For you in the cage - 2
وجـهُ الرجـل كـان مشـابهاً لوجـه الإمبـراطور ديـلتينوس.
علـى الـرغم مـن أنّ وجـوهـهمـا كـانـت متطـابقة، إلاّ أنّ الإحسـاس الـذي ينقـله كـل منهـما كـان مختلفـاً.
بخـلاف ديـلتينوس، الـذي بـدا مـزداناً ومـتساهلاً بشـعر طـويل يـمتدّ إلـى خصـره، كـان يـوليف مرتّبـاً وأنيقـاً. بـدا أكثـر كـمالاً مـع تـناسق تـعبيره الهادئ والـخالي مـن المشـاعر.
ديـلتينوس لـم يعـجبـه ذلـك أبداً. رغـم أنّ يـوليف اتّبـع أوامـره بعـدم تطويـل شعـره.
“لماذا الدوق هـنا؟ ألـم يكن مفترضـاً أن تكون في الشـمال؟ لـم تتـواصل معـي إطلاقاً.”
كـان ديـلتينوس واضـحاً فـي استـيائه. قصـدُه أن يـقيّد كـلام يـوليف وأفعـاله بـتثبيـت مكانـته كـزائر غيـر مرحّـب بـه.
“اكتشفـت مـتأخراً أنّ جلالـتك قـد زرتـم المـقاطعة. أتـيت لأعتـذر عـن قلّـة الأدب لعـدم قـدرتي علـى استـقبال جلالتـك هنـاك.”
—
كـان الأمـر مضحـكاً.
مرّت شـهران منـذ أن أخـذ ديـلتينوس كـانارين مـن مقاطـعة يـوليف. ورغـم ذلـك، فقـط الآن جـاء ليعلـن القـصة.
شخـر ديـلتينوس.
“ألـيس الإعتـذار متأخـراً جـداً؟ عـلى كـلٍّ، يسعـدني سـماع أنّ الدوق يفـكر بـهذا الشـكل فـي الإمبـراطور. هـل نستمـع إلـى غنـاء قبـيلة هـويرا كمـكافأة؟ هـلاّ تنحـيت عـن الطريـق، أيهـا الدوق؟”
خطـا ديـلتينوس خـطوة نـحو كـانارين بـابتسامة.
شعـرت كـانارين بنـظرة ديـلتينوس التـي كـانت كـشفرة بـاردة، فارتعشـت.
الخـوف الّـذي كان قـد تلاشـى مـع الظهـور المفـاجئ ليـوليف عـاد للحـياة بـسرعة.
فـي الوقت ذاتـه، تحرّك يـوليف بـهدوء ليـعيق وصـول ديـلتينوس إلـى كـانارين بجـسده.
كتـفاه العريضـان كـانا أكثـر مـن كافـيين لحـجب كـيان كـانارين النحيـف كـاملاً.
ارتعشـت زوايـا شفـتي ديـلتينوس بـدقة.
—
“أن تُجـرؤ عـلى إعـاقة طريـق الإمبـراطور وأنت فقـط دوق؟ هـل جُنِنت؟”
“سـمعت أنـك قـمت بصيـد قبـيلة هـويرا فـي مقاطعـة روبـيوس.”
كـان القـرية التـي يعيـش فيـها أهـل هـويرا ضمن ممتلكـات يـوليف.
وحـتى مع سـنّ قانـون إقلـيمي يـحظر الصـيد، لـم يستطـع يـوليف إيقـاف الإمبـراطور ديـلتينوس.
ابتسـم ديـلتينوس ليـوليف.
ارتسـمت عـلى شفتيـه انحنـاءة مُريحـة، ولكـن عينيـه كـانت بـاردة وهـو يحمـل نظرتـه نـحو كـانارين.
“نـعم، وبفضـلك وجـدت الطيـر الّـذي أعجـبني.”
“عـلى الأقـل فـي مقاطعـتي، صيـد أهـل هـويرا مُحظـور بموجـب القـانون.”
“هـل تعتقـد أن القـانون الإقلـيمي يعلـو عـلى الإمبـراطور؟ دوق روبـيوس، أنـت لا تعـرف مقـدارك.”
“علـى جلالـة الإمبـراطور أن يكـون قـدوة لشـعب الإمبراطـورية.
هـل يجـب أن تنتهـك قانـوناً تـافهاً فقـط مـن أجـل امرأه؟”
—
ارتسـمت شرارة توتـر واضـحة بـين يـوليف وديـلتينوس.
هبـت ريـاح بـاردة داخـل قاعـة الحفـل، وأحـنى النبلاء رؤوسهـم خشـية عصـيان الإمبـراطور الغاضـب، ولكـن الموقـف غيـر المتوقـع كـان مشـوقاً جـداً.
لم يـعترض يـوليف علـى ديـلتينوس مطلـقاً.
بغـض النظـر عـن مـدى غيـر عقلانيـة الأوامـر، كـان ينفـذها بـلا نقـاش.
وحتـى بعـد الأمـر المذلّ بسـحب لقـب العائـلة الملكيـة “إليمـيان” مـنه، واستخدام لقـب “روبـيوس”، لم يظـهر يـوليف أي امتعـاض.
وحتى حيـن طُلب منـه مواجـهة البربـر وحـيداً، أطـاع بـدون شكـوى.
لكـنه الآن يتصـدى لديـلتينوس علانيـة، مـما يعنـي أن هنـاك سبـباً مـا.
“اصـمت!
إن لـم تتنـحّ عـن طريـقي، سـأقطـع رأسـك لعصـيانك.”
بالـرغم مـن تهديـدات ديـلتينوس، وقف يـوليف بثبـات بـلا تـردد.
اخفت كـانارين نفسـها تمـاماً خلـف ظهـره، حتـى أنـه لـم يعـد يُرى شـعرها.
شعـرت كـانارين بهالـة غريبـة، فـأمسكت بطـرف معطف يـوليف.
كانت قلـقة ممـا سيحـدث لهـا إذا أبـعد هـذا الرجـل يـدها، ولـكن لحسـن الحـظ لـم يبدِ يـوليف أي ردة فعـل.
كانـت كـانارين تشـعر براحة أكبـر مـع يـوليف البـارد الـذي لم يلقِ عليهـا ولو نظـرة واحـدة.
عـلى الأقـل لـم يكـن يوليف مثـيراً للاشـمئزاز بالنسبـة لهـا.
لا عـداوة هنـاك، ولا رغبة، أو هكـذا اعتقـدت.
“طـائري يـبدو خجـولاً قليـلاً، سـأدعـه يستـريح الآن.
تـقدموا.”
أغنيـة كـانارين أفسـدت الجـو الـذي أعده ديـلتينوس بأفضـل طريقـة.
تجـاوز ديـلتينوس يـوليف واقتـرب مـن كـانارين، يـطحن أسـنانه داخليـاً.
بعـد الحفـل، سيجـب أن يعـاقب الطـائر الغبـي الـذي يـبدو أنـه لا يعـرف صـاحبه.
إعلان الحـرب الـذي أطلقـه يـوليف جاء مـدويّاً أثنـاء رفـعه للقيـود المـتصلة بالأصـفاد فـي كاحلـيها.
“سـآخذهـا.”
“…مـاذا قلـت؟”
—
—
“بالنسبـة لجلالتـكم، قـد تكـون هـي مجـرد وسـيلة تسـلية، ولـكن بالنسبـة لي، فهـي مـقيمة دائمـة يجـب حمايتهـا.
لا يمكـننا تجاهـل المـقيمين الدائمـين الـذين يعـاملون كـالعبـيد.”
“لا تسـئ الفهـم.
بصفـتي دوق الإمبراطـورية، لا أسـلمها لأي أحـد.”
“آه!”
جـذب ديـلتينوس السلسـلة المتصـلة بكـانارين بشـدة.
وعلـى الرغـم مـن أن ذراع يـوليف كانـت لا تـزال ملفوفـة حـول خصرهـا، إلا أن كـانارين فقـدت توازنـها فجـأة وسـقطت بلا حـول ولا قـوة نحـو ديـلتينوس.
ولكـن فـي اللحظـة ذاتـها، انقطـعت القيـود الـتي كـانت تقيـد كـانارين كمـا لو كـانت خيـطاً رفـيعاً.
يـوليف، الـذي قطـع السلسـلة بسـحره، ضغـط قليـلاً بذرراعـه الـتي كانـت تـضم كـانارين ليبقيهـا قريبـة منـه.
تصلبـت ملامـح ديـلتينوس عـندمـا شـاهد الإثنيـن متقاربـين لهـذه الـدرجة.
“كـانارين لا تنتمـي لأي أحـد.”
—
“أنـا سيـد الإمبراطـورية. كـل مـا ينتمـي للإمبراطـورية ينتمـي لي. بـلا أي اسـتثناء!”
“كـانارين ستكـون الإسـتثناء. وسـأجعلهـا كـذلك.”
“أيـن الحـراس؟!
اعتقـلوا دوق روبـيـوس علـى الفور لعـدم طاعـته الإمبـراطور!”
صـرخ ديـلتينوس بغضـب.
ركـض فرسـان القصر المـلكي، الـذين كـانوا يحرسـون خـارج قاعـة المـأدبة، وسـطوا علـى الثلاثـة.
ولكـن لم يهـجم أي منهـم.
يـوليف كـان سـاحراً يتجـاوز حـدود البشـر.
لم يكـن خصمـاً يسـتطيع أحـد مواجـهته لمجـرد أن أعـدادهم كـانت أكبـر بعـدة مرات.
“آآآآآه!”
فـي تلـك اللحظـة، فقـد أحـد الفرسـان أعصـابه وتغلبـت عليـه الضغـوط، فانطلـق نحـو يـوليف بتهـور.
“أيّـها الأحمـق.”
—
“عـاصفـة ريـاح قويـة هبّت قبـل أن تختـفي الـصوت البـارد.”
“تم سحب فـارس شـرعي بواسطة الريـاح وصـدم في جـدار قاعـة المـأدبة.”
“تحطـم الحجـر. تحوّلت وجوه الجميـع إلى البياض عند مشـاهدة الدروع المحطمة.”
في القصر الإمبراطـوري، أمـام الإمبـراطور، استخدم يـوليف السـحر. ظنَّ الجميع أن هذا شيء مستحيـل.
“لم أقتله.”
“أنت مجنـون حقاً.”
“أعتقد أنه من واجب دوق الإمبراطورية مقاومة الأوامر الخاطئة. من فضلك، استرجع الأوامر التي أعطيتها للفـرسان. لن أتراجع حتى أؤدي واجبي.”
كأنما ليثبـت كلامه، توقـف يـوليف فجأة عن تحريـك قوته السـحرية. كانـت كانارين التي في ذراعيه ترتجف. كل اهتزاز منه كان يمر عبر جلده ويصل إليها.
—
“كان يـوليف يربّت بلطف على رأس كانارين.”
“كانت يده كبيرة ودافئة. كانت مختلفة عن يدـي ديلتينوس التي كانت دائمًا باردة ومبللة؛ حتى لمسـة أطراف أصابع الإمبراطور كانت غير مريحة.”
رفعت كانارين رأسها بشكل غير واعٍ لتنظر إليه.
ظنّت أنها كانت تنظر للأمام، لكن يـوليف كان ينظر إليها. بهدوء وبلا انفعال.
من النظرة التي واجهتها، شعرت بحرارة غامضة. ومع ذلك، من دون أن تجد راحة من تلك الحرارة، تجنب يـوليف عيونها. لم يبعد نظره بشكل طبيعي، بل تجنب عيونها بوضوح.
ربما كان ذلك بسبب وجهها الملطخ بالدموع. كانت كانارين تفرك خديها بلطف باستخدام ظهر يدها.
“لا تتظاهر بالنبل فجأة.”
لم يكن في صوت ديلتينوس أي أناقة، كان وكأنّه يمضغ ويبصق. لأنّ الفرسان الذين كان من المفترض أن يهدّدوا يـوليف، كانوا مرعوبين بعد أن شاهدوا زميلهم الفارس يُلقى على الجدار.
—
“لم يكن ديلتينوس يتوقع أن يـوليف سيتمرّد علنًا بهذه الطريقة.”
“نقر بلسانه داخليًا.”
“سنغادر الآن. آمل أن تستمتعوا بالوليمة.”
لم يفوت يـوليف الفرصة. رفع كانارين بعناية في ذراعيه.
“كانت كانارين تومض بعينيها المستديرتين، في حالة من الصدمة.”
لم يقل يـوليف شيئًا. فقط دعم ركبتيها وظهرها بثبات، متأكدًا من أنه لا يريد أن يضعها على الأرض.
كان سيكون من المريح أن تلتف ذراعيها حول عنقه، لكنها كانت مترددة في لمس جسده. كانت خائفة من غضب ديلتينوس. لذلك، ضمت يديها معًا أمام صدرها بشكل أنيق.
“في النهاية، أنت تفعل هذا لأنك تريد أن تمتلك تلك الطفلة أيضًا!”
(كانارين ليست طفلة حرفيًا، بل هو تعبير ديلتينوس).
تسببت صرخات ديلتينوس في ارتطامها بظهر يـوليف وهو يغادر قاعة الوليمة.
—
—
“حقًا؟ حقًا، هل سيغلقها في غرفة مثل ديلتينوس؟ ينقذها فقط ليضربها؟ هل سيلعب دور ‘الأب’ ويجعلها تغني لحنها المهدئ كل ليلة?”
“أوه، آه…”
“لا تستمعي. تلك كلمات بلا فائدة.”
أجاب يـوليف بصوت حازم. كان في لهجته ما يوحي بأنه يعرف ما تفكر فيه حتى وإن لم تنطقه.
شعرت كانارين ببعض الراحة، لكنها تساءلت مرة أخرى:
“إذن، لماذا أنقذني؟”