كيفَ يكوّن الأميرُ أصدقاءَ - 1
الفصل 01
“ريانوس.”
لقد مضى وقتٌ طويلٌ منذُ أن تحدث إليّ أخي الأكبر.
“نعم!”
كنتُ سعيدًا، لذلك أجبتُ بسرعةٍ. إنهُ الشخصُ الوحيدُ الذي يتحدث معي دائمًا.
“الدوق ثيساروس يُقيم تجمُّعًا لتعزيزِ الصداقة بين أبناءِ النبلاء من نفسِ العمرِ الذين يتعلمون فنُّ المبارزة بالسيف.”
“في منزلِ الدوق؟”
“نعم. هل تودُّ الذهابَ؟”
“لكن، يا أخي، أنا…….”
لقد ترددتُ. فأنا طفلٌ ملعونٌ بالمانا.
“ألستَ تتعلم السيف أيضًا؟ لن يهتمَّ أحدٌ بذلك.”
“هل من المقبولِ حقًا أن أشارك؟”
كلما تحدث إليّ أخي بلُطفٍ، كانت الأمور تسوء دائمًا.
كنتُ أعرف ذلك، ورغمَ ذلك، كنتُ أقع في الفخِّ دائمًا. لكن ربما هذه المرة ستكون مختلفة. ربما، فقط ربما……
كنتُ خائفًا من فقدانِ فرصةٍ قد لا تتكرَّر.
“إذا لم تستطع المشاركة، فمن يستطيع؟ لا أحدَ يتدرب بجديةٍ مثلك.”
“إذن، سأذهب! متى سيكون ذلك؟”
“غدًا. كن هناكَ عندَ الساعةِ الرابعة. لديّ بعض الأمور التي أودُّ مناقشتها مع معلمي، لذا سأصلُ متأخرًا.”
“نعم! سأراك حينها!”
هذه المرة، ربما سأكون صداقاتٍ وأجد أخيرًا من أتحدث إليه.
حتى لو لم أستطع يومًا التحكُّمَ في الهالة، فبالتأكيد يُمكنني التحدث عن فنونِ السيف. لقد تدربتُ بجدٍّ، وحاولتُ أن أبدو رصينًا، مثل أخي.
لكن كان يجب أن أشكَّ في شيءٍ عندما رأيتُ أن التجمعَ مُحددٌ في وقتٍ غيرِ مألوف.
“أنظروا، الأمير المستنقع جاء حقًا. لكنهُ متأخر.”
“عيناهُ حقًا بلونين مختلفين.”
“يقولون إنهُ ملعونٌ بالمانا بسبب اختلاطه العرقي.”
“مهما كان صغيرًا ولا يعرف، لم أتوقَّع أن يكون بلا وعيٍ لهذه الدرجة…….”
“بالمناسبة، إنهُ صغيرُ الحجمِ جدًا. هل هو حقًا في نفسِ عمر الأمير الأول؟”
مقرُّ إقامةِ الدوق ثيساروس ومنزلِ الملكةِ هيليا ووالدةِ الأمير الأول، لورانس دي هاربينز.
كان ذلك عشًّا للثعابين، حيث لم يكن هناكَ شخصٌ وأحدٌ يرحبُ بالأمير الثاني، الذي لم يكن لديه دعمُ قوةٍ.
“لماذا يهتمُّ بتعلُّمِ السيف؟ سمعتُ أنهُ لا يستطيع أبدًا التحكم في الهالة، ولا يستطيع حتى الشعور بالمانا.”
“سمعتُ أن جلالة الملك لا يريد التمييزَ في تعليم أبنائه، لذلك يتلقون جميعًا نفس الدروس.”
“لكن ألا ينبغي أن تكون هناكَ على الأقل بعضُ الاعتبارات؟ جلالة الملك قاسٍ جدًا.”
ماذا قصدوا بـ’قاسٍ للغاية’؟ هل كان من القسوةِ عدم مراعاةِ عدم قدرتي على أستخدامِ الهالة، مهما حاولتُ؟ أم أنهُ قاسٍ لإجباري على أخذِ الدروس مع أخي رغمَ افتقاري للموهبة؟
الهمساتُ، الضحكاتُ مثل الرياح، ورثةُ النبلاء الشباب الذين تجرؤوا على النظر إليّ لكنهم لم يحيوني حتى، رغمَ وجودِ أمير أمامهم.
كان يجب أن أغضب. كان يجب أن أتهمهم بجريمةِ إهانةِ أمير أمام عينيهِ.
لكنني لم أستطع.
تلكَ العيون القرمزية، التي تشبه عيني الملكة والدوق، كانت بيننا تراقبني وتبتسم بهدوء، مما جعل الكلمات تتوقف عندَ شفتي.
كأنها تقول ليّ، لقد خدعتُ بغباءٍ مرةً أخرى.
في النهاية، خُدعت مرةً أخرى، وهربتُ.
* * *
“العربةُ الملكيةُ قادمة!”
في قريةٍ صغيرةٍ نائيةٍ ذات حركةٍ قليلة.
من السماء الكئيبة، بدأ شيءٌ باردٌ وغير واضح. لم يكن واضحًا إن كان ثلجًا أم مطرًا يسقط، ويجعل وجنتيّ المجمدتين تشعران بالوخز.
من المؤسف أن المطر الممزوج بالثلج، الذي بدأ في السقوط منذُ دقائق قليلة فقط، يُمكن أن يكون بهذا القدرِ من البؤسِ.
لم يكن ثلجًا بالكاملِ ولا مطرًا، فقد امتصت الأرضُ بسرعةٍ وتسلَّل إلى ملابسِ القرويين الذين كانوا منبطحين.
أحدُ المسافرين المارِّين، غير مدركٍ لما يحدث، نظر حوله إلى القرويين الممددين على الطريق الريفي، ورفع حاجبيه متعجبًا.
“ما الأمر؟ لماذا أنتم هنا في هذا البرد؟”
قامَ رجلٌ مسن، سُئل السؤال، بسحب المسافر بسرعةٍ إلى الأرض.
“العربةُ الملكيةُ قادمة! أسرع وانحنِ.”
“ألا يكفي أن أحني رأسي احترامًا؟”
بدأ الرجلُ المسن، ضاغطًا على عنقِ المسافر، يشرح له بهدوء.
شعر المسافر بملابسه تبتلُّ وتصبح غيرَ مريحة، لكنهُ قرر الاستماع، نظرًا للجدية التي بدت على وجه الرجل المسن.
“قبلَ فترة قصيرة، مرَّ شابٌّ من عائلة أحد النبلاء عبر القرية المجاورة وضرب طفلًا حتى الموت. كان سيءَ الطبعِ للغاية…كان يومًا مثلجًا، والثلوج متراكمة حتى الكاحلين، لكنهُ أصرَّ على المرور بعربته. صادف أن التقت عيناهُ بعينَ طفلٍ ينظر إليه من نافذة. هل تصدق ذلك؟ الطفل تجرأ ونظر إليه من مكانٍ أعلى، فتم سحبه وضربه على الفور. لقد غمر الطفل بالدماء وتجمَّد حتى الموت في الثلج!”
الرجل المسن، دونَ أن يدرك إرتفاع صوته، سرد القصة بانفعال. بينما كان المسافر يستمع، أخذت ملامحه تتجهَّم.
“يا للعجب، ولم يتدخل أحدٌ لوقفِ هذا؟”
“كيفَ يُمكن لأي شخصٍ التدخل في تلكَ الحالةِ؟ كان سيتم ضربهم حتى الموت أيضًا. توسل والدا الطفل للرحمة، لكنهما تعرضا للضرب أيضًا. كادا يموتان، لكنهما نجيا بصعوبة. مع ذلك، كيفَ يُمكن أن تستمر الحياة بعد أن مات طفلهما أمام أعينهما بهذا الشكلٍ؟”
“ألم يتقدَّما بشكوى؟”
“هل تظن أنهم يهتمون بموتِ طفلٍ من عامة الشعب؟ إذا كان النبلاء يتصرفون بهذه الوحشية، فكيفَ تظن أن العائلة الملكية ستكون؟ لذا، انحنِ وابقَ رأسك منخفضًا.”
بعد سماعِ قصةِ الرجل المسن، أرتجفَ المُسافرُ وانحنى على الأرضِ مُطيعًا.
قرَّر أنهُ بمجردِ مرور العربة، سيبحثُ عن نزلٍ، وينغمس في حمامٍ ساخن، ويبقى هناكَ حتى يتحسَّن الطقس.
في تلكَ اللحظةِ، انبعث صوتُ أنينٍ وصوتٌ بائسٌ لامرأة.
“هل يُمكن لأحدكم إخفاء طفلي؟ ليسَ لديّ ملابس جافّة لألبسه.”
كانت أمًّا متشرّدةً وطفلُها بجانبِها، ينشج وينظر إلى أمّه.
تقدَّم زعيمُ القرية، أو على الأقل شخصٌ يبدو كذلك، وقال.
“العربةُ تتحركُ بسرعةٍ كبيرة! سأوفّر لكِ مأوىً في منزلي، ولكن الآن انحنِ. إذا تمَّ رؤية طفلكِ وتعرَّض للضربِ حتى الموت، ستندمين!”
سارعت المرأة، بوجهٍ شاحبٍ، إلى الضغطِ على رأسِ طفلها.
في الصمتِ القصير، الذي كسره نشيجُ الصبي بين الحينِ والآخر، بدأ صوتُ اقترابِ خيولٍ تزدادُ حدته.
إرتفع صوتُ حوافرِ الخيول كأن شيئًا طارئًا قد حدث.
فكَّر المسافرُ في نفسه كم أن مملكةَ هاربينز قاسيةٌ، وأنتظر بصبرٍ مرورَ العربة.
* * *
“هيك، هااه، هيك….”
وسط اهتزازاتِ العربة، ترددَ صوتٌ مكتوم، سواء كان ضحكًا أم نحيبًا يخرج من بين خصلاتِ الشعرِ الأخضرِ الباهتِ المتشابك.
الجسدُ الصغير، المرتعشُ إما من البردِ القارسِ أو من مشاعرَ لا يُمكن كبحها، انطوى على نفسه بإحكام، ما جعله يبدو أصغر. كانت الخطوطُ المبلّلةُ التي تجري على العينين المحمرَّتين تتسربُ بين الأصابع، مبللةً الركبتين وسالبةً الدفءَ القليلَ المتبقي، لكن يديّ الطفل كانتا مشغولتين بكتمِ البكاء دونَ أن تفعلَ شيئًا حيالَ ذلك.
كان الفارس الذي يقودُ العربة يقبضُ على صدره، عاجزًا عن مواساةِ الأمير الصغيرِ الباكي داخل العربة. المطرُ الممزوجُ بالثلج، الذي بدأ يتساقطُ دونَ سابقِ إنذار، أزعجه.
كم من الوقتٍ مضى والطفلُ يبكي؟ فتحَ الأمير، بجفونٍ متورّمة، نافذةَ العربة على أملِ تبريدِ عينيهِ المنتفختين.
أندفعَ الهواءُ الباردُ والثلجُ الممزوجُ إلى داخلِ العربة. كان المطرُ المتجمّد، الذي لم يكن ثلجًا كاملًا ولا مطرًا، غيرَ مرحبٍ به، كما كان الأمير نفسه، وكان يلسعُ وجنتيهِ المجمّدتين.
“يا أمير! ستصابُ بالبرد! أرجوكَ أغلق النافذة!”
“مجردُ لحظةٍ أخرى. كم تبقى للوصول؟”
“ما زال أمامنا حوالي ساعتين. نحن نقتربُ من قريةٍ قريبًا، لذا أرجوكَ أغلق النافذة.”
عندَ ذكرِ القرية، أندفعَ الأمير بنظرهِ للخارج لينظرَ إلى مدخلِها القادم. على الرغمِ من الثلجِ الممزوجِ، كانت عيناهُ الحادَّتان تسمحانِ له برؤيةٍ بعيدة.
رأى القرويين يسرعون للانبطاحِ أرضًا. مستغربًا من تصرفهم الغريب، صاح الأمير على فارسه الجالسِ في المقعدِ الأمامي.
“سير إيفان! لماذا يفعلُ القرويونَ ذلك؟”
“إنهُ احترامًا للعربةِ الملكية، يا أمير! أرجوكَ، أدخل، الجوُّ بارد!”
“ماذا؟ من ينحني بهذا الشكلٍ في هذا الطقس؟ أطلب منهم أن ينهضوا!”
“لو نزلتَ وأبلغتهم بهذا، سيزدادون ذعرًا. من الأفضلِ أن نمرَّ بسرعةٍ.”
“إذن أسرع ومرَّ بسرعةٍ!”
“…عذرًا؟”
“أسرع ومرَّ عبر القرية! بسرعةً، بسرعةً! المطرُ الممزوجُ بالثلج يتساقط!”
كان السير إيفان مرتبكًا من إلحاحِ الأمير، لكنهُ نفَّذ الأمر وزادَ من سرعةِ العربة.
تمتم الأمير بشيءٍ لنفسه، لكن السير إيفان لم يجرؤ على قول. ‘قلتُ لك، قلتُ إننا ما كان يجب أن نأتي.’
لأنهُ لم يستطع إيذاءَ قلبِ القطِ الصغيرِ الرقيق.
القطُّ الصغير، الذي كان يبكي بصمتٍ حتى لحظاتٍ قليلةٍ مضت، باتَ الآن يضربُ ظهرَ السير إيفان من نافذةِ العربة.
عندما رأى الأمير الشاب يستعيدُ بعضًا من طاقته، شعر السير إيفان ببعض الراحة، لكنهُ صرخَ مدّعيًا التذمر.
“يا أمير، ضربُك ليّ لن يجعلَ الخيولَ تسرع أكثر!”
