Come and Cry at My Funeral - 8
فريسيا كانت دائمًا تكبح مَشاعِرها.
لكنَّ كلِماتهُ البارِدة أشعلَت شرارَةً مِن الغَضبِ في قلبِها.
و معَ ذلك، قَبلَ أَن تَشتعِلَ النِّيرانُ بِالكامِلِ، أَطفأَتها كلِمَاتُهُ التالية.
“مِن الأفضلِ أَن يَكونَ الأمرُ هكذا.
أَن يُولدَ طِفلٌ لِأَبوينِ مِثلنا، سَتظلُّ السعادَةُ بَعيدةً عن ذلكَ الطّفل على أَيِّ حالٍ.”
“…مِـثلُنَا؟”
“نعم.”
تَعثرَ صوتُ فريسيا أمام تَعليق إِيزار الحَادّ.
لِماذا كانت كلِماتُهُ تَصِيبُ قلبها في الصميم؟
طِفلٌ ولِدَ مِن رجُلٍ لا يُحِبُّ، و امرَأَةٍ لا تَتلقى الحُبِّ.
أَلَم يَكُن ذلكَ هوَ جوهَرُ حياتها؟
و كم كانت تِلكَ الحَياةُ بائِسةً.
عَرفت أَنَّ الطّفلَ لن يَكونُ سعيدًا، و لكِنها تَجاهَلت ذلك، بَدلًا مِن ذلك كانت تُفتِش عن سعادتِها الخاصة.
هل كانت هذه هيَ عاقِبةُ أَنانيتِها؟
“…صحيح.”
“……”
“أَنتَ على حـق.”
تمتمت، و رَأسُها مُنخفض.
“نعم… لَعَلهُ أَفضل… من الأَفضل أَن لا يولَد.”
“……”
“لي، أَنا التي هكذا… و لنا، بِحالَنا هذه.”
جَلسوا في صمتٍ لِمُدةٍ طويلةٍ.
في النّهاية، نهضَ إِيزار ليغادِرَ بِهُدوءٍ.
لم تَستطِع فريسيا أن تَجمعَ شجاعتِها لِلنظرِ إليه.
و عِندما كانَ على وشك المغادرة، تَرددَّ للحظة، لكِنهُ في النّهاية غادرَ بِدونِ أن ينطق بكلِمة و أَغلقَ الباب وراءَه.
ما الذي كانَ سَيقُولُه؟
لكِن سَرعانَ ما تَلاشت خُطواتُه.
و لم يَمضِ وقتٌ طويلٌ حتّى أخذت فريسيا أنفاسها الأخيرة. و لسببٍ غريبٍ، بقيت روحُهَا تتجول في أرجاءِ القصرِ حتّى يوم جِنازتِها.
“إِنهُم يُقيمونَ جِنازةً لِلدوقة… بالطبع.”
لكِن لم يذرِف أَحَدٌ في القصر دَمعةً واحِدةً.
و لا حتّى إِيزار، زوجُها.
كانَ تَعبيرُهُ هادِئًا، رغم أنه بَدا مُنهكًا بعض الشيء.
“لم أتوقع أَكثرَ من ذلك، و لكِن…”
و معَ ذلك، أَحَسَّت أن قلبها المَيت يَئنُّ مِن الأَلمِ مُجددًا. كانت تَعلمُ أنّها لم تَكُن زوجةً مِثاليةً، و لكِن معَ ذلك، كانَ لديها طفلٌ منه…
أَلَم يَكُن بِإِمكانِهِ أَن يذرِفَ دَمعةً واحِدةً، و. لَو على سبيلِ التظَاهُر؟
“هل كانَ الأَمرُ صَعبًا إِلى هذهِ الدّرجة؟”
اِنتشرَ أَلمٌ لاذِعٌ من قلبِ فريسيا الميّتِ إِلى حنجرَتِها.
كانَتْ تلكَ المعاناةُ نَدَمًا لا نهاية له، وشوقًا، وكرهًا، وأمنيةً وحيدة في هذه الحياة البائسة.
“من فضلكِ، ابكِ من أجلي.”
حتى لو كانت دمعَةً واحدة.
حتى وإن كانت مجرد تمثيل، فقط تظاهر…
[…ما أتعسَكِ.]
بينما بدأ وعيُها يتلاشى في السماء الداكنة، همسَ صوتٌ عميقٌ ومبحوح في أذنها.
[تموتين الآن فقط لتكتشفي قوتكِ. ومع ذلك، فقد انتهت حياتكِ بالفعل…]
نعم. في الظلام، أدركت فريسيا سخريةَ مصيرها. لماذا كان حظُّها دائمًا قاسيًا هكذا؟ أن تكتشف قوةً في وقتٍ متأخر، يا لها من سخرية.
لكن الصوت همس مرة أخرى.
[ماذا تَتَمنينَ يا صغِيرتي؟ مِن أَجلِ رَغبتِكِ و رَغبتي، أَسأَلُكِ هذا. هل سَتعودينَ إِلى عالم الأحياء مرَّةً أُخرى، حتّى و إِن كانَ الموت طريقًا أَكثرَ رَحمةً؟]
معَ ذلك، كانَ الصوت يَعلمُ تمامًا ما تَرغبُ فِيهِ فريسيا.
[…حسنًا، إِذن سَأَرافقكِ. سَأَمنحُكِ عامًا آخرَ لِحياتِك التي اِنتهت.]
و كما تَشاءِين، سَترين ذلك الرَّجُلَ يَبكي حتّى و لو لمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ.
ثُمَّ، غمرَ ضَوءٌ سَاطعٌ رُؤيَتها المُظلِمة.
كانَ ضَوء الحَياة الزَّاهِي، يَلمعُ كالمُذَنَّب.
—
في يومٍ رَبيعيٍّ مَألوفٍ، معَ نَسيمٍ لطيفٍ، خرجت فريسيا مِن كوخِها المُتوَاضِع.
—
عندما اِستيقظت، كانت والِدتُها نائِمةً تحتَ بطانيةٍ باليةٍ، تَتنفسُ بِهدوء.
والِدتُها كانت حَيَّةً.
“غريب…”
هل عَادت بِطريقةٍ ما ألى سن العِشرين مِن عُمُرِها مُجددًا؟ هل كانت السنواتُ الثلاثُ الأخيرةُ مِن زواجِها مُجرَّدَ كابوسٍ؟
و ماذا عَن ذلك الرَّقمِ الفِضيِّ المنقوش على ظَهرِ قِلادةِ الزر التي كانت تَرتَديها دومًا؟
“365…؟”
كانَ الرَّقمُ بالكادِ مرئيًا، مُتغيِّرًا معَ زاوية أنعكاس أَشِعة الشّمس.
لِلَحظةٍ، تَساءَلَت فريسيا إِن كانت قد جُنَّت.
ظَنَّت أَن لابُدَّ و أَن كُلَّ شيءٍ كانَ هَلوسةً، ناجِمةً عن هَوسِها بِحُبها الغيرِ مُتبادَل لِإِيزار.
لِذلك، قَضت اليومَ بِهُدوءٍ قَدرَ المُستَطاعِ.
إِيزار… زوجُها؟ يالَهُ مِن أَمرٍ سخيفٍ. و طِفلٌ بَينهُما؟ و ذلك الطّفل…
“هه… هَا!”
كانت ضحكةً جافةً، جوفَاء، أشبه بالهذيان.
و لكِن في اليومِ التالي، وَجَدت فريسيا نفسها واقِفةً بِجُمودٍ أَمامَ منزِلِها.
“تلكَ الرّائِحة مُجددًا.”
رائِحةُ الدَّمِ التي يَسهُلُ تَذكُّرُها، و يَستحيلُ نِسيانُها.
“…هاه.”
تَنَهدت دونَ إِدرَاكٍ، ثُمَّ أَدَارت الزِّرَّ المُثبَّتَ في قِلادتِها بِبُطءٍ.
الرّقم في الخلف أصبحَ الآن “364” مُتوهجًا بلونٍ فضيًّ لامِعٍ.
إِذن، تِلكَ السنين الماضيةُ لم تَكُن كابوسًا.
لقد حدثَ حقًّا، و قد مَنحها كائِنٌ عظيمٌ بِرَحمةً ما سَنةً إِضَافيَّةً.
‘و يومٌ واحِدٌ قد مَضى بالفعل.’
عِندما يصِلُ الرّقمُ إِلى الصفرِ، سَتنتهي هذهِ الحَياةُ التي مُدَّت بِمُعجِزةٍ.
‘ماذا يجِبُ أَن أفعل؟’
يُمكِنُها الهرَبُ في هذهِ اللحظة، مِن هذا المكان.
… و لكِن، زوجةُ أَبيها و الفُرسان في الداخِل قد يُمسِكونَ بِها سَريعًا. و إِذا حدثَ ذلك، فَسيكون مصيرُها الحتمي الزواج مِن إِيزار مرَّةً أُخرى.
و معَ ذلك، تِلك الأمنية العميقة التي تمنّتها عِند حافة الفناء عادت لِتطفو على السطح.
‘أُريدُ أَن أَراكَ تبكي بِسببي، و لو لمرَّةً واحِدةً.’
تَصلبت عيناها الخضراوَتان بِعزيمةٍ راسِخةٍ.
كانت عِلاقتُها بِزوجِها أشبهُ بمَشروع حياكةٍ فاشِلٍ. مهما كانَ النَّمطُ رائِعًا، فإِن كانت الغرزَةُ الأُولى خاطِئَةً، فكُلُّ شيءٍ يُصبِحُ عَبثًا.
تِلكَ الغرزَةُ الأُولى.
يَجِبُ أَن تُصحَّحَ.
و في النهاية، خَطَت فريسيا خُطوَةً أُخرى إِلى داخِلِ المنزِلِ المُشبَّعِ بِرائِحةِ دَمِ والِدتِها و حيثُ كانَ عِبقُ دمِها يملأُ الجو.