌ إلى حدٍ ما، لكن مِن غير الواضح ما إذا كانت كورديليا تعتبرهُ أكثر مِن مُجرد مُعلم.
في الواقع، لو فكر بصراحة، لم تُظهر على كورديليا أنها تنظر إلى ليونارد بشكلٍ عاطفي على الإطلاق.
‘ربما سيضطرُ سيدي ليُعاني قليلاً.’
“لماذا تبتسمُ هَكذا بطريقةٍ مُزعجة؟”
“هممم، لا شيء. أنا دائمًا إلى جانبكَ، أليس كذلك؟”
“ما الذي تقوله؟”
***
“مُعلمي.”
“ماذا؟”
“ألستَ مشغولًا هَذهِ الأيام؟”
“لماذا تسألين؟”
“ألا ينبغي أنْ تكون مشغولًا؟ لقد عدتَ إلى العاصمة بعد فترةٍ طويلة، أليس مِن المُفترض أنْ تُنجز بعضَ الأعمال؟ بالمُناسبة، ماذا عن المُحاكمة؟ هل بدأتَ تحضيرات المُحاكمة؟”
كان لدى كورديليا سببٌ وجيهٌ لرغبتها الشديدة في رؤية مُعلمها مشغولًا خارج المنزل.
البقاء بجوارهِ لمُدة أربعة أيام كان جيدًا، ولكن مع مرور خمسة أيام، ثُمَ سبعة، وعند وصلهم إلى اليوم الثامن، أصبح الأمر خانقًا جدًا.
خاصةً أنهُ كان مُنزعجًا للغاية عندما تخرُج كورديليا إلى الحديقة، حيثُ كان يتظاهرُ ويقول: “عليكِ القيام بواجباتكِ في هَذا الوقت”، ولكن في الحقيقة كان يمنعها مِن الخروج تمامًا.
“هاه. لم تقومي بواجبكِ مرةً أخرى.”
“الأمرُ ليس أنني لَمْ أقُم به، بل لَمْ أتمكن مِن القيام به. في الأيام الأخيرة كنتُ أنام فقط أربع ساعات يوميًا! وكلما كنتُ مستيقظةً، إما أنني أرى وجهكَ أمامي أو أنظرُ إلى هَذهِ الأوراق لحل الواجبات. الطبيب قال إنني بحاجةٍ للنوم جيدًا لتعافي قدمي.”
“أربعُ ساعاتٍ مِن النوم العميق تكفيكِ.”
الحوار معهُ كان عديمَ الفائدة.
اهتزّت شفتي كورديليا بغضبٍ. ضحك ليونارد ثمَ ضغط بإصبعهِ على جبينها.
“على أيِّ حال، سأكونُ مشغولًا مرةً أخرى بدءًا مِن اليوم. سأعود إلى القصر بعد الظهر.”
“حقًا؟ هل ستكون مشغولًا جدًا؟”
تحسنت ملامحُ وجهها، ولكن ليونارد ابتسم بِمُكر.
“لكنني سأجدُ دائمًا الوقت لتفقد واجبكِ. أنتِ تلميذتي الوحيدة.”
“… لقد قرأتً في الكتب أنْ على المرء أن يتعلم بشكلٍ مُستقل ويًصبح شخصًا يعتمدُ على نفسه في الدراسة.”
“هَذا مُجرد كلامٍ فارغ، أنتِ تُريدين اللعب فقط، أليس كذلك؟”
“ألعب؟ لا، أنا سأقومُ بالدراسة بشكلٍ مُستقلٍ حقًا.”
بينما كانوا يتجادلون كما يفعلون دائمًا، اقترب أليكس منهم.
“سيدي. اللورد ميربان واللورد إينغريون وصلا.”
“إينغريون؟ آه، بيلوتشي؟”
وقفت كورديليا فجأةً مِن مكانها، ليس لأنها لا تُريد الدراسة، بل لأنها كانت سعيدةً بمجيء بيلوتشي.
“مُعلمي. لنذهب. بيلوتشي ينتظرونا.”
“هو مَن يجبُ أن يأتي إلى هُنا، لماذا عليّ الذهاب؟”
“أوه، فقط لنمشي بضع الخطواتٍ في الهواء الطلق سيجعلُكَ هَذا تشعرُ بالنشاط، أليس كذلك؟”
“ما زلتِ تترنحين، انتِ تُريدين فقط الهروب مِن الدراسة بأيِّ شكلٍ كان.”
كانت حيلتُها واضحةً، لكن كما هو الحال دائمًا، لَمْ يتمكن ليونارد مِن مُقاومة إصرار كورديليا.
امسكت كورديليا بذراع ليونارد وهي تتجهُ نحو البوابة الأمامية. هُناك، وجدت وجهًا مألوفًا لَمْ ترهُ منذُ شهرٍ ووجهًا آخر لَمْ تعرفهُ مِن قبل.
“بيلوتشي!”
في البداية لَمْ يكُن لديها شعورٌ مُعين، ولكن بمُجرد أنْ رأت وجهه شعرت بسعادةٍ غامرة. لوحت بيدها نحو بيلوتشي.
لكن بالطبع، بيلوتشي لَمْ يرُد التحية بحرارة، بل نظر إليها بشكٍ بعينين ضيقتين.
“ما الأمر؟”
“مرحبًا، بيلوتشي. كيف حالُك؟”
“لماذا تتظاهرين فجأة بأننا قريبون؟”
“ولماذا تتظاهر أنتَ بأننا لسنا كذلك؟ ألَمْ نتفق على أنْ ندفن بعضنا البعض عندما نموت؟”
“ههمف.”
نفخ بيلوتشي الهواء مِن أنفه وهو يتفحصُ كورديليا مِن أعلى إلى أسفل. بعد قليل، لاحظ وضعية قدميها الغريبة وسأل:
“ماذا حدث لقدميكِ الآن؟”
“آه، فقط التواءت قدمي بينما كنت أرتدي حذاءًا ذو كعبٍ عالي.”
“أوه، يُمكنني تخيلُ ذَلك. لابد أنكِ كنتِ تركضين بلا حذرٍ كما تفعلين دائمًا.”
ابتسمت كورديليا ببساطة دوّن أنْ تُبرر شيئًا، وحولت الموضوع بعيدًا عن قدمها وحدثت الفارس الذي كان بجانب بيلوتشي.
“مرحبًا. هَذهِ أول مرةٍ نلتقي. أنا كورديليا إبرامز.”
“أنا غاسيل ميربان. لقد أخبرني اللورد إينغريون عنكِ.”
على عكس بيلوتشي الذي كان يرتدي ملابس غيرَ رسمية ويتحدثُ بطريقةٍ غيرُ رسمية، بدا غاسيل وكأنهُ فارسٌ نموذجي خرج مِن كتاب. لَمْ يُظهر أيَّ تعبيّرٍ على وجهه، وكان أشبهَ بتمثالٍ خشبي.
انحنى قليلًا لكوردليا قبل أنْ يتوجه مُباشرةً إلى ليونارد وينحني لهُ باحترام.
“لقد عُدت، سيدي.”
“أجل. أحسنت.”
“سأعد تقريرًا حول المُهمة التي كلفتني بها وأحضرهُ إليك.”
أومأ ليونارد برأسهِ بفتور وكأن الأمر يًضايقه.
“مُعلمي، ألم تقُل إنْ عليكَ الذهاب إلى القصر الملكي؟”
“لماذا تواصلين الإلحاح على هَذا منذَ مُدة؟”
“متى ألححت؟ أنا فقط كنتُ أسألك. ألا يُمكنني السؤال عن جدول أعمال مُعلمي؟”
ردت كورديليا بصوتٍ مرتفع، مُتظاهرةً بالبراءة. حدق ليونارد بها لفترةٍ طويلة ثمَ أشار بيده إلى بيلوتشي.
“أثناء غيابي عن القصر، تأكد مِن مُراقبة هَذهِ جيدًا.”
“نعم، سيدي.”
“لماذا يجبُ أنْ يُراقبني بيلوتشي؟ أنا فتاةٌ هادئةٌ للغاية.”
تجاهل أعتراض كورديليا بكُل برود. غادر ليونارد مع غاسيل متوجهين إلى القصر، ولَمْ يتوقف عن توجيه تحذيرات لها بأن تُركز على واجباتها أثناء غيابه. أما كورديليا فقد ودعتهُ مطمئنةً إياه أنْ كُل شيء سيكون على ما يرام.
“هل ذهب؟”
“ماذا تفعلين؟ ألَم تسمعي ما قاله سيدنا؟ عودي إلى الداخل.”
“هل ذهب مُعلمي حقًا؟”
مدّت كورديليا رقبتها للتحقق عدة مرات مِن أنْ العربة قد غادرت تمامًا. بينما كان بيلوتشي يضغطُ عليها للعودة إلى الداخل، لكنها لم تكترث لكلامه.
أمرت خادمها بإحضار عربةٍ أخرى.
“بيلوتشي، إذا كنتَ تُريد الدخول ادخل أنت. لديّ موعدٌ علي الذهاب إليّه الآن.”
“موعد؟ مع مَن؟”
“مع شخصٍ أعرفُه. أنتَ تبدو مُتعبًا، فعد إلى الداخل لترتاح.”
وقفت العربة أمامها. حاولت كورديليا الصعود بمساعدة الخادم، لكن بيلوتشي أمسك بها فجأةً.
“ماذا تفعل؟ لماذا تسحبُني؟”
“إلى أين تذهبين؟”
“قلتُ إنْ لديّ موعدًا! اترُك ملابسي! ستتمزق، ستتمزق!”
” مِن أين لكِ بالمعارف في العاصمة؟ ألَم يطلُب منكِ سيدنا البقاء هادئة في القصر؟ ادخلي، ادخلي إلى الداخل.”
“لديّ معارف! قلتُ لكَ أنْ تتركني! سأعدُ حتى الثلاثة. واحد، اثنان، اثنان ونصف. اثنان ونصف ونصف!”
تراجع الخادم إلى الخلف وهو يشعرُ بالحرج عندما رأى الرجل والمرأة البالغان يتشاجران أمام العربة.
كانت كورديليا تُحاول الصعود إلى العربة رغم ألم قدمها، بينما كان بيلوتشي يُمسك بثيابها. كانت عيون بيلوتشي تلمعُ كأنها تحترقُ مِن الغضب.
“قبل أنْ أضطر إلى ضربكِ للإغماء وحملكِ إلى الداخل، ادخلي بهدوء.”
“حاول فقط. سأملأ غرفتك بالأفاعي. أنا ماهرةٌ جدًا في استدعاء المخلوقات السحرية.”
“هل فقدتِ عقلكِ؟”
“لَم أريكِ بعدُ ما هو الجنون.”
اختفى شعور السعادة برؤية بيلوتشي بعد غيابٍ طويل كأنهُ غبار. تبادلا النظرات الحادة دوّن أنْ يتراجع أحدهما.
بعد مواجهةٍ طويلة، كان النصر مِن نصيب كورديليا. خفف بيلوتشي قبضتهُ على ثيابها، وفي تلكَ اللحظة، قفزت كورديليا بسرعةٍ داخل العربة.
ثمَ، بشكلٍ غيرُ متوقع، صعد بيلوتشي أيضًا إلى العربة.
“ماذا تفعل؟ لماذا تصعدُ للعربة؟”
“أريدُ أنْ أرى مَن هو هَذا الشخص الذي ستلتقين به.”
“ما دخلكَ؟ انزل مِن العربة. قلتُ لكَ انزل!”
جلس بيلوتشي في الزاوية المُقابلة وأغمض عينيه، كأنهُ يشير بصمتٍ إلى أنهُ لَن ينزل.
لَم تكُن كورديليا راضيةً، لكنها أدركت أنها ستتأخر عن موعدها إذا استمرت في الجدال، فاضطرت إلى إصدار الأمر للعربة بالتحرك.
بعد فترةٍ قصيرة، توقفت العربة أمام حديقةٍ كبيرة.
“لقد وصلنا. هل ستنزلون هُنا؟”
“شكرًا لكَ. سأعود بعربةٍ أخرى، يُمكنكَ العودة الآن. آه.”
نزلت كورديليا بسرعة مِن العربة، لكن الألمٍ الحاد في ساقها اليُمنى جعلها تصرخ. نزل بيلوتشي خلفها وضحك بشكلٍ ساخر.
“بقدمكِ المُصابة هَذهِ، كيف تنوين الاستمتاع بالتنزه؟”
“بما أنكَ لحقتِ بي إلى هُنا، فأعطني ذراعكَ.”
“ومَن قال إنني سأفعل ذَلك؟”
“أعطني ذراعكَ بسرعة! ذراعكَ!”
بدا كأن كورديليا تُطالب بشيءٍ مِن حقها، فأمسكت بذراع بيلوتشي بشكلٍ إجباري. رغم تذمرهِ، لَمْ يسحب بيلوتشي ذراعه.
كانت كورديليا تمشي بخطواتٍ بطيئة بسبب ألم قدمها، وسرعان ما وصلت إلى الشخص الذي كانت تبحثُ عنه.
“ليديا!”
“كورديليا. أنا هُنا.”
استقبلتها ليديا بابتسامةٍ وهي جالسةٌ على مقعد تقرأ كتابًا.
بعد حفل ساراسين، تبادلت كورديليا وليديا الرسائل واكتشفتا أنهما تتوافقان بشكلٍ رائع. اتفقتا على الذهاب معًا إلى محل حلوى.
لَمْ يكُن لدى كورديليا أيُّ صديقاتٍ في سنها في فاسكويز، ولم تكُن تملك الوقت لتكوين صداقات في منزل إبرامز. لذا، كانت فرصةً لقضاء الوقت مع صديقةٍ في مثل عُمرها واحدةً مِن أحلامها البسيطة.
وخصوصًا الذهاب إلى محل الحلويات معًا! كان هَذا يبدو وكأنها الحياة الأرستقراطية الفاخرة التي كانت تسمعُ عنها دائمًا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