“أسرع، أسرع!”
“أنا أضغط عليهم بالفعل! الأرضُ بدأت تتجمَّد، وإذا لم نكن حذرين، فقد نكون في خطرٍ حقيقي!”
“الطريقُ مفتوحٌ على مصراعيه! ماذا قد يحدث؟ فقط أخرج من القريةِ بسرعةٍ!”
كان الأمير الصغيرُ يضربُ قدميه داخل العربة، ناسيًا أنهُ كان يبكي قبلَ لحظاتٍ فقط.
لماذا بحق السماءِ بدأ المطرُ الممزوجُ بالثلج الآن؟ لو علمتُ بذلك، لانتظرتُ قليلًا قبلَ المغادرة. كان يجب أن أدع القرويين يعودونَ إلى منازلهم قبلَ أن أخرج.
بينما كانت هذه الأفكارُ تترددُ في ذهنه، تذكر عينين قرمزيتين على شكلٍ هلالٍ تمرَّان بذاكرته.
لا، لم يكن بإمكانه الانتظار أكثر.
كان هذا كله بسببهِ، هو فقط، وتساءل وهو يحاول كبحَ دموعه التي تهدِّد بالظهور مجددًا وهو ينظر من نافذةِ العربة.
وسط المناظرِ الخاطفة، شعر وكأنهُ لمحَ طفلًا، بخدَّين ويدين حمراء من البرد، يلتقي نظره مع عينيهِ.
لماذا أنتَ في هذا الطقس؟ لماذا لم تذهب للداخل؟
غير قادرٍ على التعبيرِ عن إحباطه على القرويين، صبَّ غضبه على فارسه بدلًا من ذلك.
“هل وصلنا؟ أسرع أكثر!”
“إلى أيِّ حدٍّ تريدني أن أسرع! بهذه السرعة، قد…، أوغغ!”
هـيييي—
صوتُ صراخِ الخيول أرتفعَ فجأةً، متبوعًا بصوت إرتطامٍ شديدٍ بشيءٍ ما.
اهتزَّت العربةُ بعنف.
بذلَ السير إيفان كلَّ قوته لتهدئةِ الخيول. لقد كادت العربةُ أن تنقلب.
“ماذا حدث؟ ما الذي يجري؟”
“طفلٌ ركض فجأةً وصدمه الحصان!”
“ماذا؟ سير إيفان، توقف! توقف الآن!”
كانت العربةُ تتباطأُ بالفعل، لكنها كانت تتحركُ بسرعةٍ كبيرةٍ، مما أستغرق بعضَ الوقتٍ حتى توقّفت أخيرًا.
بمجردِ توقفِ العربة، أنفتحَ البابُ على مصراعيهِ، وظهر رأسُ الأمير بشعرٍ أخضرَ داكنٍ يبرزُ منه.
مرعوبين، أدار القرويونَ رؤوسَهم على الفورِ للنظرِ، وعيونُهم التقت بزوجٍ من العيونِ المختلفتينِ في اللون.
عندما أدركوا أنهم التقوا بنظرٍ ملكيّ، أنطلقت منهم شهقاتٌ، وسارعوا إلى وضعِ وجوهِهم على الأرضِ مجددًا.
رؤيةَ ذلك، شعر الأمير فجأةً بموجةٍ من العواطفِ وصرخَ.
“ماذا تفعلون! هل سقطَ منكم شيءٌ على الأرض؟ أذهبوا إلى الداخل، جميعكم!”
قفزَ الأمير من العربة، غيرَ مبالٍ بأن الماءَ قد بللَ حذاءهُ وسرواله، وركضَ عائدًا عبرَ الطريقِ الذي سلكتهُ العربة.
‘هذا كله خطئي. لأنني صرختُ على السير إيفان، لم يرَ الطفل.’
لا بدَّ أن الطفلَ قد مات. لا يُمكن لأحدٍ أن ينجوَ من ضربةٍ كهذه من عربةٍ مسرعة.
خلفه، كان يسمعُ فارسه يصرخُ بشيءٍ ما، لكن أنفاسهُ الثقيلة غطّت على الكلمات. كان الجوُّ باردًا، وبدأت ساقاهُ تشعرانِ بالتجمد.
أستمرَّ المطرُ الممزوجُ بالثلج في تبليلِ شعرهِ وملابسه، وكلُّ نفسٍ يُخرجهُ يصنعُ زفيرًا أبيضَ يتبددُ بعدَ لحظات.
كم من المسافةِ ركض؟ قريبًا، رأى بركةً حمراءَ مكدسةً على جانبِ الطريقِ الذي سلكتهُ العربة. كان هناكَ شيءٌ بالكاد يُرى.
كان طفلًا.
يُتبع….