أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 56
الفصل 56 : أبنةُ الأب ¹
عندما لم تستطع الإجابة وبدأت ترتجف، ازداد بابلو وقاحةً وصرخ بصوتٍ أعلى:
“كان عليّ منعُكِ مِن تعلُم القراءة منذُ البداية. أليست والدتكِ السبب في هَذهِ الأوهام التي في رأسكِ الآن؟ هه، ساحرة؟ وما هَذا السحر الذي تتباهين بهِ بكُل هَذهِ الغطرسة؟”
“توقف عن ذكرّ أمي. مَن الذي ضيّع كُل ثروة أمي التي جلبتها معها عند زواجها وأهدرها في مشاريع فاشلةٍ وأغرق عائلة فاسكويز في الوحل؟”
“هل تجرؤين على ذكرّ عائلة فاسكويز بلسانكِ؟ أيتُها الفتاة عديمةُ الفائدة!”
كانت عيناهُ تحمران حتى في الظلام. رفع يده عاليًا. أغمضت كورديليا عينيها بإحكام.
“هُناك الكثيرُ مِن الأعين التي تُراقبكَ هُنا، يا سيد فاسكويز.”
“هممم.”
“خاصةً في حفلة ساراسين.”
أمسك ليونارد معصمهُ بقوة. تعرف فاسكويز عليهِ وسعل بخفة وهو يستدير بعيدًا. حاولت كورديليا بالكاد أن تهدئ أنفاسها المُتسارعة.
قال ليونارد وهو يُحرر معصم فاسكويز:
“أول مرةٍ نلتقي وجهًا لوجه؟ تعرّف، أنا ليونارد أتيلي.”
“آه، نعم. أتيلي. أنا بابلو فاسكويز.”
مد بابلو يدهُ. لكن ليونارد لَمْ يمد يده للمصافحة، بل نظر إليهِ ببرود. كان ذَلك تصرفًا غيرُ مهذبٍ إلى حد ما، مما جعل بابلو يعبُس ويعيدُ يدهُ إلى جيبه.
“أظنُ أنكَ نادرًا ما تزور العاصمة.”
“أنا أكرهُ الأماكن المُزدحمة مثل العاصمة.”
“يبدو الأمر كذَلك. أنتَ الوحيد في العاصمة الذي لا يمتلكُ منزلًا هُنا.”
بدا كلامه وكأنه إهانةٌ، فتجعد وجه فاسكويز مِن الغضب. ومع ذَلك، لم يُظهر غضبه كما فعل مع كورديليا.
قال بابلو محاولاً كبح صوته:
“هل يُمكنكَ أن تتركنا لوحدنا؟ لديّ الكثيرُ لأقولهُ لابنتي، لم نلتق منذُ فترةٍ طويلة.”
“يبدو أن السيد فاسكويز يُفضل الحديث مع ابنته بصفعها على وجهها، ويبدو أنْ هَذا ليس المرة الأولى. يا لها مِن عادةٍ بغيضة.”
“مِن الأفضل أن أؤدبها بدلاً مِن تركها عديمة الاحترام.”
نظر فاسكويز إلى كورديليا بازدراء لا يُمكن إخفاؤه في عينيه.
“لا أفهم لماذا قبلت أن تتخذها تلميذةٍ لك. ستندمُ على ذَلك، أتيلي. كيف يُمكن لشخصٍ لا يحترم والده أن يحترم مُعلمه؟”
“أبي، أرجوك!”
“اصمتي. لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ.”
قال ليونارد بصوتٍ مُنخفض وعميق:
“يبدو أنكَ تُقلل مِن شأن السحر، لكنهُ بالنسبة لي ذو قيمةٍ كبيرة. وكورديليا هي التلميذة الوحيدة التي ورثت كُل شيء مني.”
“هاا.”
“إذن، ماذا ما رأيكَ أن تعود إلى دياركَ قبل أن أبدأ باستخدام السحر أمام السيد فاسكويز لأول مرة.”
كان لدى ليونارد رغبةٌ قويةٌ في قتله بمُجرد أنْ رأى وجه كورديليا المتورم.
حتى عندما رآها في مأدبة إبرامز مُغطاة بالنبيذ، لم يغضب لهَذا الحد.
ومع ذَلك، كان يكبحُ غضبه لأنهُ يعلم أن فاسكويز هو والد كورديليا.
قال بابلو محاولاً تبرير أفعاله بعدما شعر بالغضب المُتزايد في تعابير وجه ليونارد:
“كنتُ على وشك المغادرة.”
غادر بابلو، تاركًا ليونارد وكورديليا وحدهما في صمتٍ ثقيل.
اقترب ليونارد مِن كورديليا وأمسك بذقنها ورفع رأسها. كانت خدودها متورمة ومليئةً بآثار يده، ما جعل مِن الواضح أنها تعرضت للضرب.
