I was caught by the villain - 0
كانت “روزي” تتأمل الخارج بهدوء عبر النافذة. إذ هبت الرياح العاتية تضرب زجاجها مرات عدة، غير أن النافذة الراسخة لم تزل ثابتة لم تهتز.
العالم المكسو بالثلج قد صار كله بياضًا ناصعًا.
وبينما كانت “روزي” تحدق في هذا المشهد، أحست وكأنها هي الأخرى تُغمر بذلك البياض البارد، كأنما الأفكار التي كانت تزدحم في رأسها أخذت تتلاشى شيئًا فشيئًا، وكان هذا الإحساس بالخلو من كل تلك التعقيدات لا يخلو من الراحة.
وفي وسط هذا السكون، حين بدأت أعضاء جسدها تسترخي وتنعم بالدفء، دوى صوت نقر خافت على زجاج النافذة.
رفعت بصرها بهدوء، فإذا بها ترى طائرًا أسود اللون جاثمًا على حافة النافذة، ينقر بمنقاره الزجاج. وسط هذا البياض الممتد، لم يكن ليفوتها منظر الطائر الأسود، لكنها كانت شاردة، فأغفلت وجوده.
بيدين حذرتين، فتحت النافذة، فأطلق الطائر لنفسه العنان، ودخل إلى الغرفة. كان مظهره يوحي بالضجر، وكأنما يعاتبها على التأخير، وراح ينقر بمنقاره وكأنه يريد إظهار استيائه.
لم تلبث حرارة الغرفة أن استحوذت على إعجابه، فهز جسده، ليتخلص من الثلج العالق به، ثم ارتخى على الأرض بعد ذلك وكأنه قد أنهكه البرد.
ضحكت “روزي” بصوت خافت، وهزت رأسها وهي تشاهد منظره الغريب الذي لا يشبه الطيور المعتادة.
ولم يكن حضوره المفاجئ إلا لغرض ما، إذ سارعت بنظرة فاحصة نحو ساقه، فوجدت، كما توقعت، رسالة صغيرة مربوطة بها.
كانت تشعر ببعض الحزن لقلة الأخبار مؤخرًا، فتناولت الرسالة بحذر، وفكتها ببطء خشية أن تتمزق.
وفي تلك الرسالة الصغيرة، كان ثمة نص طويل لا تعلم كيف استطاعوا أن يحشوه في ورقة بهذا الحجم.
“أكان حديثكِ حقاً بأن لا أعاود مراسلتكِ؟ وإن كنت قد اقترفت ذنباً، فأرجو منكِ أن تخبريني. فأنا جاهلٌ ولا أعلم خطئي ما لم تبيّنيه لي. يا لغبائي الذي لا حدود له…”
امتلأت الرسالة بالكلمات التي تفوح منها الندامة والتوسل، إذ أقر كاتبها بأنه إن كان قد أخطأ في حقها فهو يعتذر عن ذلك بصدق، ويتوسل إليها ألا تقطع التواصل معه، ولو برسالة بسيطة تحمل مجرد نقطة.
“أأنا من قطعت التواصل أولاً؟” تساءلت روزي وهي تعقد حاجبيها بانزعاج، إذ كان ذلك أول مرة يُطرح عليها مثل هذا الاتهام. لكنها استمرت في قراءة الرسالة.
“أليس تقول إن لكِ هدفاً خفيّاً، وآيشا حبست نفسها في غرفتها ولم تخرج منها. وأنا أعترف بإزعاجي لكِ بالرسائل، وأعتذر بصدق. أعلم أن ما أطلبه أكثر مما أستحق، لكن أرجوكِ، أعيدي النظر في الأمر.”
توالت كلمات التوسل في الرسالة بلا نهاية، حتى بدأت التجاعيد تعلو جبين روزي شيئًا فشيئًا، إذ لم تستطع إخفاء شعورها بالاستياء.
وأثناء قراءة الرسالة، لم تغادر الأسئلة عقلها، إذ إنها لم ترسل رسالة ولم تستلم واحدة على الإطلاق.
لكن مع اقترابها من السطر الأخير من الرسالة، تكشفت الحقيقة. قبضت روزي يدها بقوة، وهي تحدق في نهاية الورقة. لم يكن هناك إلا شخص واحد قادر على تدبير مثل هذا الأمر.
أو ربما… هل هو الفتى الذي يحيك هذه المكيدة؟
“روزي.”
وصل إلى مسامعها صوت خافت، فرفعت رأسها فجأة لتلتقي عيناها بعينين زرقاوين تحدقان فيها باهتمام شديد.
“متى يا ترى دخلت إلى هنا؟” تساءلت روزي في سرها، إذ كانت غارقة في قراءة الرسالة حتى أنها لم تسمع صوت فتح الباب.
في الآونة الأخيرة، شعرت بأنها تفقد تركيزها بشكل متزايد. زفرت بعمق وهي تفكر في ذلك.
“أرسين.”
عندما همست باسمه، رسم أرسين ابتسامة بهية على شفتيه، وكأنها لوحة فنية. تلك الابتسامة التي كانت دائمًا ما تغويها، لولا أنها هذه المرة لم تتأثر.
“هل قُمتي بسرقة الرسائل التي أُرسلت لي؟”
“الأمر… هو أن…”
وقعت عيناه الزرقاوان فجأة على الطائر الأسود الذي كان يقف بجانبها، فتبددت ابتسامته ليظهر على ملامحه بعض الضيق، رغم محاولته إخفاءه.
لكنه سرعان ما استعاد هدوءه وابتسامته، وقال بصوتٍ واثق وحازم:
“لم تكن الرسائل تحمل شيئًا ذا بال.”
“أنا من يقرر ذلك، لا أنت. من أعطاك الحق في أن تتصرف كيفما تشاء؟”
خرج صوتها كرياح الشتاء القارسة، باردة وحادة. ومع ذلك، لم يظهر على أرسين أي اكتراث، بل ظل مبتسمًا بسخرية، وردّ بلهجة هادئة:
“كنت أتعجب من تقلبات مشاعرك… والآن فهمت، إنها بسبب تلك الرسائل.”
“أرسين.”
“لولا العلامة، لما كنتُ قد علمت أنك غاضبة. يا لها من ميزة مفيدة، أليس كذلك؟”
على الرغم من أن كلمات أرسين جاءت بصيغة السؤال، إلا أن اهتمامه بجواب روزي كان ضئيلاً، إذ كان يدرك تماماً أنه لن يسمع منها رداً لطيفاً.
تجاهلت روزي سؤاله، واكتفت بمسح التجاعيد التي احتلت جبهتها بأصابعها، وقالت بنبرة ملؤها الهدوء:
“لقد أمرتك مراراً ألا تعبث بما يخصني.”
فرد عليها ببرود: “حقاً؟”
“نعم. لقد غفرت لك حين جئت بي إلى هنا رغم إرادتي، وغضضت الطرف عن مراقبتك لي، وحتى عن منعك لي من مغادرة هذا المكان. ولكن كان بيننا شرط واحد لا غير؛ ألا تمد يدك إلى ما يخصني.”
جاء صوتها حازماً، وكلماتها تحمل في طياتها عتاباً واضحاً، وكلما واصلت حديثها، كان أرسين يكتفي بلعبه بخصلات شعرها وكأن كلماتها لم تصل إليه.
قال بنبرة هادئة: “إذاً…”
قاطعته بحدة: “لكن…”
ارتفع حاجبها وهي تنظر إليه باستغراب، فرأت الابتسامة الساخرة التي تشكلت على وجهه. كان التعبير المتجمد على وجهه قد تحطم، وظهرت نظرة مستفزة، بينما اقترب منها حتى صار وجهاً لوجه.
قال لها بلهجة ساخرة: “إذا كنتِ تتحدثين عن القواعد والمبادئ، أليس من الأفضل أن تفكري أولاً في أفعالك؟”
“ماذا تقصد؟” ردت عليه باستنكار.
فقال مبتسماً ابتسامة مريبة:
“ألم تقولي إنكِ لن تتخلي عنا أبداً، وإنكِ ستمنحيننا كل شيء؟ لكن ها نحن الآن في هذه الحال.”
“لكن ذاك كان…”
قاطعها ببرود: “عليكِ أن تكوني ممتنة يا روزي، ففي أعماقي، أريد أن أكسر أطرافك وأرميك في زنزانة تحت الأرض.”
لو لم يكن ولي العهد لكان نفذ تهديده منذ زمن. تمتم أرسين بهذه الكلمات وهو يمرر أصابعه عبر خصلات شعرها، يعيدها برفق خلف أذنها، تلك اللمسة التي بدت وكأنها تحمل حناناً، لكنها كانت تحمل وراءها نوايا خبيثة.
ورغم أن روزي لم تكن تملك القدرة على قراءة مشاعره تماماً، إلا أنها استطاعت أن تدرك بنظرة واحدة ما كان يضمره في قلبه من نوايا خفية.
غير أن هنالك أموراً لا يُمكن البوح بها على الرغم من العلم بها. تحت وطأة ذلك الشعور الثقيل الذي يثقل كاهلها، صمتت روزي بهدوء.
وكان أرسين من أولئك الذين يتقنون استغلال شعور الآخرين بالذنب.
“لو أنكِ لم تتركيني في ذلك الحين، لما كنت وصلت إلى هذه الحال.“
كانت كلماته تُلقي اللوم بوضوح، ونظراته التي تلألأت شابتها نبرة من التهديد.
حاولت روزي أن ترد بكلمات، لكن شفتيها تحركتا دون أن تخرج منها أي جملة. تكدست الأعذار في ذهنها، لكنها لم تجرؤ على النطق بها.
أرسين، وكأنه فهم ما يدور في خلدها، ابتسم ابتسامة عريضة وسحب يدها برفق.
تلامست يداه الناعمتان مع بشرتها، وأحست بشعور مختلط من الحنين والأسى. كانت يده الخالية من الندوب وكأنها تروي قصة زمن مفقود، مما زاد من إحساسها بعدم الراحة.
ولكن الندوب يمكن أن تُكتسب مجدداً في أي وقت. ربما يجب عليها أن تخلد اسمها في قلبه بطريقة لا تُنسى أبداً.
وكان الوقت المتبقي طويلاً. قرر أرسين أن يتوقف عن التسرع.
بابتسامة ماكرة وهادئة، همس بصوت منخفض، كأنما يعلم كل شيء، مما جعل روزي تتراجع مذعورة.
“ورغم ذلك، أنتِ لا تزالين تفكرين في الهروب.”
شعرت روزي بجدار صلب يضغط على ظهرها. فقد اقترب أرسين منها، ناظراً إليها بتمعن، وكأن الفتى الذي كان يصل إلى صدرها قد أصبح الآن أطول منها برأس كامل.
تجاعيد الزمن التي دنت منها جعلت روزي تعبس قليلاً.
“كيف لي ألا أجن في مثل هذه الحال؟”
على الرغم من الهدوء الذي كانت تتحدث به، إلا أن كلماتها حملت قسوة شديدة. اختارت روزي الصمت، مفضلةً تجنب الرد.
أرسين، الذي كان يتجاهل صمتها، ابتسم بسخرية في سره.
على الرغم من مرور الزمن، لم تتغير روزي في نظر أرسين. على الأقل، هكذا بدا له.
فالتغير في لون الشعر والعينين لا يعني تغييراً في الجوهر.
كانت أصوات دقات القلب تتردد بين المسافات القريبة.
“لم أفكر قط في هذا الأمر بطريقة إيجابية.”
همس أرسين وهو يلامس قلبه، حيث كان الوشم القلبي ينبض بقوة، موفراً معلومات دقيقة عن مكانة روزي وحالتها.
كانت آثار تلك الفترة البعيدة، التي مرّ بها أرسين وهو يصدق كل ما تقوله روزي ببراءة، لا تزال قائمة بوضوح في قلبه.
حتى يزيل قلبه من صدره، لا يمكنه محو هذا الوشم. فالأثر سيبقى دائماً، رابطاً روزي به إلى الأبد.
كان أرسين يحب هذه الخاصية من بين العديد من خصائص الوشم.
“يبدو أن الوقت قد حان لشكر هذا الأمر.”
فبفضل ذلك، لن تكون قادرة على الهروب مني.
همس أرسين وهو يدفن وجهه في كفه الرقيق. على وجهه الذي يهمس بصوت منخفض، تماوجت رغبة غريبة.
لقد كانت الهوس المليء بالجنون في عينيه أمراً مألوفاً. وعندما نظرت روزي إلى ابتسامة أرسين الباردة، أغمضت عينيها بقوة.
لقد مرت أكثر من عشر سنوات على تلك الأيام. انهار البلاط الملكي، وكل ما كان يقيّدهم قد زال.
لكن روزي لم تتمكن بعد من الخروج من ذلك المكان.
لم يكن النسيان محصوراً في روزي فحسب؛ بل إن أرسين أيضاً لم يستطع أن يتخلص من كوابيسه. كان أرسين ينظر إلى روزي، وقد غمرت أفكارها وجهها، فابتسم بسخرية مظهراً ابتسامة ناعمة.
لقد تعلم أرسين الكثير من روزي. كانت معلمته وراعيته، وأول حب له المجهول، لكنها كانت أيضاً خائنة بشكل مرير.
“أنتِ كل شيء بالنسبة لي.”
تدحرجت كلمات الحب كهمسات عذبة على شفتيه، فخرجت من روزي تنهيدة عميقة. لم تكن روزي تجهل أن هذا ليس حباً، لكنها لم تعترض.
تقبل أرسين بشغف سلوك روزي الهادئ.
كان التفاوت بينهما، الذي كان يبدو عمودياً، قد انعكس تماماً الآن. وكان أرسين يستمتع بهذه المسافة المألوفة بينهما.
“لا تزعجي بالك كثيراً.”
“هذه المرة، لن أتركك أبداً.”
كان صوته وملامسة يديه لوجهها ناعمة كزغب الطائر.
بينما كان ينظر إلى روزي التي دخلت أخيراً بين ذراعيه، ارتسمت على وجه أرسين ابتسامة الرضا.
أغمضت روزي عينيها بهدوء، وابتلعت خفايا قلبها التي لم يسمعها أرسين.
لو كنت أعلم أن الأمور ستؤول إلى هذا، لما كنت لجأت إلى أخذك من ذلك المكان.