For you in the cage - 5
فتحت كانارين عينيها. البحيرة ٱلتي كانت تَتدفَّقُ بِهُدوءٍ، و الفتى الذي كانَ يستَمِعُ إِلى أُغنيَتِها بِجِدِّيةٍ، و الوَعدُ العابِرُ الذي قَطعهُ الطِفلُ مَعها، كُلُّها كانت أَحلامًا.
غُرفةٌ في قَصرِ الإمبراطورية مُحاطةٌ بِجُدرانٍ سَميكةٍ و سُقوفٍ مُقفَلةٍ تَكتِمُ أَنفَاسُها. هذا هوَ الواقِعُ الذي تواجِهُهُ.
رُبَّما لِأَنها رَأَت حُلمًا سَارًّا، كانَ الواقِعُ اليوم يُشعِرُها بِالبؤسِ أكثر.
تَتَبعت كانارين ذاكِرتَها. لا بُدَّ أَن البحيرة كانت قَريبةً مِنَ القرية التي عَاشَت فيها. و لكِنها لم تَتَذكر أَبدًا لِقاءَ الفَتى.
كانَ يُقالُ إنّ الاحلامَ هيَ تَجَلٍّ للاوعي. رُبَّما كانت رَغبَتُها اللاواعيَةُ في العودةِ إِلى قريتها هيَ ما خَلقَ هذا الحُلمَ. لِأَنها أرادت أَن تَرى قريتها حتّى في الأَحلَام.
“هل أستيقَظتِ؟”
“……!”
أَثارَ صَوتٌ غَليظٌ و غيرُ مُتوَقعٍ ذُعرَ كانارين. سَارَعت لِتُغطي جَسدها بِالبطانية و بَدأَت تَنظُرُ بِارتِباكٍ في الجهةِ التي جاءَ مِنها الصوتُ العميقُ.
“إِذا كُنتِ تَشعُرينَ بِالتعَبِ، يُمكِنُكِ النومُ أكثر.”
ظَهرَ يوليف، واقفًا قُربَ الباب.
أَطلَقت كانارين زفيرًا خفيفًا مِنَ الراحة. و معَ ذَلكَ، كانت مُشوَّشةً لِلحظةٍ.
لِماذا شعرت بِهذهِ الطُّمأنينة؟ فالواقِع المُتَمثلُ في حَبسِها بِقصرِ الإمبراطورية مازالَ كما هوَ.
“رُبَّما لأَن الأَمرَ لا يَهُمُّ، ما دامَ الشخصُ الواقِفُ ليسَ ديلتينوس.”
“هل تَرغَبينَ في النومِ أكثر؟”
هَزَّت كانارين رَأسها نفيًا. كانَ الكلامُ لا يَزالُ غَيرَ مَريحٍ لها. و في الوقتِ نفسهِ، لم تَشعُر بأَيِّ تَعبٍ جَسديٍّ على الإطلاق.
لم يَطرح عليها ديلتينوس أَيَّ سؤَالٍ قطُّ. لم يُحاوِل حتّى إِجراءَ الحِوَار. كانَ يُصدِرُ الأوامِرَ فقط. كانَ كُلُّ ما عليها فعله هوَ الغِناءُ كما يَشاءُ، أَو الأَنين و الصُّراخ. لم تَكُن مضطرة لِقول أَيَّ شيءٍ.
“أَينَ المَكانُ الذي يؤلِمُكِ؟”
معَ ذلِكَ، كانَ يوليف يستمِرُّ في طَرحِ الأَسئِلة. كانت تلكَ الأَسئِلةُ تحتاجُ إِلى إِجابةٍ. و كانت كانارين تشعُرُ بِالغَرابة من هذِهِ الأَسئِلةِ، كما كانت تشعُرُ بِالغَرابة تجاهه.
كم مَرَّ من الزمَنِ مُنذُ أَن حُبِست في القصرِ الإمبراطوري؟ بَدت الأَيامُ المُعذبة و كأَنها أَصبَحت جُزءًا من الروتين اليوميِّ.
لكنها لم تَستطِع التأَقلُمَ معَ هذا الواقِع.
التأقلم كانَ صِراعًا لِلبقاء، و في الوقتِ نفسه دَليلًا على تَحطُّمِ الروح.
“هل الوَضعُ سيِّءٌ إِلى هذا الحَدِّ؟”
“آه…”
لم تُجِب. بَقيت صامِتةً، فَطرحَ عليها يوليف سؤَالًا آخر.
هزَّت كانارين رَأسها بوضوحٍ. يوليف، الذي كانَ على وَشكِ التقَدُّمِ نَحوَها، تَوقفَ في مَكانِهِ.
“الإمبراطور لَن يأتي.”
“….ماذا؟”
“لَن أَسمحَ لَهُ بِالمَجيءِ. و لَن يَلمسكِ أَبدًا مرَّةً أُخرى.”
نَزلت كانارين من سريرها و أَمسَكت بياقة قميص يوليف. بَعدَ انتِظارٍ طَويلٍ، تَأَلقت عيناها بِبارِقةِ أَملٍ.
كما أَمَلت، و كانت مُحِقةً. يوليف كانَ إِلى جانِبها. لم تَكُن تَعلمُ السبب، و لكِنها كانت تؤمِنُ بِأَنهُ يُحاوِلُ مُساعَدتها.
سَواءٌ كانَ ذلِكَ دافِعُهُ التعاطُف، الشفَقة، أَمِ الِاشمِئزاز مِنَ الإمبراطور، لم يَكُن ذلِكَ يُهِمُّها. ما يهُمُّ هوَ أنّها تَملِكُ شخصًا إِلى جانِبها، و أَنهُ قادِرٌ على الوقوفِ في وجهِ الإمبراطور.
“آه، أُو… أُوه…”
‘أَخرِجني من هذهِ الغُرفة، مِنَ القصرِ الإمبراطوري. دعنِي أَعودُ إِلى مَنزِلي.’
ما حَاولَتْ قولَهُ، و ما أَرادَتهُ، لم يَكُن بِلُغتِها المألوفة، كُلُّ ما خَرجَ مِنها كانت أَصواتًا تُشبِهُ عواءَ الحيوانات.
كانت تَتحدثُ لُغةَ الهويرا، لا لُغَة الإمبراطورية التي يَفهمُها يوليف. عديمةُ الحيلَةِ، رَاحت تَركُلُ الأَرضَ بِغضَب و تَشبثت أَصابِعُها بياقة قميص يوليف، تَشُدُّهُ بِقوة أَكثر.
“أستخدمي هذا.”
ما حَملهُ يوليف كانَ قلَمًا أسود. أمسكت كانارين الكِتابَ الذي كانَ مُلقى على الأرض و بدأَت تَكتُبُ فيه. لم تَكُن يَداها قادِرَتين على الكِتابة لأنه مَرَّ وقت طويل مُنذ أن استخدمت يَداها لدرجة أنها شَعرت أنها تَجمدت ألى حدٍ ما أنها لم تتمكن من الكَتابة بِشكلٍ صحيح. فوقَ ذلك، كانت لُغةُ الإمبراطورية أَصعَبُ في الكَتابةِ منها في التحدث.
“قد جِئتُ بِالإفطار. هَل يمكنني الدخول؟”
كانت تتوقع رؤية كانارين لذا تفاجأَت خادمة القصر برؤية يوليف يَفتحُ الباب، فأتَّسَعت عيناها في دهشَةٍ.
حَذرَها يوليف بعيونٍ بارِدةٍ:
“لا تُثيري ضجةٍ و اخرُجي.”
كانت الخادمة سريعة البديهة، لذا سارَعت بِتقديم الصينية ليوليف و هرعت بسرعة للخروج.
رَغمَ تحذيرهِ لِلخادمة، كانَ يَعلمُ أَنَّ هذا سَيصِلُ إِلى أُذُنِ الإمبراطور في النهاية.
نظر يوليف إلى الطعام، كان مريعًا. كانت الصينية تحتوي على حساء مائي، وبعض الخبز القاسي، وكوب من الماء.
‘هل كانت تَأكُلُ هذا فقط؟’
“كانارين.”
“نعم!”
“هل أنتِ جائِعة جِدًّا؟”
كانت كانارين بالكادِ تَسمعُ سؤاله. كانت أَفكارُها تَتركزُ على كِتابتِها لِرِسالتِها إلى يوليف. بالكادِ أكملت الجُملة في حينِ هو أستخدم سحره لأبعاد الطعامِ الردِيء.
“آه… أوه!”
كانت تُنادي يوليف، لكِنَّ كُلَّ ما خرجَ من فمِها كانَ تلعثمًا غيرَ واضِحٍ. معَ ذلك، بَدا أَن يوليف فهِمَ و اقتربَ منها.
عَرضت لَهُ ما كَتبتهُ حرفٍ بَعدَ حرف.
<مِن فضلِكَ، ساعِدني على الخروج مِنَ القصر. مِن فضلِكَ.>
“حتى لو لم تَفعلي، كُنتُ سأَتَحدثُ بشأن هذا.”
<أَنتَ سَتُساعِدُني، أَليسَ كذلك؟>
“أَولًا، لِنأكُل، و بَعدَ ذلك سَنتحَدت.”
<لا أَشعُرُ بِالجوع! مِن فضلِكَ أَجِب أَولًا.>
“سأُساعِدُكِ.”
أضاء وجهُ كانارين بِالفرَح، و لكِنَّ فرحها زَالَ عنها عِندَ سماع يوليف يقول كلِماته التالية.
“لكِن ذلك سيستغرق وقتًا.”
لم يُرِد أَن يَقولَ لها أَن تَنتظِر. لم يُرِد يوليف أَن يُحبِطَ كانارين. معَ ذلك، كانَ لا مَفرَّ.
جَسدُهُ لم يَكُن في حالتِهِ الطّبيعيّة بَعدُ، و كانَ يَحتاجُ إلى أَن يَكونَ قادِرًا على استِعمالِ نِصفِ قوَّتهِ الطّبيعيّة على الأَقَل ليكونَ قادِرًا على أَخذِ كانارين و أخراجِها بِأَمانٍ.
كانت هذهِ مَسأَلةً سَتأخُذُ بَعضَ الوقْت لِتُحَلَّ. لقد عادَ في الزّمن، و لكِنهُ في النّهاية لم يَستطِع هَزمَ الوقْت.
لم تَقُل كانارين شيئًا آخر. كانت تَنظُرُ إِلَيهِ بِعُيونٍ ممزوجَةٍ بِحُزنِها و غَضبِها.
خرجَ يوليف من غُرفةِ كانارين و أَغمضَ عينيه ثُمَّ فَتحَهُما. كانَ الإحساسُ بِالتعبِ الطفيفِ مُزعِجًا. و فيما كانَ يمشي و هوَ يَضغطُ على صدغيه، بَدأَت رؤيَتُهُ تَتأثر.
رَأَى شَخصًا آخرَ يمشي في اَتجاهٍ مُعاكس لهُ، و بدأت صورَتُهُ تَتشوش.
“تبًا، لِماذا في هذا الوقت؟”
لَمسَ يوليف الحائِط و اتكئ عليه. أصطدمت يدُهُ بمِقبضِ بَابٍ. و لَحُسنِ الحظِّ، لم يَكُن البابُ مغلَقًا.
كما لو كانَ على حافةِ الانهيار، دَخلَ إلى الغُرفة و أَغلقَ البابَ وراءَهُ. رائِحةُ الوَرقِ القَديمِ و الغُبارِ تَفَشت في الهواء. بَدت الغُرفة كغُرفةٍ لِلتخزينِ أَو مَكتبَةٍ.
“سعال، أَه!”
مرَّةً أُخرى. تِلكَ الآثارُ الجانبيّةُ اللَّعينةُ.
تقيأ يوليف و قَذفَ دَمًا أسود.
ثَمنُ انتِهاكِ القواعدِ المُطلَقةِ التي تُشكلُ هذا العالم كانَ يَطالُهُ من وقتٍ لِآخر. أَلمٌ لا يوصَف، مُرعِبٌ، اجتَاحَهُ. كانَ يَختَنِقُ و هوَ يَقذِفُ الدَّمَ. و كانَ قَلبُهُ يَشعُرُ و كأَنهُ على وَشَكِ الانفِجار.
“هَاه…!”
بِمُجردِ أَن تَبدَأَ التشنُّجات، لا يَتوقفُ السعالُ، كانَ كأَنَّ كُلَّ الدَّمِ في جَسدِهِ على وشَكِ أَن يَفرِغَ. و حتّى بَعدَ أَن تَوَقفَ السعالُ، لم يَذهَب الألم، فكانَ عليهِ أَن يَستَرِيحَ لِبعضِ الوقت. حتّى قَولُهُ إِنهُ في حاجةٍ إِلى الوقت كانَ بِسببِ هذهِ التشنُّجات غَيرِ المُنتظِمةِ.
هذا ما يَحدُثُ عِندما يتِم رَبطُ الروحِ بِالجَسدِ عَبرَ مَحاوِرِ زَمنيةٍ مُختلِفةٍ قسرًا. و رَغمَ عِلمِهِ بِذلك، اختارَ يوليف هذهِ الطّريقة.
لِأَنهُ كانَ السَّبيلَ الوَحيد الذي يَستطِيعُ مِنهُ إِنقاذَ كانارين.
“لِكي أُنقِذَ كانارين، عَليَّ أَن أَعود.”
أصدرَ يوليف تأوهًا بصوت اختناق. نهضَ وهوَ يَضعُ قبضتيه على الأرض، ثم سقط مرة أخرى.
في النّهاية، لم يَكُن لديهِ خيارٌ إِلا أَن يَخرُجَ ليحضر طعامًا و ملابس لائِقةً.
“لحُسن الحظ لم أفعل هذا أَمامَ كانارين.”
لم يَكُن يَعلم. لم يَكُن قادِرًا على التفكير. الجسَدُ، الذي لم يستطِع تحمُّلَ الأَلم، كانَ يَفصِلُ وعيَهُ قسرًا.
توترَ يوليف و حاولَ أستعادة قوتِهِ السحرية، و لكِنهُ فشل. بَل تَدفقَ سَيلٌ هائِلٌ من الدَّمِ من فمه
ثُمَّ تحول كل شيء ألى ظلام.
—
مرَّت يَدٌ بارِدةٌ ببطءً على جِلدِها. كانت رَطبةً و بَارِدةً، تَجري من ذِراعِها إِلى جانِبِ رَقبتِها، ثُمَّ تصِلُ إِلى قفا عُنُقِها.
شخصٌ ما كانَ يمُرُّرُ يدهُ على جسدِها. ذلك الشعور المروع أَيقظَها على الفور.
فَتَحت كانارين عينيها. في الظُّلمَة، كانَ ظهره موجهًا إلى ضوءِ القمر، ارتفعت زَوايا شفتَي الرجُلِ إلى الأَعلى و قال:
“طائِري الصّغير قد فَتحَ عينيه.”