أصبحت شخصية إضافية في رواية شفاء - 3
الخضروات المُقطعة بدقةٍ قد اختفت وكأنها تختبئُ داخل تلكَ الشفاه الصغيرة، وبدأ الفك الصغيرُ يتحركُ بنشاطٍ. مع كُل حركةٍ للفك، كان الرأس الصغير يهتزُ قليلاً وتتأرجح خصلات الشعر الوردي. كانت الخدود المُمتلئة تتحركُ مع الشفاه التي تمضغُ الطعام.
كان مظهرُ الطفلة لطيفًا حقًا، وكأنها دُميةٌ تتحركُ بشكلٍ حقيقي.
لكن الأعين التي كانت تُراقب الطفلة كانت أكثر برودةً مِن الصقيع في مُنتصف الشتاء. كانت الأجواء قاتمةً، وكأنهم يواجهون ألد أعدائهم.
بلع.
في النهاية، نزل الطعام في حنجرة الطفلة، وساد الصمت للحظة. ثم، وكأنها كانت تنتظرُ هَذهِ اللحظة، أزاحت الخادمة ذاتُ الشعر البُني الطعام مِن أمام الطفل وكأنها تنتزعُه.
“يكفي، خُذيه.”
الطعام الذي أخذتهُ الخادمة قد اختفى مِن خلال الباب الجانبي على صينيةٍ فاخرة. حينها، جاء صوتٌ مِن خلف الجدار السميك.
“أوه، هَذهِ الخضروات المقلية التي تُحبها صاحبةُ السمو.”
“حقًا مُدهش. عادةً ما يُحب الأطفال اللحم، لكن صاحبةُ السمو تُفضل الخضروات بدلاً مِن اللحم.”
“لهَذا أشعرُ بالقلق. يجبُ أنْ تأكل اللحم أيضًا، لكنها لا تأكلُ سوى الخضروات. إنها صغيرةٌ جدًا لدرجة أنني أخشى أنْ تطير مع أول نسمة ريح.”
تحولت النبرةُ القلقة تدريجيًا إلى دفء بينما تحدثوا عن حُبهم للأميرة.
“هل استيقظت صاحبةُ السمو مُتأخرةً اليوم؟”
“سمعتُ بأنْ سربًا مِن الوحوش قد ظهر مؤخرًا بالقرب مِن العاصمة، كما أخبرتنا صاحبةُ السمو. يبدو أنها كانت مشغولةً بالتحدث مع قائد الفرسان حول هَذا الأمر.”
“كيف عرفتْ بذَلك وهي لا تزالُ صغيرةً… إنها حقًا ذكيةٌ، أوه يا صاحبة السمو.”
في تلكَ الأثناء، وصل طبقٌ آخر أمام الطفلة. هَذهِ المرة كان الطبق يحتوي على شريحة لحمٍ شهية.
تم تبديلُ أدوات الطعام التي أمام الطفلة بسرعة، ووُضع أمامها قطعةً صغيرةً مِن اللحم بحجم ظفر.
استخدمت الطفلة شوكةً نظيفةً لتلتقط القطعة الصغيرة ووضعتها في فمها.
وبمُجرد أنْ وضعتها في فمها، توجهت الأنظار نحوها مرةً أخرى. كانت النظراتُ باردةً لدرجة تخنق الأنفاس.
لكن بعد لحظاتٍ.
“صباحُ الخير جميعًا!”
جاء صوتٌ رنانٌ مِن خلف الجدار، وذابت الأجواء الجليدية في لحظة.
“صاحبة السمو.”
“اشتقتُ لكم جميعًا!”
“اشتقتُ إليّكِ أيضًا. افتقدتُكِ طوال الليل، صاحبة السمو.”
“وأنا أيضًا! حتى وأنا قد رأيتُكِ، أرغبُ برؤيتكِ مرةً أخرى.”
عندما ضحكت الأميرة ضحكةً صافيةً مليئةً بالحب، ارتسمت ابتساماتٌ لطيفة على وجوه الخادمات التي كُن باردات كالجليد. ولكن عندما عاد نظرهم إلى الطفلة ذاتُ الشعر الوردي، تجمدت تعابيرهم على الفور.
بلع.
بعد أنْ بلعت الطفلة الطعام، لَمْ يّمر وقتٌ طويل حتى اختفت شريحةُ اللحم أيضًا بسرعةٍ على الصينية.
طقطقة. طرقت الخادمة على الطاولة. كانت تلكَ إشارةً لطردها.
وقفت الطفلة وغادرت مِن الباب الصغير بعد أنْ انحنت بانحناءةً خفيفة، لكن لَمْ يستجب أحد لتحيتها.
كانوا جميعًا…
“لذيذ!”
يُركزون على الصوت القادم مِن خلف الجدار بابتساماتٍ سعيدةٍ، وكأنْهم قد نسوا وجود الطفلة تمامًا.
***
“آه.”
خرج الطعام مِن فم لابيلا بينما كانت تُمسكُ بالمرحاض بيديها الصغيرتين المشدودتين بقوة.
“هاه.”
تنفست لابيلا بعمقٍ بعد أنْ أفرغت معدتها وغسلت فمها. ورُغم ذَلك، شعرت بالاضطراب أكثر مِن المُعتاد في معدتها.
“يقولون أنْ طعام القصر مثلُ طعام الجنة.”
كان كُل ذَلك كذبًا.
لَمْ يكُن للطعام أيُّ طعمٍ، وكانت تلكَ الأعيُن التي تُراقبها مع كُل لقمةٍ تجعل الوضع لا يُحتمل. كانت تتمنى لو عادت لأكل خبز السجن البارد والصلب بدلاً مِن هَذا.
ولكن لَمْ يكُن أمامها خيارٌ سوى الأكل.
“مِن الآن فصاعدًا، سنُعطيكِ الفرصةٌ لتذوق طعام صاحبة السمو أولاً. هَذا منصبٌ يتجاوزُ شأنكِ كخائنة.”
“يجبُ أنْ تكوني مُمتنةً لأنكِ في نفس عمر صاحبة السمو.”
ولهَذا السبب تم جلبُها.
قبل بضعة أيامٍ، بدلاً مِن الذهاب إلى جبل الوحوش، جُلبت لابيلا إلى القصر الملكي وتم تعيينُها في منصب متذوقةُ الطعام الخاصة بالأميرة.
كان دورها هو تذوق الطعام قبل أنْ تتناولهُ الأميرة، للتأكُد مِن خلوهِ مِن السموم.
ظاهريًا، قد يبدو الأمر وكأنهُ منصبٌ يتجاوزُ شأنها. فكيفَ يُمكن لخائنةٍ، تنتمي لعائلةٍ مُدمرة، أنْ تتذوق الطعام قبل الأميرة العظيمة؟
ولكن في الواقع، كان دورها التحقق مِما إذا كان الطعام يحتوي على سُم. وإذا كان الطعام يحتوي على سُمٍ قاتل، فستموتُ هي أولاً.
كان عليها أنْ تُعاني وتتألم كُل يوم، تتناول طعامًا مجهولاً مليئًا بالمخاطر، لتدفع ثمنَ خطاياها.
مَن يُمكن أنْ يكون غبيًا لدرجة أنْ يعتَبر هَذا فضلاً؟
‘في نفسِ العمر؟ هَذا هراء!’
كان مِن الواضح أنهم أحضروها فقط لأنها تستطيعُ كشف السموم التي تؤثر على مَن هم في نفس الفئة العمرية.
‘علاوةً على ذَلك، سمعتُ أنْ مُتذوقَ الطعام السابق قد مات قبل أيام.’
عادةً ما يتمُ فحص الطعام أولاً مِن قبل الساحر للتأكد مِن سلامتهِ، لكن في بعض الأحيان يُستخدم سمٌ لا يتفاعل مع السحر.
وقد حدث ذَلك مؤخرًا، واختيرت لابيلا لتحُل محلَ متذوق الطعام الذي توفيّ.
‘أتمنى ألا يظهر السُم مُجددًا.’
‘مُستحيل، لَمْ يحدث شيءٌ منذُ سنواتٍ، لكن الآن هُناك اثنين قد ماتوا بالفعل.’
رُغم مُحاولتهم للتستُر على الأمر، إلا أنْ نوايا الأشخاص الحاقدين كانت واضحةً جدًا.
‘خصمهم مُجرد طفلةٍ ضعيفة.’
مهما كان انزعاجهم أو غضبهم مِن فيليسيتي، كيف يُمكن أنْ يكونوا بهَذا السوء؟ لدرجة أنْهم يفضلون اطعامي السُم بدلاً مِن الحفاظ على أبسط الحقوق الإنسانية.
حتى وإنْ كانت لابيلا قد أدركت، خلال أقل مِن يومٍ منذُ وصولها للقصر، أنْ حياتها باتت على المِحك.
غسلت فمها ومسحت الماء عن شفتيها، ثم توجهت نحو السرير بخطواتٍ مُتثاقلة.
استلقت على السرير الصغير في غرفتِها الضيقة وبدأت تُفكر مليًا.
‘…ما الذي يحدُث بالضبط؟’
كانت هَذهِ الفترة الزمنية مُقتبسةً مِن نهاية الجُزء الأول مِن الرواية، قبل الجملة التي تقول “بعد عشر سنوات”. في ذَلك الوقت، كانت البطلة، الأميرة إيرينا، قد حلت سوء الفهم مع الإمبراطور وأصبحت سعيدةً جدًا، وكانت قد تحولت مِن طفلةٍ إلى بالغة، لذا تم تجاوز هَذهِ الفترة في الرواية.
ولهَذا، رغم أنها تتذكر أحداث الرواية جيدًا، إلا أنها لَمْ تكُن تعرفُ تفاصيل ما حدث في هَذهِ الفترة.
والشيء الوحيد الذي يُمكنها التأكُد منه هو…
‘إذا بقيتُ على هَذهِ الحالة، سأموت حتمًا.’
كـ مُتذوقةٍ للطعام لَمْ تكُن تلعبُ دورًا كبيرًا في الرواية الأصلية، لكنها كانت قريبةً جدًا مِن الأميرة.
والأهم مِن ذَلك، أنْ اسم لابيلا لَمْ يُذكر ولو مرةً واحدةً في تلكَ الرواية الطويلة، مِما يعني أنْ المُستقبل لَمْ يكُن مُشرقًا أمامها.
كانت فرصُ نجاتها خلال السنوات العشر القادمة ضئيلةً للغاية.
‘هَذا أسوأ سيناريو.’
ألَمْ تكُن هَذهِ الرواية قصة شفاء؟ لماذا تشعرُ الآن وكأنها قصةٌ كئيبةٌ لا نهاية لها؟
‘يجبُ أنْ أهرب بسرعةٍ.’
إذا أرادت الهروب مِن هَذا الوضع المأساوي، فالطريقة الوحيدة هي الابتعاد عن شخصيات الرواية قدر الإمكان. أنْ تذهب إلى مكانٍ بعيدٍ، إلى مملكةٍ لَمْ تُذكر حتى في القصة.
إذا فكرت في الهروب، فإنْ الذهاب إلى مملكة باريبي، التي لَمْ يكُن لها أيُّ اتصالٍ مع الإمبراطورية حتى نهاية الرواية، قد يكون الحل الأمثل.
‘لكن للوصول إلى هُناك، يجبُ أن أمر عبر لوبينديسي…’
لوبينديسي هي أراضي دوقية فيتشيرابالي، التي تُعتبرُ أراضي الشرير الرئيسي في الرواية.
كما أنها عائلةُ بطل الرواية الذكر، رويان. ذَلك الرجل الذي قتل والدهُ الذي كان يُهدد الإمبراطور والأميرة وقدمَ الدوقية للبطلة كدليلٍ على ولائهِ.
‘إذا واجهتُ ذَلك الشخص، فسأكون ميتةً لا محال.’
فَهل سَيُبقي شخصًا مثلي على قيد الحياة، وأنا التي تم إساءة مُعاملتي، لمُجرد أنني أبنة فيليسيتي؟
كُل مكانٍ هُنا كان بمثابة حقل ألغامٍ.
مررت لابيلا يدها على وجهها الذي أصبح باردًا، ثم أخذت نفسًا عميقًا.
‘أولاً، يجبُ أنْ أبقى على قيد الحياة في القصر.’
الخطر الأكبر في الوقت الحالي هو السُم الذي قد أتعرض لهُ خلال تذوق الطعام.
إذا كان السُم لا يُكتشف بالسحر، فَمِن المُحتمل أنْ يكون مِن نفس نوع السُم الذي تعرضت لهُ الأميرة في الجزء الثاني مِن الرواية.
‘كان ذَلك السُم قد أرسل مِن أولئكَ الذين أرادوا الانتقام مِن الإمبراطور.’
في الرواية، كان الأشرار الذين تعرضوا للظُلم مِن قبل الإمبراطور يستهدفون الأميرة مرارًا ويدسون السُم لها.
وفي الجزء الثاني، عندما تتناول الأميرة السُم، ظهرت مشاهدُ ندم الإمبراطور على أفعالهِ في الماضي وعلى الأعداء الذين كسبهم.
‘ لقد قتل الجميع بسبب مشهد الندم الملعون هَذا…’
يا لهُ مِن جنون.
الجانب الإيجابي الوحيد هو أنهُ حتى لو تناولتُ السُم، فَهُناك طريقةٌ للنجاة.
في الرواية، عندما سقطت الأميرة بعد تناول السُم، تعافت بعد تناول زهرةٍ مُعينة كانت علاجًا شاملاً يُزيل جميع السُموم.
إذا حصلتُ على هَذهِ الزهرة، فَلَن يهُم إذا تناولتُ السُم أو لا.
‘يجبُ أنْ أحصل عليها.’
أنا أعرفُ شكل الزهرة ورائحتها، لكن المُشكلة أنني لا أعرف مكانها.
‘كان مِن المُفترض أنْ تكون زهرةً نادرة، لكنها موجودةٌ في القصر.’
كان يُقال إنها كانت موجودةً هُنا بكُثرة لدرجة أنْ الشخص قد يتعثرُ بها دوّن علمه، لكن رُغم بحثي في أرجاء القصر خلال الأيام القليلة الماضية، لَمْ تستطع العثور عليها.
هل يُمكن أنْ تكون غيرَ موجودةٍ الآن لأنها سوف تُستخدم بعد عشر سنوات؟ أم أنها لَمْ تتواجد بعد؟ أم أنني لَمْ أتمكن مِن العثور عليها لأنني لستُ البطلة؟
لا بد أنْ الزهرة تنمو في مكانٍ ما في القصر. إذا بحثتُ بدقةٍ، رُبما يُمكنني العثور عليها. لكن المُشكلة أنني لَمْ يكُن لديّ الوقت لاستكشاف القصر الواسع بأكمله.
فأنا قد اموت غدًا بعد تناول السُم.
‘لا وقت للانتظار.’
حتى لو ظلّتُ متوترةً ومُتحسرة، فَلَن يتغيّر شيء. يجبُ عليَّ أنْ أنقذ نفسي بنفسي.
نهضت لابيلا مِن السرير، عدلت ملابسها، ثم مشيت باتجاه الباب بملامحٍ جدية.
لقد حان وقت العودة إلى ساحة المعركة.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة