أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 149
الفصل 149 : وداعًا يا أبنَتي ⁶
أدركت أنْ إظهار ذكريات والدتها قبل لحظاتٍ كان بمثابة لفتةٍ دافئة مِن سيرفيت. حاولت كورديليا جاهدةً الوصول إليّه.
لا تزال هُناك كلماتٌ لَمْ تقُلها له، وأسئلةٌ كثيرة تود طرحها. لَمْ تكُن مُستعدةً بعد لتقبًل وداعه.
لقد عرفتُكَ للتو.
“سيرفيت!”
لكن صرختُها تلاشت في الفراغ. لَمْ يستدر سيرفيت إلا بعد أنْ تأكد تمامًا مِن اختفاء كورديليا، ثم دخل في عُمق الغابة الكثيفة.
***
استعادت كورديليا وعيّها عند مدخل قريةٍ غريبة. كان أحدُ المسافرين المارين يُفتش جيوب امرأةٍ مُلقاةٍ بين الأشجار، مُعتقدًا أنها جثة، لكن التقت عينيها بعينيهِ فجأةً.
“آااااااه!”
صرخ الرجُل العجوز مذعورًا واندفع هاربًا، لكنهُ تعثر وسقط للخلف. يبدو بأنه ظن أنْ الجثة قد عادت للحياة.
لَمْ تكُن كورديليا في حالةٍ تسمحُ لها بالاهتمام بهِ. شعرت كأنها قد استيقظت مِن سُباتٍ طويل، جسدُها كله مُتيبس ومرهق. بدا الأمر وكأنها أصيبت بحُمى طويلة، فُكل عضلةٍ في جسدها كانت مُتألمةً وخائرة القوى.
أول ما ملأ عقلها كان صورةُ الشيطان الطيب، سيرفيت، الذي يملكُ عينيها ذاتيهما. مُجرد التفكير فيهِ جعل الدموع تتجمع في عينيها.
“لَمْ أتمكن حتى مِن شُكره.”
ضمت يديها، مُتذكرة دفء يدهِ حين أمسك بها آخر مرة. لَمْ تكُن تعلم إنْ كانت ستراهُ مُجددًا، لكن كلماتُه ستظل تدفعُها للمضي قدمًا كل يوم. شدّت قبضتيها ونهضت بثبات.
لَمْ تكُن تعرف أين هي، لكنها لَمْ تقلق. رفعت ذراعها اليُسرى وقبلت السوار حول معصمها، ثم فكرت في ليونارد، شعرهِ البلاتيني الجميل وعينيهِ البنفسجيتين الساحرتين. مُجرد تذكُر صورتهِ جعل قلبها ينبضُ بقوة.
“ليونارد.”
تمتمت باسمهِ وأغلقت عينيها.
وعندما فتحتها مُجددًا، لَمْ تكُن تقف على أرض باردة وموحلة، بل وسط حديقة. كانت الأزهار المُتفتحة تحت أشعة شمس الخريف تغمرُ المكان بألوانها.
في وسط الأزهار المُتطايرة، وقف ليونارد صامتًا، ينظرُ إلى السماء.
بدلاً مِن مُناداتهِ، اقتربت منهُ ببطء. وعندما وصلت إلى مسافةٍ قريبة، استدار ليونارد عند سماع صوت خطواتها، والتقت أعيُنهما.
توقعت أنْ يندفع نحوها فرحًا، لكنهُ، على العكس، تجمد في مكانهِ كفأرٍ يرى أفعى. ظلّ صامتًا حتى اقتربت منهُ تمامًا. لَمْ يقُل كلمةً واحدة، ما جعلها هي الأخرى لا تعرفُ ماذا تقول، فاكتفت بالرمش بخجل.
“لقد… عُدت.”
“……”
“لا، لا تُخبرني بأنكَ قد نسيتني بالفعل؟”
“هل… هل فقدتُ صوابي أخيرًا؟”
تمتم ليونارد وهو يُحدق بها.
تشجعت كورديليا واقتربت منهُ خطوةً أخرى. عندما نظرت عن كثب، أدركت أنْ وجههُ أصبح أكثر نحولًا مُقارنةً بآخر مرةٍ رأتهُ فيها. أحزنها ذَلك.
لَمْ تكَن تعرف كم مِن الوقت قد مر منذُ أنْ اختفت، لكنه بالتأكيد كان يعتقدُ بأنها ماتت، فلا بد أنهُ عانى كثيرًا.
“لماذا تعتقدُ ذَلك؟”
“لأنني أرى هلاوسًا، وأسمعُ أصواتًا أيضًا.”
“هَذهِ ليست هلوسةً، إنها الحقيقة. أنا كوردليا فاسكويز. تلميذتُكَ.”
أمسكت بيدهِ بحذرٍ ووضعتها على خدها. كانت يدُه الكبيرة تُغطي وجهها بالكامل.
“قُلتَ بإنكَ لَن تُسامحني إذا تركتُكَ وحدكَ. لذَلك، عًدت.”
“…هل… هل هَذهِ حقًا… أنتِ؟ كورديليا؟”
“نعم. لكن لماذا أصبح وجهُكَ بهَذا السوء؟ ليونارد، لا يوجد شيءٌ فيكَ يستحقُ النظر إليّهِ سوى وجهُكَ، وأنتَ قد أفسدته.”
قالت ذَلك مازحةً، محاولةً تخفيف التوتر الثقيل. لكنها لَمْ تكُن تتوقع أنْ تسقُط دمعةٌ مِن عين ليونارد فجأةً.
لَمْ يخطُر لها أبدًا أنها قد ترى دموعهُ هُنا، فارتبكت تمامًا.
“أ-أوه، انتظر. أنا… المناديل!”
بحثت في جيوبها بسرعةٍ، لكن لَمْ يكُن هُناك مناديلٌ بالطبع.
سقطت دموعهُ على الأرض، لتُبلل التربة تحت قدميهِ. الرجُل الذي كان دائمًا مُتعجرفًا واثقًا مٍن نفسهِ بدا هشًا للغاية، مِما جعلها تشعرُ بمزيد مِن الأسى عليه.
“حتى لو كان هَذا مُجرد حُلم، لا بأس. طالما يُمكنني رؤيتُكِ مرةً أخرى.”
“لقد اخبرتُكَ بأنْ هذا ليس حُلمًا. لماذا لا تُصدقني؟”
بدا أنهُ مُقتنعٌ تمامًا بأنها مُجرد هلوسة. فكرت في طريقةٍ لجعلهُ يصدق، ثم خطرت لها فكرةٌ جيدة.
وقفت على أطراف أصابعها، وضعت يديها على كتفيه، ثم طبعت قبلةً خفيفةً على وجنتهِ البيضاء الشاحبة. كان طعمُها مالحًا بسبب دموعه.
“عندما تم حبسي مع نازازبوت، كان سيرفيت في داخلي. لقد ضحّى بنفسهِ ليُخرجني مِن الختم.”
“…..”
“لذا، صدقني. أنا لستُ وهمًا، ولا حُلمًا.”
ثم وقفت على أطراف أصابعها مُجددًا وطبعَت قبلةً على وجنتهِ الأخرى. في العادة، لَمْ تكُن لتجرؤ أبدًا على فعل ذَلك، لكن في هَذهِ اللحظة، كانت مُستعدةً لفعل أيِّ شيء مِن أجله.
“أه…”
فجأةً، جذبها ليونارد نحوهُ بقوةٍ، واحتضنها بشدة، ثم طبع قبلةً على شفتيها.
فوجئت تمامًا بهَذا الفعل، وارتبكت، فَحاولت التملُص، لكنه، رُبما لاعتقادهِ أنها تُحاول صده، أصبح أكثر شراسةً.
كان تعبير “لَمْ تستطع الحراك قيد أنملة” هو الأكثر ملاءمةً لهَذهِ اللحظة. لَمْ تستطع كورديليا الإفلات مِن بين ذراعيهِ، مِشن رأسها حتى قدميها.
لَمْ تكُن كورديليا مُتمرسة في التقبيل بعد، لذا لَمْ تكُن تعرف كيف تتنفس بشكلٍ صحيح، فأخذت تضربُ كتف ليونارد بعُنف.
“انتظر، أحتاج، هاا، لاستعادة، أنفاسي.”
دفعت ليونارد بكُل ما أوتيت مِن قوة لتبتعد عنه، ثم أخذت تتنفسُ بعُمق محاولةً التقاط أنفاسها.
أما ليونارد، فَظل يتلمسُها بيديهِ المُرتجفتين، وكأنما يُحاول التأكد مِن أنها حقيقية. شعرت كورديليا بالخجل عندما لامست يداه بشرتها العارية، واحمرّ وجهها خجلًا.
عندما بدأت يدُه تتجهُ إلى صدرها، ضربتها بسرعةٍ وقالت بحدة:
“مهلًا! ماذا تفعل في وضح النهار؟!”
“أنتِ حقيقية؟”
“إلى متى ستظل تُكرر ذَلك؟ بالمُناسبة، أين نحن؟ لا يبدو هَذا المكان وكأنهُ منزل أتيلي.”
“إذًا، هَذا ليس حلمًا؟”
كان كلٌ منهما يتحدثُ بما يريد دوّن الاستماع إلى الآخر.
بدأت نظراتُ ليونارد الضبابية تتضحُ شيئًا فَشيئًا، وكأنهُ استوعب أخيرًا أن ما فعلهُ للتو، مِن احتضان وتقبيل، لَمْ يكُن وهمًا.
عندها، ضم كورديليا إليّهِ مرةً أخرى، لكنها هَذهِ المرة لَمْ تُقاوم، بل استسلمت لعناقه.
ظل يُربت على شعرها بلا توقف، مُتمتمًا بكلماتٍ غيرِ مترابطة.
“كنت أعتقدُ بأنكِ متِ. في ذَلك اليوم، عندما اختفيتِ مع نازازبوت… الجميع كانوا يُمجدونكِ باعتباركِ قديسةً عظيمة أنقذت العالم، لكن… كنتُ أتمنى لو أنْ هَذا قد العالم انهار.”
لَمْ تسأله كورديليا عن السبب، بل اكتفت بدفن وجهها في صدرهِ. كان نبضُه غيرَ مُنتظمٍ.
“كل شيء، الماء، السُحب… كل شيء بدا وكأنهُ باقٍ بتضحيتكِ، لذُلك شعرت بالذنب لمُجرد أنني ما زلت على قيد الحياة.”
“……”
“فكرتُ في إنهاء حياتي، لكنني لَمْ أستطع، لأنني لَمْ أكُن متأكدًا مِما حدث لكِ.”
“لا تقُل مثل هَذهِ الأمور. لقد اتخذتُ ذَلك القرار لأنني أردتُكَ أنْ تعيش.”
رفعت كورديليا وجهها لتنظر إلى وجههِ الهزيل. كان ليونارد ينظر إليّها بوجهٍ مشوه، لَمْ يكُن يبتسم ولا يبكي، بل كان خليطًا بين الاثنين. ثم، وببطء شديد، رفع يدهُ ولمس خدها بلطف.
“في المرة القادمة، اقتليني قبل أنْ ترحلي.”
“ماذا تقصد…؟”
“لا يُمكنني تحمل ذَلك مرةً أخرى. لا أستطيع… كنتُ أظُن بأنني قوي، لكنني لَمْ أكُن كذَلك. عندما حاولتُ التنفس في عالمٍ لا وجود لكِ فيهِ، لَمْ أكُن أعرف حتى كيف أفعلُ ذَلك، فَتعثرتُ مرارًا وتكرارًا…”
عندها فقط أدركت كورديليا مدى الجُرح الذي خلفهُ قرارها في قلب ليونارد.
لطالما ظنت بأنه قوي، كشجرةٍ قديمةّ راسخة، وأنهُ سيتجاوز الأمر. لكن الجِراح، حتى وإنْ التأمت بمرور الزمن، تظلّ ندوبها تؤلمه طوال حياته.
“أنا آسفة، أنا آسفة.”
طوقت ذراعيها حول ظهرهِ وعانقته بقوةٍ، طالبةً منهُ السماح. لَمْ يكُن هُناك شيء آخر يُمكنها فعله.
حتى لو كان ليونارد هو مَن اتخذ مثل هَذا القرار، كانت ستشعرُ تمامًا بما يشعرُ بهِ الآن. لَمْ يكُن لديها وقتٌ للتفكير في مَن سيبقى بعد رحيلها، فقد كانت مهووسةً فقط بإيقاف نازازبوت.
“لقد نشأتُ دوّن أنْ ينقُصني شيء. لهَذا كنتُ أحصل على ما أريد بسهولةٍ، ولأنني كنتُ ذكيًا، تمكنتُ مِن فعل كل ما أرغبُ فيهِ دوّن عوائق. كان أصعبُ شيءٍ واجهتُه في حياتي هو محاولة ماكسيميليان لقتلي، لكن حتى ذَلك كان بمثابة مزحةٍ بالنسبة لي.”
ثم انحنى وقبّل جبهتها وجسر أنفها برقة، كما لو أنْ فراشةً قد حطت عليهما.
“لكن معكِ، الأمر مُختلف. أنتِ صعبةٌ جدًا. لا أعرف كيف أتعامل معكِ. أحبُكِ، لكن أحيانًا أشعرُ بالخوف مِن هِذا الحُب.”
“ليونارد.”
رأت كورديليا الألم العالق في عينيهِ البنفسجيتين، وأدركت أنْ مُجرد الاعتذار لا يكفي.
“قد لا تُصدقني، لكنني لَن أرحل وأترككَ مُجددًا. سأبقى بجانبكَ حتى يشيبَ شعري وأصبحَ جدةً. وعندما تموت، سأقيّمُ جنازةً مِن أجلك، ثم آتي مع أحفادنا إلى قبركَ لأزورك.”
“أنا مَن سيموتُ أولًا؟”
ضحك ليونارد لأول مرةٍ، رغم أنْ ابتسامتهُ كانت باهتةً. لكنها كانت كافية. شدت كورديليا على ذراعه وقالت بحزم:
“لَن أدعك تُعاني مِن هَذا الألم مرتين. أعدُك، وأضعُ كل شيء على المحك.”
“……”
“سأدرسُ السحر بجدٍ أكبر حتى لا يتمكن أحدٌ مِن إيذائي، وسأكون حذرةً في تناول طعامي، وأمارس الرياضة بانتظام حتى لا أمرض.”
“……”
“سأظلُ بجانبكَ طوال حياتي، لذا، هل يُمكنكَ أنْ تثق بي لمرةٍ واحدةٍ فقط؟”
ظل ليونارد صامتًا. ساد بينهما هدوءٌ طويل.
استغرق الأمر وقتًا كافيًا حتى يبرد الشاي الساخن، قبل أنْ يفتح ليونارد فمهُ أخيرًا.
“ماذا لو تكرر الأمر؟ لو أخبروكِ مرةً أخرى إنْ تضحيتُكِ ستُنقذ الجميع، فَماذا ستختارين؟”
“بما أنني فعلتُ ذَلك مرةً، أعتقدُ أنْ الوقت قد حان ليقوم شخصٌ آخر بإنقاذ العالم.”
أجابت كورديليا على الفور، مُحدقةً في عينيهِ بثبات. عندها، نقر ليونارد على جبهتها بخفة.
“تقولين ذَلك بسهولةٍ. لكن إذا أتى الناس متوسلين إليكِ وهم يبكون، ألا تظُنين أنكِ ستضعُفين وتفعليها مُجددًا؟”
“لا. في الواقع، عندما واصلتُ استخدام السحر رغم معرفتي بأنني سأُحبس مع نازازبوت، لْمْ يكُن ذَلك فقط لإنقاذ العالم… كنتُ أرغب في إثبات أنني ذاتُ قيمة.”
أخيرًا، كشفت كورديليا عن أعمق ما في داخلها، ذَلك الجانب المُخجل الذي لَمْ تجرؤ على البوح بهِ لأيِّ شخصٍ. لكنها أمام ليونارد، لَمْ تعد تخشى أنْ تكون صادقة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