أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 57
الفصل 57 : أبنة الأب
لم يتحدث الاثنان حتى وصلا إلى القصر.
وعندما نزلت كورديليا مِن العربة وحملها ليونارد مرةً أخرى، بدأت تتحرك وتُصرّ على أنها تستطيعُ المشي، لكن ليونارد تجاهل كلامها تمامًا وحملها إلى داخل القصر.
اتسعت عيون الخدم الذين شاهدوا المشهد بدهشةٍ.
“سيدي، ماذا حدث؟ هل حدث شيء لكورديليا؟”
“استدعِ الطبيب.”
“نعم، سأفعل.”
أدرك أليكس مزاج سيدهِ المُضطرب، فلم يطرح أيَّ أسئلةٍ وسارع لاستدعاء الطبيب.
حمل ليونارد كورديليا إلى غرفتها، وبعد أن وضعها على السرير، قال بطريقةٍ قاسية:
“ارتاحي، لا تفكري في أيِّ شيء.”
ترك تلكَ الكلمات وغادر الغرفة. نادته كورديليا وهي تراه يديرُ ظهره.
“مُعلمي.”
“ماذا؟”
“شكرًا لكَ. على كُل شيء.”
لم يلتفت ليونارد أو يرُد عليها. قبض يدهُ بإحكامٍ ثمَ غادر الغرفة فورًا.
شعر بضيقٍ لا يعرفُ سببه، وكأن شيئًا يخنُقه. تخيل كيف كانت كورديليا تتعرضُ للضرب مِن والدها، فاشتعل غضبهُ كـ النار. كان غاضبًا بطريقةٍ لم يفهمها هو نفسُه.
ندم على ترك فاسكويز يرحل بسهولة.
“هاه.”
تنهد طويلاً، ثم سار مباشرة نحو مكتبه. بحث بين كومة الوثائق على مكتبه عن التقرير الذي طلبهُ سابقًا عن فاسكويز مِن البارون. كانت جميعُ المعلومات عن فاسكويز مكتوبةً في تلكَ الأوراق السميكة، لكن الألم الذي عاشتهُ كورديليا كان مُجرد جملةٍ قصيرة.
[وفقًا لأحد العمال هُناك، يبدو أن كورديليا فاسكويز كانت تتعرضُ للإهمال الشديد.]
لم يستطع أن يرفع عينيهِ عن تلكَ الجملة.
_لقد باعني والديّ لهذا الجحيم مُقابل بعض المال! قال إنني حتى لو مُت، فلا يجب أنْ أعود. ولكن ماذا بوسعي أنْ أفعل؟ هل تعرفُ كيف يعيشُ ويموتُ المرء الذي يولد في عائلةٍ مُنهارة؟ هل تعرف؟!
لماذا لَمْ يأخذ كلماتها بجديةٍ في ذَلك الوقت؟
أمسك ليونارد بالورقة التي كُتبت فيها تلكَ الجملة وضغط عليها بقوةٍ حتى تجعدت. ثم سحب الحبل المجاور له ليأتي أليكس بعد لحظات.
“هل استدعيتني، سيدي؟”
“كيف حال كورديليا؟”
“إنها تتلقى العلاج مِن الطبيب. إصابةُ كاحلها ليست خطيرةً حقًا، وستكون بخيرٍ إذا استراحت لمدة شهرٍ تقريبًا. أما خدها…”
تردد أليكس قليلاً وهو يُراقب رد فعل سيده بحذر.
“قال الطبيب إنهُ سيتحسن تلقائيًا مع وضع بعض الثلج.”
“حسنًا، شكرًا.”
“هل هُناك شيءٌ آخر تود أن تطلبه؟”
“فاسكويز…”
لم يكُن مِن السهل عليه أن يبتلع غضبه عند ذكر ذَلك الاسم. بعد تنفس بعمق، واصل الحديث.
“فاسكويز موجودٌ في العاصمة. ابحث عن المكان الذي يقيّمُ فيه.”
“فاسكويز في العاصمة؟ حسنًا… سأتأكدُ فورًا.”
رغم أن أليكس قد أبدى بعض التساؤلات، إلا أن وجه سيده المُتصلب جعلهُ ينحني بسرعةٍ وينصرف.
***
مرّ يومان منذُ نهاية حفل ساراسين.
عاد وجهُ كورديليا إلى طبيعتهِ بعد أن كان أحمرًا، لكن كاحلُها المُلتوي قد تورم بشدة، مما جعل مِن الصعب عليها المشي بمفردها. لحسن الحظ، خفف ليونارد الكثير مِن الألم باستخدام السحر العلاجي.
منذُ ذَلك اليوم، لم تخرج كورديليا مِن القصر. ولَمْ يكُن ذُلك فقط بسبب إصابة قدمها.
فالألم الجسدي كان عابرًا، لكن الذي جعلها تشعرُ بعدم الارتياح كان وجود والدها بحد ذاته.
“لماذا جاء والديّ إلى العاصمة؟”
“كورديليا.”
“هل يُخطط لاستغلال كوني تلميذتك ليطلب شيئًا؟ أم ربما سوف ينشرُ شائعاتٍ سيئة…؟”
“كورديليا.”
نادى ليونارد اسمها بصوتٍ مُنخفض، فتوقفت عينا كورديليا المُرتجفتان عليه.
“مهما كان سبب وجود فاسكويز في العاصمة، لا يمكنهُ أن يفعل شيئًا لنا.”
“……”
“يبدو أنكِ تنسين كثيرًا أن مُعلمك هو الدوق أتيلي.”
“لكن هَذا ما يُخيفني أكثر. لديكَ الكثير لتفقدهُ مُقارنةً بفاسكويز.”
تغيّرت ملامحُ وجه كورديليا. كانت تشعرُ بالخجل والكراهية للدم الذي يجري في عروقها. والأسوأ مِن ذَلك، كانت تكرهُ الشخص الذي ورثتهُ منه: والدها.
الغضب والقلق اللذان كانت تُحاول كبحهما انفجرا بعد لقاء والدها. كانت تضغط بأظافرها على راحة يدها بعصبية.
“ما الذي قد أخسرهُ بسبب فاسكويز؟ حياتي؟ أو ربما منصبي كـ رئيس؟”
“……لا أعتقدُ ذَلك.”
“بالطبع لا. أنتِ تعرفين جيدًا أن ذَلك لَنْ يحدُث. لذا كُل ما تشعرين بهِ الآن هو قلقٌ لا داعي لهُ.”
شعرت كورديليا بأن القليل مِن الهدوء قد بدأ يعودُ إليها بعد كلماته التوبيخية التي كانت بمثابة عزاءٍ لها.
“لذا توقفي عن هَذهِ الأفكار الغريبة وركزي على دراستكِ. إذا استمر الأمرُ هَكذا، سيتحولُ عقلُكِ إلى صخرةٍ وستحتاجين إلى إزميلٍ بدلاً مِن القلم.”
[الازميل أو المِنْحَت: هو أداةٌ معدنيةٌ (مصنوعةٌ عادةً مِن الحديد) ذاتُ طرفٍ مُدبب تُستخدم لاختراق أو تكسير الخشب أو مواد صلبة أخرى.]
“ليس إلى هَذهِ الدرجة.”
“أعتقدُ أنكِ نسيتِ كُل تعاويذ الحماية التي علمتها لكِ.”
استخدم ليونارد طريقتهُ الخاصة لتهدئتها؛ بأن يُكلفها بواجباتٍ كثيرةٍ بحيث لا تجدُ وقتًا للتفكير في أيِّ شيءٍ آخر. وكان لهَذا تأثيرٌ جيد، إذ انغمست كورديليا في الدراسة لدرجة أنها نسيت قلقها بشأن والدها.
كما تجنب ليونارد وكورديليا الحديث عن هَذا الموضوع وكأنهما اتفقا مُسبقًا.
وصلت رسالةٌ مِن روزنبلور مليئةٌ بالقلق والاهتمام، لكن كورديليا ردت عليها بجملةٍ قصيرة: “أنا لستُ على ما يرام”.
“أعيدي الحسابات. كيف يُمكنكِ أن ترتكبي نفس الخطأ مراتٍ عديدة؟”
“هَذا غريب، لقد حسبتها بشكلٍ صحيح.”
“هُنا، هَذهِ المُعادلة خاطئة.”
“آه! الآن فهمت.”
بعد أن عاد بارون، الذي ذهب في مهمةٍ للتحقيق برفقة بيلوتشي، إلى المنزل، عرض عليها إكليرًا مِن المطبخ وأخبرها بسرور أن عملها كان جيدًا.
كانت لوتي مُتمددةً بشكلٍ مُريح تحت أشعة الشمس الربيعية الدافئة، مما أضاف جوًا مِن الطمأنينة لكورديليا.
“متى سيعود بيلوتشي؟”
“قريبًا. لقد انطلقتُ قبلهُ بخمسة أيام، لذا مِن المُحتمل أن يأتي مع السير ميربان قريبًا.”
“أخيرًا سأرى السير ميربان.”
ابتسمت كورديليا عندما تحدثت عن الفارس المُخلص لليونارد، الذي لم تسمع عنهُ سوى مِن القصص، لكن ليونارد أبدى عدم رضاه.
“لماذا قد تنتظرينه؟”
“متى قلتُ بإنني أنتظرُه؟”
“لقد قلتِ ذَلك بنفسكِ قبل قليل.”
“أنا لا أنتظرُه، بل كنتُ فقط فضوليةً لأني سمعتُ عنهُ كثيرًا باعتبارهِ فارس مُعلمي.”
“لا داعي للفضول، إنهُ مُجرد فارسٍ بين الكثيرين.”
“يا إلهي، لماذا تتصيدُ الأمور الصغيرة؟”
ظنت كورديليا أن مُعلمها يبحثُ عن أعذارٍ ليُجادلها، لكن البارون كان لهُ رأيٌّ مُختلف.
لان البارون قد كان بجانب ليونارد منذُ أنْ كان في الخامسة، أصبح بإمكانهِ قراءة مشاعر سيده مِن خلال أدق التغيّرُات في تعابيّره.
في البداية، ظن أنْ ليونارد كان حساسًا تجاه كورديليا لأنها أول تلميذةٍ له.
لكن بمرور الوقت، أدرك البارون أن كورديليا قد أصبحت شخصًا مُميزًا جدًا بالنسبة لليونارد.
“لا، ربما هي أكثرُ مِن ذَلك…”
هزّ البارون رأسهُ، مُعتقدًا أنْ الوقت لا يزالُ مُبكرًا لاتخاذ أيُّ حكم. فالسحرة دائمًا ما يكون لديهم ارتباطٌ قويٌ بتلاميذهم الأوائل. حاول تجاهل تعلق سيده بها.
في تلكَ اللحظة، دخل أليكس بهدوء واقترب مِن ليونارد وهمس في أذنه.
“…لقد وصلوا.”
“أخيرًا؟”
“نعم، يبدو أنْ الذهب المُعلق عند الباب كان لهُ تأثيرٌ حقًا.”
تحدث الاثنان بأمورٍ لَمْ تفهمها كورديليا، لكنها لم تهتم. كانت معظمُ محادثاتهما منذُ أن جاءت إلى هِذا المكان غير واضحةٍ لها.
ابتسم ليونارد بطريقةٍ غامضة ووقف، بينما تبعه البارون. وضعت كورديليا قلمها وسألت:
“إلى أين أنتَ ذاهب؟”
“لديّ عمل.”
“…حسنًا، هل ستعودُ مُتأخرًا؟”
أمسكت كورديليا القلم مرةً أخرى بكتفٍ مُنخفض، مُحاولةً إخفاء شعورها بالوحدة.
عندما كان ليونارد على وشك الخروج، استدار مرةً أخرى نحو كورديليا وكتب شيئًا على ورقة.
“خذي.”
“ما هَذا؟”
“واجب. سأعود خلال ثلاث ساعات، أكمليه في هَذا الوقت.”
“مُستحيل!”
نظرت كورديليا إلى الورقة التي سلمها لها وكانت مصدومةً حقًا. لَمْ يكُن مِن المُمكن إنهاء كُل هَذا في ثلاث ساعات، بل ربما قد تحتاجُ إلى 13 ساعة. بدأت كورديليا تلوح بالورقة معترضةً بشدة.
“كيف يُمكنني إنهاء هَذا في ثلاث ساعات؟”
“لماذا لا تستطيعين؟ إنهُ شيءٌ يُمكن إنجازه إذا ركزتِ.”
“سيستغرقُ الأمر ثلاث ساعات فقط لكتابة كُل هَذا!”
“وماذا في ذَلك؟”
أدركت كورديليا أنها لا تستطيعُ المُقاومة أكثر، فقلبت رأسها وبدأت في الكتابة بشكلٍ محموم. لم تهتم سواء بقي أو غادر. عندها فقط، غادر ليونارد الغرفة.
نظر البارون بين ليونارد وكورديليا بتعبيّرٍ غامض.
***
“هل يُمكنني أن أسألكَ إلى أين أنتَ ذاهب؟”
“للقاء رجُلٍ طماع.”
“ماذا؟”
لم يُفسر ليونارد أكثر مِن ذَلك، لذا انتظر بارون حتى توقفت العربة.
بعد قليلٍ مِن الاهتزازات الخفيفة، توقفت العربة. نزل البارون أولًا وساعد سيدهُ على النزول.
كان المكان الذي وصلوا إليه نُزلًا يقعُ على أطراف المدينة، يرتادُه التجار الأثرياء، لكن النبلاء كانوا يتجنبونهُ لأنه أقل مِن مستواهم.
عندما توقفت عربة أتيلي أمام النزل، خفض الناس رؤوسهم على الفور وخفضوا أصواتهم. ركض مالك النزل نحوهم مُسرعًا.
“ما الذي أتى بكَ إلى مكانٍ مُتواضع كهَذا، سيدي الدوق؟”
“سمعتُ أن السيد فاسكويز يقيّمُ هُنا.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة