أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 124
الفصل 124 : حياتي الأولى والأخيرة ⁵
“أنا… أنا بخير.”
نهضت كورديليا بِمُساعدة ليونارد. لَمْ تكًن هُناك إصاباتٌ جسدية، لكن كلماتُ ماكسيميليان قد ضربت روحها بلا هوادةٍ، واحدةً تلو الأخرى.
‘أنتِ ابنةُ شيطان! وحشٌ يحملُ دماء الشيطان!’
كانت تلكَ الجُملة بالذات عالقةً في قلبها، لا تُفارق ذهنها. ضغطت دوّن وعيّ على ذراع ليونارد الذي شعر بذَلك ونظر إليّها.
“أنا هُنا. لَن يَمُسّكِ أحدٌ بسوءٍ بعد الآن.”
“… شكرًا لكَ.”
رُبما ظن أنها خائفة. تراجعت كورديليا بابتسامةٍ مُتكلفةٍ خلف ليونارد.
“أخي. أخيرًا قد ألتقينا. كيفَ حالًكَ؟”
“بخير. مضى وقتٌ طويل.”
كان حديثُ الأخوين عاديًا، لا يوحي بأنْ أحدهُما تحول إلى شيءٍ غيرِ بشري والآخر جاء لقتلهِ.
كان الحاضرون يحيطون بهُما بصمت، بينما تقدم ليونارد بخطى ثابتةٍ نحو ماكسيميليان.
“يبدو أنكَ قد بعتَ روحكَ للشيطان.”
“نعم، كنتُ مُصابًا بشدة، ولَمْ يكُن لديّ خيارٌ سوى هَذا للبقاء على قيد الحياة.”
قام ماكسيميليان بصعوبةٍ بفرد ظهرهِ المًنحني وخلع العباءة التي كان يرتديها. رأت كورديليا ذَلك المشهد دوّن وعيّ، وضغطت على فمها لتكتُم شهقتها.
كان بطنهُ مُتآكلاً بالكامل تقريبًا. أحشاؤهُ بدت وكأنْ الحشرات التهمتها، ولَمْ يتبقَ منها سوى القليل، وحتى أضلاعُه كانت مكشوفةَ مِن أماكن عدة.
كان مِن المُدهش بأنهُ لا يزال يتحرك، لدرجة أنْ الفرسان القريبين أداروا رؤوسهم مِن الاشمئزاز. لكن ليونارد، الذي كان يُراقب عن كثب، لَمْ يُبدِ أيَّ رد فعل.
“كنتَ تنتظرني.”
“نعم، كنتُ بانتظاركَ. لا يُمكنكَ أنْ تتصور كم كنتُ أتمنى أنْ تأتي لأجل تلميذتكَ اللعينة تلكَ.”
“ومع ذَلك، كنتَ تهربُ كالفأر المذعور.”
“هاهاها. كنتُ بحاجةٍ لبعض الوقت للاستعداد.”
عند انتهاء كلماته، انحنى ماكسيميليان فجأةً. بدأت عضلاتُه تنتفخ، وجسدُه يتضخم تدريجيًا.
أطرافُه الجانبية أصبحت أكثر سُمكًا وقوةً. ذراعاهُ أصبحتا حادتين وساقاه غطاهما غلافُ أسود لامع. حتى أنيابُه طالت إلى حد أنها لامست فكهُ السفلي.
على عكس شكلهِ السابق، الذي كان يحتفظُ ببعض ملامح الإنسان، لَمْ يعُد بإمكان أحدٍ أنْ يعتبرهُ بشريًا.
“ما هَذا الشيء بحق الجحيم؟”
تراجع أحد الجنود القريبين مِن الخوف، بينما بدأ الآخرون بالتراجع خطوةً خطوة. أما ليونارد، فبدلاً مِن التراجع، تقدم إلى الأمام. بدت طاقة سحرية تتقلبُ بين يديهِ.
“فَلنُنهي هَذا هُنا.”
فتحَ ليونارد كفيهِ، وخرج ثُعبانٌ أبيضٌ ضخم مِن عند قدميهِ مُتجهًا نحو ماكسيميليان بفمٍ مفتوح. انطلق ماكسيميليان نحوهُ بيديهِ الحادتين.
كان الاصطدام بينهما عنيفًا بشكلٍ غيرِ متوقع. اهتزّت الأرض وانهارت الجُدران الحجرية.
تراجع الناس خائفين، بينما وقفت جَسيل وبيلوتشي أمام كورديليا بوجوهٍ مُتوترة.
الثُعبان الذي استدعاهُ ليونارد لفَّ ماكسيميليان وأحكمَ قبضته عليهِ. مع صوت طقطقةٍ، بدأت قشرة ماكسيميليان تتشقق.
“أ-أ… أخي… أخي.”
“كان يجب أنْ أقتلكَ في أراضي ديلوانا.”
“ه-ها… هل أنتَ نادم؟”
“رُبما، قليلاً.”
“وأنا أيضًا… نادم.”
بذل ماكسيميليان كل قوتهِ. تدفقت طاقةٌ سوداء، مِما مزق الثًعبان الأبيض إلى أشلاء. عقد ليونارد حاجبيهِ.
“أندمُ على أنني لَمْ أتأكد مِن قتلكَ في ذَلك الحين. كنتُ سعيدًا جدًا خلال الشهرين اللذين قضيتَهُما بعيدًا عني.”
“إذاً، ستموتُ اليوم وحيدًا، وستكون سعيدًا في الجحيم. أوه، لحظة. بعتَ روحكَ للشيطان، أليس كذَلك؟ هِذا يعني بأنكَ ستتلاشى ولَن ترى حتى عتبة الجحيم.”
“ها.”
ارتعشت أنيابُ ماكسيميليان. بِمُجرد أنْ اختفى الثُعبان الذي كان يُقيّده، انقض مرةً أخرى على ليونارد. تحركت أطرافُه الستة بشكلٍ عشوائي ومُخيف. واحدةً منها لامست جسد ليونارد لكنها لَمْ تًسبب لهُ أيَّ أذى.
“مُت!”
حاول ماكسيميليان ضربهُ مرةً أخرى، لكن ليونارد تفادى الهجمات بسهولة. أحيانًا، كان يخلقُ رمحًا ضخمًا ويغرزهُ في جسد ماكسيميليان. بدا القتال مُتكافئًا في البداية، لكن سرعان ما أصبح واضحًا أنْ ليونارد لهُ اليدُ العليا.
“الدوق أتيلي ليس بشريًا. كيف يستطيعُ التحكم بكل هَذهِ القوة بِهَذهِ السهولة؟”
قال أنطون، وهو يُشاهد المعركة مِن الخلف.
“هَذهِ هي نهاية مصيرُنا المُعقد، أنتَ وأنا.”
تدفقت طاقةٌ سحريةٌ ضخمة حول ليونارد، أقوى بكثيرٍ مِن تلكَ التي استخدمها لاستدعاء الثُعبان الأبيض. خلفهُ، تشكلت عشرات، بل مئاتٌ مِن القطع الجليدية.
تحركت هَذهِ القطع بسرعةٍ مُذهلة تبعًا لإشارةٍ مِن يدهِ، كانت سرعتُها كبيرةً لدرجة أنْ تعقُبها بالعين كان شُبه مستحيل.
“آآاااااااااه!”
أحاطت القطع الجليدية بِماكسيميليان، ثم بدأت تخترقُ جسدهُ. سرعان ما بدأت قشرتُه الصلبة تتحطم إلى قطعٍ صغيرة.
ماكسيميليان كان يتلوى ألمًا ويضربُ الأرض بعنفٍ، ما تسبب في تصدُعِها.
شدد جَسيل حاجبيهِ وتحدث إلى كورديليا.
“علينا أنْ نخرُج مِن هُنا، فقط للاحتياط…”
“آآاااااااه!”
صرخ ماكسيميليان، ثم رفعَ رأسهُ فجأةً ونظر إلى كورديليا. رُغم المسافة، شعرت بنظراتهِ تتسللُ إليّها.
“ما هَذا؟”
شعرت كورديليا بخطرٍ يُحدق بها مِن تلكَ النظرة، فبادرت بإقامة حاجزٍ دفاعي.
وفي تلكَ اللحظة، تدفقت مِن جسد ماكسيميليان طاقةٌ سوداء بانفجارٍ مُفاجئ، كانت كفيلةً بإسقاط ليونارد كما فعلت ببلوتشي. كان التأثيرُ هائلًا لدرجة أنْ ليونارد ترنح وسقط على إحدى ركبتيهِ.
رغم أنْ الفرصة كانت مواتية، إلا أنْ ماكسيميليان لَمْ يُهاجم ليونارد، بل استدار بدلًا مِن ذَلك باتجاه كورديليا.
“أوقفوه!”
صرخ جَسيل بصوتٍ مذعور، وأمسك بيلوتشي سيفهِ وانطلق ليعترض طريق ماكسيميليان. أما كورديليا، فشدّت قبضتها على حاجزها الدفاعي، مُحاولةً جعلهُ أقوى.
“قلتَ إنْ حياتكَ كانت عذابًا.”
قال ماكسيميليان بنبرةٍ وكأنهُ يتلذذُ بالكلمات. انعكست أشعةُ الشمس على قطع الجليد المغروسة في جسدهِ، فازدادت لمعانًا. كانت كورديليا تُراقبه، وكأنْ الزمن أصبح يسير ببطء.
“ماذا؟ لحظة!”
لكن هدفُ ماكسيميليان لَمْ يكُن كورديليا. تجاوز بيلوتشي وجَسيل، وانطلق نحو أنطون الذي كان واقفًا خلف كورديليا.
“آه.”
حدث الأمرُ في لحظةٍ خاطفة. اخترقت يدُ ماكسيميليان صدر أنطون بدقة. نظرَ أنطون إلى صدرهِ وكأنهُ لا يُصدق ما حدث. سحب ماكسيميليان يدهُ ببطء.
تدفقت الدماء كنافورة.
“دوق!”
“يا إلهي، سيدي! سيدي!”
“لا!”
لأول مرةٍ، ظهر الاضطرابُ على وجهِ ليونارد. انطلق بسرعةٍ نحو ماكسيميليان وغرسَ رمُحًا جليديًا في ظهرهِ.
رُبما كان ذَلك هو الضربة القاضية، أو رُبما نفذت طاقتهُ تمامًا، إذ بدأت جُثة ماكسيميليان تتهاوى بسرعة. قشورهُ القاسية تحطمت بالكامل، وما تبقى مِن جسدهِ جف وتيبس.
“أتمنى أنْ تكون حياتُكَ جحيمًا.”
كانت هَذهِ آخر كلمات ماكسيميليان قبل أنْ يلفظ أنفاسه. لَمْ يكُن لدى ليونارد وقت للتفكير في لعنة أخيه.
لَمْ يحصل بعد على الترياق، ولَمْ يعرف طريقة صُنعهِ.
كورديليا.
أدرك الآن فقط الهدف الأسمى لماكسيميليان.
“أحضروا الطبيب! بسرعة!”
“سيدي! سيدي!”
ضغط ليونارد بكلتا يديهِ على صدر أنطون مُحاولًا إيقاف النزيف، وأخذ يُلقي تعويذات علاجية بلا توقف. تدفقت أنوارٌ بيضاء فوق جسد أنطون لكنها تلاشت بلا جدوى.
“أرجوك، أرجوك، أرجوك.”
بإلحاحٍ لَمْ يسبق لهُ مثيل، استمر ليونارد في إلقاء التعويذات، مُتوسلًا إلى الحاكم والقدر، رغم أنهُ لَمْ يكُن يؤمن بِهُما مِن قبل.
كوّنَ دمُ أنطون بركةً على الأرض، لامست أطراف ثوب كورديليا. رفعت عينيها عن ثوبها المُلطخ بالدماء لتنظُر إلى ليونارد.
سواء أكان ذَلك صدفةً أم قدرًا، رفعَ ليونارد رأسهُ في الوقت ذاتهِ. التقت نظراتهما.
كانت كورديليا هي مَن أغمضت عينيها أولًا.
“قُل ذَلك مُجددًا.”
“……كونهُ يتنفس مُعجزةٌ بحد ذاته.”
تحدث جَسيل بصعوبةٍ وهو يُطأطئ رأسه، غيرَ قادرٍ على مواجهة سيده.
مُعجزة.
كان هَذا هو الوصف الوحيد لحالة أنطون حاليًا. لو اخترقت يدُ ماكسيميليان قلبهُ، لكان قد مات على الفور.
لحُسن الحظ، انحرفت الضربة عن القلب، لكن وضعهُ لَمْ يكُن يُمكن وصفهُ بالحياة.
إذا مات أنطون، أو لَمْ يستعد وعيّه في غضون يومين، فستموتُ كورديليا.
قبض ليونارد يديهُ بإحكام. كان الغضبُ يتفجرُ بداخلهُ، لكنهُ لَمْ يستطع الصُراخ. كان الوضع يسير وفق خطة ماكسيميليان، وشعر بالغضب مِن نفسهِ لأنهُ انقاد لتلكَ الخطة. وفي النهاية، لَمْ يتبقَ بداخلهِ سوى الخوف.
ماذا لو ماتت كورديليا؟
كان ذَلك السؤال مُخيفًا لدرجة أنهُ لَمْ يستطع حتى النُطق بهِ بصوت مسموع. كان يخشى أنْ يُصبح حقيقة، خاصةً مع بقاء يومين فقط.
“مُعلمي.”
ترافقت طرقاتٌ خفيفةٌ على الباب مع صوت كورديليا. رفع جَسيل رأسهُ فورًا ونظرَ نحو الباب.
“يُمكنكَ الانصراف.”
“حاضر.”
جلس ليونارد على الكرسي مُتثاقلًا، وأسند رأسهُ إلى الأسفل.
بعد أنْ غادر جَسيل وفتح الباب، سُمعت خطواتٌ خفيفةٌ وصغيرة تقتربُ ببطء.
“مُعلمي.”
“……طلبتُ منكِ البقاء في غرفتكِ.”
“أردتُ رؤية وجهكَ.”
رفع ليونارد رأسهُ بصعوبةٍ. وقفت كورديليا أمامهُ بابتسامة. ضغطت على جبينهِ بأصابعها لتُزيل التجاعيد التي ظهرت عليهِ.
“توقف عن العبوس، ستُصبح لديكَ تجاعيد.”
“……”
“هل تناولت الطعام؟”
“لا.”
“إذن دعنا نأكُل معًا. طاهي قصر إيمبلي جيدٌ جدًا.”
لَمْ يعرف ماذا يقول.
أنا آسفٌ لما حدث.
لكن حتى في أذنهِ، بدا ذَلك بلا معنى.
سأفعل كُل ما بوسعي لإنقاذكِ.
لكن كيف يُمكن أنْ يُنقذها؟ أنطون بالكاد يتنفس، وإذا لَمْ يستعد وعيّهُ خلال يومين، فسيذهبُ كُل شيءٍ أدراج الرياح.
وكأنها قرأت أفكاره، أمسكت كورديليا بيدهِ وجذبته.
“هيا. أنا جائعة.”
“حسنًا.”
كان ذَلك كل ما استطاع قوله. خطى بخطواتٍ مُترنحةٍ إلى قاعة الطعام، حيثُ كانت الأطباق الساخنة تنتظرُهما بفضل ترتيب كورديليا المُسبق.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليجرام》