أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 125
الفصل 125 : حياتي الأولى والأخيرة ⁶
على الرغم مِن أنْ سيد قلعة إيمبلي قد سقط وهو يُصارع الموت، إلا أنْ حياة الناس قد استمرت كالمُعتاد. ورغم الأجواء المُضطربة إلى حدٍ ما، قام الجنود منذُ الصباح الباكر بنقل الحجارة لإصلاح القلعة المُدمرة، بينما قام الطباخ بتحضير وجبةٍ بكل عناية.
كان ليونارد جالسًا على رأس طاولة الطعام، لكنهُ لَمْ يُلقِ بالًا لأيٍّ مِن الأطعمة الموضوعة أمامه. رفع الملعقة عدة مراتٍ، لكنها كانت تنتهي بتوجيهها نحو الفراغ دوّن هدف. عندها، قالت كورديليا وهي تتناول حساء اليقطين الساخن،
“تناول شيئًا. لَمْ تأكل شيئًا منذُ البارحة.”
“كورديليا.”
“نعم.”
نادى باسمها فقط، لكنهُ ظل صامتًا لفترةٍ طويلةٍ بعد ذَلك. في الحقيقة، لَمْ يكُن يعلم ماذا يقول.
أطلق ليونارد تنهيدةً طويلةً ومؤلمة، ثم بدأ بتناول الطعام الذي اقترحتهُ عليه. لكن، بغض النظر عن نوع الطعام الذي يضعهُ في فمهِ، كان طعمهُ كالرمل. تناول الطعام دوّن اكتراث، وكأنهُ فقط يملأ معدته بلا أيِّ إحساسٍ بالطعم أو الرائحة.
انتهت الوجبة بصمت. في النهاية، لَمْ يأكل ليونارد سوى نصف ما يأكُله عادةً، ووضع الملعقة جانبًا. على العكس مِن ذَلك، أنهت كورديليا وجبتها بالكامل، تاركةً الطبق نظيفًا تمامًا.
“آه، لذيذ. طباخُ قلعة إيمبلي ماهرٌ حقًا، لا يقلُ شأنًا عن الذي في أتيلي.”
بعد أنْ مسحت شفتيها بمنديلٍ، وقفت كورديليا مِن مكانها.
“هل انتهيت مِن تناول الطعام؟”
“نعم.”
“إذاً، هل نتمشى قليلاً؟ رغم أنْ الأزهار قد ذبُلت، فإنْ الحديقة ما زالت رائعة.”
بالرغم مِن أنْ إقامتها في قلعة إيمبلي لَمْ تتجاوز بضعة أيام، إلا أنْ كورديليا قادت ليونارد بخبرةٍ، وكأنها صاحبةُ المكان.
كانت ليلة الصيف رطبةً وباردة. ليونارد شعر بعدم الارتياح. الملابس التي التصقت بجسدهِ، وضحكةُ كورديليا التي بدت بلا مُبالاة، وحتى شعورهُ بالعجز عن فعل أيِّ شيء – كل ذَلك أثقل صدرهُ.
منذُ سقوط أنطون نتيجة هجوم ماكسميليان، فعل ليونارد كل ما في وسعهِ، ولكن إنقاذ حياتهِ كان كل ما استطاع تحقيقه. حتى الطبيب العجوز الذي قلعة إيمبلي ألقى نظرةً على حالة أنطون وهزَّ رأسهُ مُستسلمًا.
لكن ليونارد لَمْ يستسلم. كان يُفتش مكتبهُ بعزمٍ، مُتشبثًا بأمل العثور على الترياق الذي قد يكون ماكسيميليان قد خبأهُ في مكانٍ ما.
“ليست سيئة.”
“ماذا قلتِ؟”
بينما كان يمشي دوّن انتباه، أدرك مُتأخرًا أنْ كورديليا قالت شيئًا.
“حياتي، أقصد. ليست سيئةً إلى هَذا الحد.”
“ليست سيئة؟ إنها رائعةٌ للغاية.”
“هاهاها، صحيح، فأنا كنتُ تلميذة أتيلي.”
كنتُ تلميذة أتيلي، في زمن الماضي. لماذا تستخدمُ صيغة الماضي؟
أراد ليونارد التعليق على كلامها، لكنهُ كبح نفسهُ. توقفت كورديليا أمام فناءٍ صغيرٍ مزين بعناية. جلست أولاً، ثم أشارت إلى المكان بجانبها.
جلس ليونارد بجانبها، محاولاً التصرف وكأن لا شيء يحدُث. مِن شعرها تصاعدت رائحةٌ خفيفةٌ للورد. أخذ ليونارد نفسًا عميقًا، وكأنهُ يحاول الاحتفاظ بالرائحة.
“مُعلمي.”
“ماذا؟”
“الجو جميلٌ الليلة.”
مُجرد كلماتٍ عادية، لكنها أثقلت قلبهُ فجأةً. أمسك ليونارد صدرهِ، وكأن أحدهُم يعصرُ قلبهُ بلا رحمةٍ. فتحت كورديليا فمها وتحدثت بهدوء:
“إذا مُت، ادفن جسدي في ويلآس.”
“…….”
“لا أريدُ العودة إلى فاسكويز. لا أريدُ ذَلك المكان البارد والمُظلم. وأكره أبرامز أكثرًا. كانت العاصمة مكانًا جيدًا، لكنني ما زلتُ أحبُ ويلآس حيثُ كانت جمعية السحرة.”
تذكرت كورديليا أول مرةٍ أبحرت فيها إلى ويلآس. قد مرت شهورٌ، لكن المشهد لا يزال حاضرًا في ذهنِها كأنهُ قد حدث بالأمس. الأفق الذي لا نهاية لهُ، الرائحة المالحة التي تملأ أنفها، والبحر المُظلم والعميق الذي استقر في قلبها.
“سيكون رائعًا لو كان المكان قريبًا مِن البحر.”
بينما كانت تنظر إلى الأفق البعيد، تحدثت كورديليا بصوتٍ مُنخفض. ثم أدارت رأسها نحو ليونارد، وشعرت بالدهشة.
“مُعلمي…….”
كانت زوايا عيني ليونارد رطبة. لَمْ تتخيل كورديليا أنْ يبكي، وشعرت بارتباك كبير. لَمْ تعرف ماذا تفعل، فمدت يدها بحذرٍ لتلمس خدهُ.
وضع ليونارد يدهُ فوق يدها، وكانت يدهُ حارةً وكأنها ستحرقُها.
“أنا آسف.”
“لماذا تعتذر، مُعلمي؟”
“لو لَمْ اخذك مِن أبرامز، لو لَمْ أقبلكِ كـ تلميذةٍ، لما كنتِ هدفًا لماكسميليان. أيضًا….”
كان مِن الصعب تعدادُ جميع أفعالهِ السابقة التي انتهت بالندم.
قرب ليونارد جبينهُ مِن جبينها وهمس:
“لو لَمْ أجعلكِ تلميذتي الوحيدة. لو لَمْ أظهر لكِ الاهتمام. لو كنتُ قد تخلصتُ مِن ماكسيميليان منذُ البداية، لكان الوضع مُختلفًا.”
رغم علمهِ بعدم جدوى التفكير في الاحتمالات، إلا أنْ الندم استمر في غمرهِ بلا رحمة.
كورديليا، التي شعرت بالارتباك لرؤية جانبهِ الضعيف للمرة الأولى، سحبت يدها مِن على خده وقالت وهي تشهُق:
“لا تقُل أشياء مروعةً كهَذهِ. البقاء بجانبكَ والموت معك أفضلُ مِن العيش في ذَلك الجحيم في أبرامز.”
لكن كلماتُها أغضبت ليونارد فجأةً، فرفعَ صوتهُ قائلاً:
“مَن قال بإنكِ ستموتين؟ سأجدُ طريقةً لإنقاذكِ مهما كان الثمن. يبدو بأنكِ لا تعرفين كم أنا قوي. أنا أقوى ساحرٍ في إيرشيه. أصبحتُ سيد السحرة في سن الثامنة عشرة. كما أنني دوق أتيلي، فكيف لي ألا أتمكن مِن إنقاذ تلميذتي الوحيدة؟”
“أجل، مُعلمي عظيمٌ حقًا.”
كانت عيناهُ البنفسجيتان لا تزالان مُبتلتين، لذا لَمْ تبدُ نوبة غضبهِ مُخيفةً جدًا. اكتفت كورديليا بالابتسام.
“أنا أفتشُ غرفة الدوق إيمبلي بأكملها. لقد علم بمجيئي، ويعرفُ أنكِ قد تناولت السم منذُ عشرة أيامٍ تقريبًا، لذا بالتأكيد كان قد أعد الترياق.”
وماذا بعد؟
حتى لو تجاوزنا هَذهِ المرحلة بسلام، فَماذا بعد؟
وصلت هَذهِ الكلمات إلى طرف لسان كورديليا، لكنها كتمتها. إنْ لَمْ يستيقظ أنطون بأعجوبةٍ، فإنْ حقيقة أنْ لحياة كورديليا مدةٌ محددةٌ لَن تتغيّر.
لَمْ تستطع كورديليا نسيان الابتسامة المليئة بالرضا التي رسمها ماكسيميليان على وجههِ عندما طعن أنطون.
في البداية، لَمْ تُصدق الأمر. رغم أنها تخيلت النهاية مِن قبل، إلا أنها لَمْ تتوقعها بِهَذهِ الطريقة.
تملكها الاستياء مِن العالم، ثم اجتاحها حزنٌ جارفٌ ضربَ جسدها كالأمواج، وفي النهاية استسلمت.
“سيكون كُل شيءٍ بخير.”
“……”
“كُل شيء. سأظلُ بجانبكِ حتى النهاية مهما حدث.”
مد ليونارد ذراعيهِ ليحتضنَ كورديليا بقوةٍ. رغم أنها عانقتهُ عدة مراتٍ مِن قبل، إلا أنْ هَذا العناق كان مًختلفًا قليلًا.
كانت إحدى يديهِ تضغطُ على ظهرِها، بينما الأخرى تمًسك برأسها بقوةٍ. كان يحتضنُها بشدةٍ حتى أنْ أنفاسها أصبحت ثقيلة، لكنهُ كان ينقلُ مشاعره العميقة بوضوح. وضعت كورديليا رأسها على كتفهِ بصمت.
“سأنقذُ الدوق إيمبلي، وسأجدُ الترياق، وسأكتشفُ طريقةً لإبطال مفعول ذَلك السم البغيض تمامًا.”
بدا أنْ هَذهِ الكلمات لَمْ تكُن موجهةً لها بقدر ما كانت وعدًا يقطعهُ ليونارد لنفسه.
حتى وإنْ كانت هَذهِ الكلمات كاذبة، لَمْ تهتم كورديليا. بدلاً مِن أنْ تسألهُ إنْ كان ما يقولهُ حقيقيًا، أحاطت ليونارد بذراعيها.
“لذا لا تقلقي بشأن أيِّ شيء. سأحميكِ.”
ظل يُردد هَذهِ الكلمات بهدوء. شعرت كورديليا بالطُمأنينة مِن خلال يأسهِ الواضح وحنانهِ العميق الذي كان يُنقل عبرَ أطراف أصابعهِ.
في مرحلةٍ ما، أصبحت أحضانُ ليونارد مألوفةً جدًا بالنسبة لها. عندما تنظرُ إلى عينيهِ البنفسجيتين، يُساورها شعورٌ غريبٌ بالاضطراب. أحيانًا ينبضُ قلبها وكأنهُ سمكةٌ قد خرجت للتو مِن الماء، وأحيانًا أخرى تشعرُ بالخوف وكأنها تقفُ وحدها في مقبرةٍ مُظلمةٍ في منتصف الليل.
لَمْ يكُن صعبًا معرفةُ اسم هَذا الشعور الغريب وغيرُ المألوف. لكنها فقط لَمْ تستطع الاعتراف بهِ. كانت تُنكرهُ بكل قوتها. رُبما بسبب كبريائها الفارغ، لأنها كانت تشعرُ أنْ حالتها البائسة لا تسمحُ لها بأنْ تعطي قلبها بالكامل بينما هي لا تملكُ شيئًا آخر.
“بصراحةٍ، أنا…”
حاولت كورديليا أنْ تَستجمع شجاعتها لتُفصح عن مشاعرها، لكنها فجأةً فكرت.
ما الذي سيتغيّر إذا أخبرتُه بمشاعري الآن؟
“ماذا؟”
إنْ كنا على وشك الفراق على أيِّ حال، رُبما مِن الأفضل ألا أعمّق العلاقة أكثر. بدلًا مِن أنْ أترك لهُ عبئًا إضافيًا، مِن الأفضل أنْ أكون مُجرد تلميذةٍ مُشاكسة مرت في حياتهِ.
“لا شيء. أردتُ فقط أنْ أشكركَ على كل شيء.”
أصر ليونارد على مرافقتها إلى غرفتها، لكنها رفضت. أرادت أنْ تمشي وحدها. كان الظلام قد بدأ يحل، وكان الخدم يُشعلون المصابيح على طول الممرات.
وقفت كورديليا في الرواق، تنظرُ إلى الأفق حيثُ كانت الشمس تغرب. كان اليوم يمرُ بسرعةٍ كبيرة. لَمْ يكُن لديها الوقت لتوديع الجميع بعد.
وكأنْ أحدهم أدرك شعورها، ظهرَ بيلوتشي فجأةً. اقتربت منهُ كورديليا، ورحبت بهِ بابتسامةٍ مُشرقة.
“بيلوتشي! أين كنتَ طوال اليوم؟ كدتُ أفقد فرصة توديعكَ.”
“توديعي؟”
“أخيرًا، يُمكنكَ استعادةُ هَذا السوار، جوهرة إيفرارد.”
“……”
“لَمْ أستخدمهً إلا مرةً واحدة. أليس هَذا رائعًا؟”
“……”
“عليكَ أنْ تَحضُر جنازتي، هَذا أمرٌ مؤكد.”
“لا أريد.”
“هَذا قاسٍ جدًا. لقد قضينا وقتًا معًا.”
بينما كان بيلوتشي ينظرُ إليّها بلا تعبير، فتحَ فمهُ لأول مرة ليقول:
“سيدي سيجدُ حلاً بالتأكيد.”
“أبلغ بارون تحياتي، أعني… شُكري. أشكرهُ على كل شيء.”
غيرت كلماتها لأنها لَمْ تجد شيئًا آخر لتقوله. ظل بيلوتشي ينظرُ إليّها بنظرةٍ صارمةٍ وقال:
“ألا تثقين بسيدي؟”
“وأيضًا، مَن غيرُه؟ آه، خادمُ قلعة أتيلي، ولا تنسَ ليلي و…”
“حين يتحدثُ أحدهم، مِن اللائق الرد عليه.”
“لكنكَ لَمْ تستمع لما أقول أيضًا.”
ابتسمت كورديليا وهي تتحدث، بينما كان بيلوتشي يضغطُ شفتيهِ بشدةٍ.
“ألا تثقين بسيدي؟”
“أثقُ به. أكثر مِن أيِّ شخصٍ آخر في هَذا العالم.”
“……”
“بيلوتشي، شكرًا لكَ على كل شيء. سأغفرُ لكَ لأنكَ كنتَ قاسيًا معي في البداية. لذا… وداعًا.”
انحنت كورديليا برشاقةٍ لتوديع بيلوتشي.
سمعت صوتهُ يناديها مِن الخلف بصوتٍ عاجل، لكنها لَمْ تلتفت. حاولت أنْ تتصرف بشجاعٍة أمام ليونارد وبيلوتشي، لكنها شعرت بأنها ستنهار إنْ استمرت في الحديث.
“أههه.”
رمت نفسها على السرير وغطت وجهها بالبطانية، وبدأت في البكاء بصوتٍ عالٍ. انهارت جميعُ مشاعرها التي كانت تحبسُها طوال اليوم.
لماذا يجبُ أنْ أموت؟ لماذا أنا؟ بالكاد مضى عامٌ منذُ أنْ هربتُ مِن ذَلك الجحيم في أبرامز.
حاولت كورديليا أنْ تكون قويةً لتجنُب إثارة قلق ليونارد، لكنها لَمْ تستطع التحمل أكثر.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليجرام》