أتمنى لو كان زوجي ميتًا - 112
الفصل 112 : ما هوَ الحُب؟ ⁹
أطبقت كورديليا شفتيها بإحكامٍ. سادَ صمتٌ مُحرجٌ بينهما، وكان مِن المُستحيل أنْ تلتقي نظراتُهما، فظلّت تُحدق بالأرض. جمعت شجاعتها بصعوبةٍ لتكسرَ الصمت الذي بدا وكأنهُ أبدٌ.
“أنا، حسنًا… سأذهبُ الآن.”
“آه، نعم. ارتاحي… حسنًا، ارتاحي.”
“نعم، وبالمُناسبة، أنهيتُ واجباتي.”
لَمْ يكُن هُناك أيُّ سلاسةٍ في تبادل الكلمات بينهما. غادرت كورديليا المُختبر بسرعةٍ دوّن أنْ تلتفت إلى الوراء.
تأكد ليونارد مِن أنْ الباب قد أُغلق تمامًا قبل أنْ يُمررَ يدهُ بقسوةٍ على رأسهِ. تنهدَ بعمقٍ دوّن إرادة.
كان يعلم أنْ كورديليا تجدُ كلماتهِ ثقيلةً، لكنهُ لَمْ يستطع منعَ نفسهِ مِن التعبير عن مشاعرهِ التي وصلت إلى ذروتها.
كان الأمرُ أشبه بصراعٍ غريزي أكثرً مِن كونهِ قرارًا. مشاعرهُ تجاهها كانت تتصاعد بشكلٍ لا يُمكن السيطرة عليه، حتى أصبحت تفوق احتماله.
لَمْ يسبق لليونارد أنْ شعر بهَذا الكمِ المتنوع مِن المشاعر تجاه شخصٍ آخر، مِما جعلهُ يشعرُ بالارتباك الشديد. قبل أنْ يلتقي بكورديليا، كان البشر بالنسبة لهُ ينقسمون إلى فئتين فقط،
ليونارد نفسُه، والآخرون.
وكانت الفئة الثانية تضُم الجميع: العائلة، والزملاء، والأتباع. لَمْ يكُن هُناك داعٍ لتقسيمهم أكثر، لأنهم لَمْ يكونوا مُهمين بالنسبة لهُ. لَمْ يرَ في ذَلك أيَّ قيمة.
لكن كورديليا لَمْ تكُن تنتمي إلى الفئة الثانية، كانت شيئًا مُميزًا، كيانًا استثنائيًا يفوق جميع التصنيفات.
لهَذا السبب كان الأمرُ مؤلمًا.
عندما اعترفَ لها بمشاعرهِ، لاحظ ملامح الارتباك على وجهِها، مِما جعلهُ يشعرُ وكأنْ الأرض قد انهارت تحتَ قدميه. على الرغم مِن أنه توقع ذَلك، إلا أنْ مواجهته بالواقع كانت خانقة.
حتى منعهُ لها مِن الرد كان تصرفًا غيرَ معهودٍ بالنسبة له. لو عرف بارون بذَلك، لكان قد هزَّ رأسهُ مُستنكرًا.
“يا للسُخف.”
قال كاندياس بنفس طريقة البارون.
كان الشيطان يُراقب كل ما حدث بينهما مِن مسافةٍ قريبة، وكانت عيناهُ تتحركان بخبثٍ واضح، وكأنهُ كان ينتظرُ الفرصة للسخرية.
“اذهب مِن هُنا. مزاجي لَن يتحملكَ الآن.”
“مزاجُكَ؟ هاهاها. يا لها مِن مُعجزةٍ أنْ تكون متوترًا بسبب فتاة.”
“أخبرتُكَ أنْ تذهب.”
رفع ليونارد يدهُ ليُبعد كاندياس الذي اقترب منهُ أكثر. لكن الشيطان استغل الفرصة ليبدأ بالحديث بلا توقف.
“كنتَ تتظاهر بأنكَ الأفضل دائمًا، لكنكَ الآن مثلُ كلبٍ يبحثُ عن مأوى أمام تلكَ الفتاة. واعترافُكَ؟ هاها، أيُّ أحمقٍ يقومُ بذَلك بهَذهِ الطريقة؟ حتى لو فعلتُ ذَلك بقدمي، سيكون أفضل مِن هُذا. اسمع، رُبما لأنكَ لَمْ تواعد أيَّ فتاةٍ مِن قبل… لكن النساء عادةً—”
قاطعهُ ليونارد بتعبيرٍ صارم، مِما جعل كاندياس يلتفتُ إليّه بحذر. ظلّ الشيطان يُراقبه بصمتٍ بعدما لاحظ أنه لا يرد، مِما جعله يشعرُ بعدم الارتياح.
“هل انتهيت؟”
“أعتقدُ ذَلك… لماذا؟ ماذا ستفعل؟”
“إذًا، اقترب. سأجعلُكَ أعمى.”
بدأ ليونارد بتجميع طاقةٍ سحريةٍ في كفهِ، فهربَ كاندياس فورًا.
***
“ما رأيكِ أنْ نتوقف هُنا للراحة اليوم؟”
“فكرةٌ جيدة، سيد مَيرفان.”
“يمكنكِ مُناداتي بجَسيل.”
قال الرجُل ذو الشعر البني بنبرةٍ مُهذبة ومليئةٍ بالمودة.
بعد حادثة الاختطاف الأخيرة، كانت الرحلة إلى العاصمة تتم برفقة رجُلين كحراس شخصيين. كان أحدهما بالطبع بيلوتشي، والآخر فارسًا رأتهُ كورديليا مِن قبل يُدعى جَسيل مَيرفان، وهو فارسٌ مثالي بكُل معنى الكلمة.
“يا لها مِن أُلفةٍ مُبالغٍ فيها.”
قال بيلوتشي ببرودٍ بينما كان يمرُ بجانبهما. لَمْ يلتفت جَسيل حتى.
بعد أيامٍ مِن السفر معًا، كان مِن الواضح أنْ العلاقة بين الرجُلين ليست جيدة. جَسيل تجاهل بيلوتشي تمامًا، بينما كان بيلوتشي يشعرُ بالغيرة مِنه.
كانت كورديليا تشعرُ بالضيق كُلما اصطدمت مشاعرُهما المتضاربة، لكنها لَمْ تُحاول التدخل بينهُما. كان لديها ما يكفي ِمن الأمور لتقلق بشأنها.
“ماذا الذي يجبُ أنْ أقوله للمعلم عندما أعود؟”
لَمْ يكُن خبرُ مرض والدها أو التوتر بين الفارسين ما يشغلُ بالها، بل ليونارد فقط. كانت أفكارُها عنه تملأ عقلها بالكامل، سواءً كانت جالسةً أم واقفة، مُستيقظةً أم نائمة.
“إينغريون؟”
أخرجها صوتُ جَسيل مِن أفكارها. لَمْ يكُن ينادي بيلوتشي. كما توقعت، كان يُراقب عددًا كبيرًا مِن الفرسان وتابعيهم الذين كانوا يسيطرون على الطابق الأول مِن النزل.
كان شعارُهم الذي يحملُ صورة طائرٍ وزهرة، وهو نفس العلامة التي كانت على غمدِ سيف بيلوتشي. نظرت إلى جانبهِ، لكن وجهُه الخالي مِن التعابير لَمْ يُعطِ أيَّ إشارةٍ عن أفكاره.
“أوه، عذرًا يا سادة. لقد تم حجزُ جميع الغُرف مِن قِبل عائلة ماركيز إينغريون.”
قال صاحبُ النزل، الذي بدا مُتوترًا عندما رأى كورديليا ومرافقيها يدخلون.
“هل أنتم مِن مُرافقي عائلة الماركيز؟”
نظرَ صاحبُ النزل إلى غمد بيلوتشي وسأل.
“لا. لسنا مِن مُرافقيهم. إذا لَمْ تكن هُناك غرف، سنبحثُ عن نزلٍ آخر.”
أجابت كورديليا بسرعة، إذ لَمْ تنسَ أنْ ماركيز إينغريون حاول قتل ابنهِ.
تقلصت أكتافُها قليلاً وهي تُحاول مغادرة النزل. لكن في اللحظة التي اقتربت فيها مِن الباب، طار خنجرٌ بسرعة نحوها.
تَرنن، مع صوتٍ رنان، ارتطمَ الخنجر وارتد. لَمْ يُعرف متى استل بيلوتشي سيفهُ، لكنهُ كان يُمسك بهِ بالفعل، يُحدق بوجهٍ مُتجهمٍ في جهةٍ مُعينة. أما جَسيل، فقد وقف بهدوءٍ ليحجُب كورديليا.
“مَن هَذا؟ أليس هَذا الكلب العظيم لعائلة أتيلي؟”
تقدّم شابٌ ذو شعرٍ أسود بخطواتٍ مُتباهيةٍ نحو بيلوتشي. مِن مظهرهِ وطريقته، كان منِ الواضح أنهُ أحدُ أبناء ماركيز إينغريون.
“ما الذي جاء بكَ إلى المكان الذي تُقيم فيهِ عائلة إينغريون؟”
“لَمْ آتِ لرؤية وجهكَ، لذا لماذا لا تختفي فحسب؟ نواه إينغريون.”
لَمْ يكُن بينهما أيُّ شبهٍ باستثناء لون الشعر. كانت كورديليا تُراقب بهدوءٍ مِن الخلف، حابسةً أنفاسها.
“نواه؟ كيف تجرؤ أيُها الوغد غيرُ الشرعي على مناداة اسمي؟”
“إذًا، كيفَ تود أنْ أناديكَ؟ الغبي الذي نالَ لقب فارسٍ بشق الأنفس وهو في الخامسة والعشرين؟”
“مُت أيُّها الوغد!”
حدث الأمرُ في لمح البصر. انطلق نواه حاملاً سيفهُ مُتجهًا نحو بيلوتشي.
ورغم اندفاعهِ الشديد، فإنْ مهاراتهِ كانت على العكس تمامًا. أو رُبما كان بيلوتشي قويًا للغاية. بعد بضع ضربات سيف مِن بيلوتشي، وصل طرفُ سيفهِ إلى عُنق نواه. حتى كورديليا، التي لا تعرفُ الكثير عن السيوف، استطاعت أنْ ترى الفرق الشاسع في المهارات.
“هل تظُن أنني ما زلتُ ذَلك المُراهق الذي كنتَ تضربهُ سابقًا؟”
“أيُّها الوغد غيرً الشرعي…”
كان نواه يلهثُ بغضبٍ، مُحدقًا بـ بيلوتشي. أما بيلوتشي، فقد بدا غيرَ مُتأثرٍ، بل وكأنهُ يشعرُ بالإرهاق مِن هَذا الموقف. أنزل سيفهُ عن عُنق نواه بلا ترددٍ.
“إذا كنتَ لا تُريد أنْ تُهزَم أمام الجميع، فَمِن الأفضل أنْ تتوقف هُنا.”
“أيُّها اللعين! ماذا تنتظرون؟ هل ستقفون وتشاهدون فقط؟”
استدار نواه صارخًا نحو فرسان إينغريون الذين كانوا يملؤون النزل. اقترب فارسٌ مُسن، بدا أنهً قائدهم، بحذر مِن نواه.
“سيد نواه، الماركيز سيصلُ قريبًا. مِن الأفضل أنْ تتوقف الآن…”
“ماذا؟ هل تجرؤ على إعطائي الأوامر؟”
أمسك نواه بغمد سيفهِ ولوح بهِ نحو الفارس المُسن. رغم أنهُ كان بإمكان الفارس تجنُب الضربة بسهولة، إلا أنهُ بدا مُعتادًا على هَذا النوع مِن الإساءة واستقبل الضربة بصمت.
في تلكَ اللحظة، التقت عينا كورديليا بعيني بيلوتشي. أشار بيلوتشي برأسهِ نحو الباب. فهمت كورديليا الإشارة.
“لنخرج الآن.”
“نعم، هَذا هو الأفضل.”
فتح جَسيل باب النزل بحذرٍ، دوّن أنْ يُخففَ مِن حذرهِ. لكن يبدو أنْ الحظ السيء كان يُلاحقهم، فقد كان هُناك رجُلٌ جديد يقفُ خلفَ الباب. عند رؤيتهِ، أدركت كورديليا على الفور مَن هو.
‘إنهُ يملكُ نفس عينا بيلوتشي تمامًا!’
تذكرت فجأةً ما قالهُ ليونارد ذات مرة. كيف أنْ عينا ماركيز إينغريون وبيلوتشي كانت مُتشابهةٍ لدرجة أنهُ لا يُمكن إنكار العلاقة بينهما.
كانت عينا بيلوتشي أحيانًا تتألق باللون الذهبي تحت أشعة الشمس، وها هو الرجُل أمامها، صاحب الملامح الصارمة والشعر الأسود، يملكُ نفس العيون تمامًا.
“ما الذي يجري هُنا؟”
“آه، والدي…”
توقف نواه، الذي كان يلوّح بسيفهِ، عند رؤية ماركيز إينغريون يدخُل النزل، خافضًا يدهُ بسرعة. أما الفارس المُسن، الذي كان يتلقى الضربات بصمت، فنهض مُتمايلاً بصعوبة.
اقترب ماركيز إينغريون بخطواتٍ واثقةٍ مِن ابنهِ، ثم رفعَ يدهُ وصفعهُ على وجهه بقوة. كانت الصفعة شديدةً لدرجة أنْ نواه، رغم كونهُ رجلاً بالغًا، ترنّح مِن قوتها.
“ألَمْ أخبركَ بأنْ تبقى هادئًا؟”
“آه…”
“اذهب إلى غرفتكَ.”
لَمْ يطلب ماركيز إينغريون أيَّ تفسيرٍ عن سبب ضرب نواه للفارس المُسن. شعر نواه بالإهانة أمام الجميع، فغطى وجنتهُ المُحمرة وهرب إلى الطابق الثاني.
مِن دوّن أنْ يلتفت لرؤية ابنهِ، استدار الماركيز نحو بيلوتشي.
“وأنتَ، ما الذي تفعلهُ هُنا؟”
“مهمةُ حراسة.”
“حراسة؟”
على عكس طريقة تعاملهِ مع نواه، كان بيلوتشي خاضعًا أمام ماركيز إينغريون. تحول نظرُ الماركيز إلى جَسيل وكورديليا.
“السير مَيرفان، أليس كذَلك؟ ومَن تكون هَذهِ؟”
“كورديليا فاسكويز.”
لَمْ تشأ كورديليا أنْ تُضيف أيَّ مُجاملاتٍ فارغة أو عبارات ترحيبٍ مُبتذلة. لكن يبدو أنْ الطرف الآخر كان يُفكر بشكلٍ مُختلف، فقد تغيّرت نظرةُ ماركيز إينغريون على الفور عندما سمع اسمها.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿《التليجرام》