“هل نسيتِ مرةً أخرى تعويذة الحماية التي علمتها لكِ؟”
“يبدو الأمر كذَلك، لقد نسيتها.”
ضحكت كورديليا ضحكةً مُصطنعة تُحاول إخفاء ألمها.
مسح ليونارد خدها بإبهامه، ومع بريقٍ خافتٍ خف تورمها، لكن العلامات لم تختفِ تمامًا.
نظرت كورديليا إلى المكان الذي غادر فيه والدها وقالت:
“قال لي أنْ أعود إلى إبرامز دون أنْ ألطخ سمعته.”
“حقًا؟”
“قلتُ لهُ بوضوح أنني التلميذة الوحيدة لأتيلي. اعتقدتُ أنْ والدي سيكونُ فخورًا بذَلك، أو على الأقل سيعترفُ بي. لكني، أنا… “
مشاعرُ الغضب، الإحباط، الحزن، والإهانة اجتمعت جميعها في داخلها.
كانت تلكَ المشاعر مُختلطةً لدرجة أنها لم تعد تعرف ما هي بالضبط. كان كُل شيءٍ يتدفقُ وكأنهُ شلالٌ مِن العواطف غير المعروفة التي اجتاحت كورديليا.
“ما الذي أعنيه بالنسبة لأبي؟”
لماذا أنجبني إذا كان سيحتقرني ويكرهني بهَذا الشكل؟ لماذا جلبني إلى هَذا العالم ليبغضني؟
صرخت كورديليا بصمت.
لم تسقط دمعةٌ واحدةٌ أمام والدها، لكن حينما وقفت أمام ليونارد، انفجرت دموعها بسهولة.
حاولت أن تمسح دموعها بكمها، لكنها لم تستطع التوقف.
رفع ليونارد يده ليمسح دموعها المُتدفقة. رؤيتها تبكي جعلت صدرهُ يضيق بالألم.
“ماذا تريدين أن أفعل؟”
“أه…”
“هل أقطعُ يدهُ التي صفعكِ بها إلى قطعٍ صغيرة؟”
“مُـ… مُعلمي.”
“قولي كلمةً واحدة، أو فقط اومي برأسكِ.”
همس لها بصوتٍ حلوٍ كالعسل. وكأنهُ على استعدادٍ للذهاب وقطعِ يد والدها وتسليمها لها.
هل يجبُ أن تومي برأسها؟
هل يجبُ أن أطلبُ منهُ قتل والدي الذي باعني إلى الجحيم؟
كانت عينا كورديليا غارقتين بالدموع لدرجة أن رؤيتها أصبحت ضبابية تمامًا. أمسكت بطرف ملابسهِ بإحكام ودفنت وجهها في صدره.
“…أريدُ العودة إلى المنزل.”
على الرغم مِن أنها قضت بضعة أيام فقط هُناك، إلا أن المنزل بالنسبة لكورديليا لم يكُن قصر فاسكويز ولا قصر إبرامز، بل كان المنزل هو قصر أتيلي.
تنفس بعمقٍ قليلاً، ثم أمسك بكتفيها بإحكام وقال:
“حسنًا. لنذهب.”
كانت كورديليا أكثر أهميةً مِن غضبهِ تجاه فاسكويز. كبح ليونارد غضبهُ بصعوبة.
“آه!”
بعد بضعِ خطواتٍ، تعثرت كورديليا. لولا أن ليونارد كان يُمسك بكتفيها، لكانت قد سقطت على الفور.
“ما الأمر؟”
“أعتقد أنني لويّتُ كاحلي.”
بدأ الألم يتصاعد مِن طرف قدمها. كانت ترفع قدمها المُصابة وهي تعرّج. عندما رأى ليونارد ذَلك، عض شفتيه بشدة.
أنْ تُصاب في كاحلها بعد أنْ كانت ترقص بشكلٍ طبيعي يعني أنْ والدها هو مِن فعل ذَلك.
عاد الغضبُ الذي كان يكبتَهُ بصعوبةٍ ليطفو على السطح. كان يريدُ الركض وتدمير كاحل الرجل الذي فعل هَذا لها بشكلٍ وحشي.
لكن بدلاً مِن إطلاق غضبِه، ركع أمام كورديليا.
“مُعلمي!”
“أخرجي قدمكِ.”
صرخت كورديليا مُندهشة، لكن ليونارد لم يرَ أو يسمع شيئًا.
بعد تردد، مدت قدمها المُصابة بحذرٍ. أمسكَ ليونارد بكاحلها. لقد كان ساخنًا بسبب الالتواء.
“آه!”
“السحر ليس كُل شيء. إذا اعتمدتِ كثيرًا على السحر العلاجي، ستضعف قدرة جسدكِ على التعافي بشكلٍ الطبيعي.”
“…نعم.”
هدأ الألم في كاحلها مع وميضٍ قصيرٍ مِن الضوء، لكن كما هو الحال مع خدها، لم يُشفَ تمامًا.
ومع ذِلك، كان بإمكانها المشي بشكلٍ أفضل الآن، لذا ساعدها ليونارد على السير إلى الأمام بخطواتٍ مُتعثرة.
تنهد ليونارد قليلاً، ثم رفعها بسهولة.
“لَنْ ينفع ذَلك.”
“مُعلمي! ماذا لو رآنا أحدهم؟”
“أهَذا ما يشغلكِ الآن؟”
“أنزلني. يُمكنني المشي. أستطيعُ ذَلك.”
“اصمتي.”
بمُجرد أن خرجوا مِن الحديقة، كما كانت تخشى كورديليا، تركزت أنظار الناس عليهم. دفنت وجهها في صدره وتظاهرت بالإغماء، غيرُ قادرةٍ على مواجهة أنظارهم.
في تلك اللحظة، سمعت صوت خطواتٍ خفيفةٍ وصوت ليديا يقول:
“ليو! لقد كنتُ أبحثُ عنكَ… كورديليا؟”
“سنتحدثُ لاحقًا.”
“ما الذي حدثَ بالضبط؟ هل أغمي على كورديليا؟ هل هي مريضة؟ يجبُ أن نستدعي الطبيب فورًا…”
“ليديا إلفينباوم. ألم تسمعي عندما قلتُ سنتحدُث لاحقًا؟”
صوتهُ بدا باردًا وحادًا بشكلٍ مُفرط في أذني كورديليا. ويبدو أنْ ليديا قد شعرت بذَلك أيضًا.
في لحظةٍ ما، انخفض صوتُ ليديا.
“آسفة… أنا فقط قلقتُ على كورديليا.”
“أبتعدي.”
تجاوزها بدون أيِّ تفسير، مُتجهًا نحو البوابة الأمامية. الكثير مِن الناس شاهدوا ليونارد وهو يحملُ كورديليا، وبدأوا في الهمس بدهشةٍ، لكنهُ لَمْ يكترث إطلاقًا.
تعرف الخادم الواقف بالقرب مِن البوابة الرئيسية على وجه ليونارد وسارع بجلب عربة أتيلي.
فقط بعد أنْ استقرت كورديليا في العربة، تمكنت مِن فتح عينيها. فجأة سألها ليونارد الذي كان جالسًا مُقابلها:
“هل كان هَذا يحدثُ كثيرًا؟”
“عذرًا؟ ماذا تقصد؟”
“والدكِ. هل كان يضربكِ كثيرًا؟”
“….”
اسود وجه كورديليا. ظلّت تترددُ حول ما يجبُ أنْ تقوله، ثم نطقت أخيرًا بصعوبة.
“لم يكُن هَكذا منذُ البداية. لكن بعد وفاة والدتي وتدهورت حالتنا المالية بشكلٍ كبير، بدأ والدي في شُرب الكحول.”
في البداية، كان مُجرد توبيخٍ مُتكرر. لكن التوبيخ أصبح أكثر حدةً على نحوٍ مُتزايد، لدرجة أنهُ كان مِن الصعب على كورديليا الصغيرة تحمُله، وتحول إلى إهاناتٍ لفظية، ثم تطور الأمر إلى العنف الجسدي.
“كنتُ أعتقدُ أنهُ كان يُعاني بعد وفاة والدتي، وأنني إذا بذلتُ جهدًا أكبر وحاولتُ أكثر، ربما سيتغيّر.”
“اعتقدتِ؟”
“لكن يبدو أنني كنتُ مُخطئة. ازداد والدي في شرب الكحول، وبدأ يضربُني بسببٍ أو بدونه.”
لأنني عديمةُ الفائدة، لأنني أشبهُ والدتي، لأنني أزعجهُ، لأن حالته النفسية كانت سيئة، لأن السماء كانت ملبدةً بالغيوم.
ابتسمت كورديليا بسخرية ولمست خدها الذي كان لا يزال مُتورمًا قليلاً. كان الإحساس الحار لا يزال قائمًا.
“ربما السبب الذي جعلني أتحمل الإهانة في قصر إبرامز هو لأنني كنتُ مُعتادةً على تحمل والدي.”
في تلكَ اللحظة، مرّت الذكريات سريعًا برأس ليونارد.
كانت الإهانة التي تعرضت لها في قصر إبرامز صعبةً للغاية، لكن كورديليا تحملتها وكأنها مُعتادة.
في ذَلك الوقت، اعتقد أنهُ كان غباءًا منها أن تتحمل فقط، لكنهُ أدرك الآن أنها كانت مُعتادةً على تلكَ الإساءات مِن والدها.
“أنتِ…”
“نعم؟”
“لا، لا شيء.”
صرّ على أسنانه بقوة. إذا تحدث الآن، لم يكُن واثقًا مما قد يقوله.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة