Before you go insane - 6
صرخت كبيرة الخدم، فردّت فينيا بِتعبيرٍ باردٍ.
“تجرؤينَ على رفعِ صوتكِ بِهذهِ السهولة أمامَ إمبراطورة تيسيبانيا؟ يا لوقاحتِك.”
تجمدت الأجواء على الفور، مِن جهة، كانت كبيرةُ الخدم الموثوقة التي أدارت قصر الإمبراطورة، قصر بالوا، لِعقود. و مِن الجهةِ الأُخرى، كانت فينيا، التي لم يمضِ على تنصيبها إمبراطورة سِوى يومين، امرأة من دولة مُعادية. رغمَ أنه كانَ واضِحًا من هيَ صاحِبةُ السُلطةِ الأكثرِ رسوخًا في قصر تيسيبانيا، إلا أن صوتَ فينيا حملَ ثِقلاً لا جدالَ فيه، و كأنها كانت الإمبراطورة لِعقود.
اجتاحت نظرةُ فينيا الباردة باقي الخادِمات الواقِفات بالقرب.
“اسحبوا كبيرة الخدم إلى الخارج.”
على الرغم من أوامِر فينيا، ترددت الخادِمات في استدعاء الحرس، ألم تكُن مُجردَّ امرأة من دولة مُعادية، موجودة هُنا فقط بِسببِ زواجٍ سياسيٍّ؟ كانَ الجميعُ يعلمُ أن هذا الزواج لم يكُن سِوى زواجِ مصلحةِ، و أن إمبراطورةً من دولةً مُعاديةً لن تحظى أبدًا بالحُب، مُقارنةً بِها، بدت كبيرةُ الخدم، التي أدارت قصر الإمبراطورة لِسنواتٍ طويلةٍ، خيارًا أكثر استقرارًا من إمبراطورة قد لا تعيشُ طويلاً.
رؤية هذا التردد رسمت ابتسامةً ساخِرةً على شفتي فينيا، إذا لم تتعامل مع كبيرة الخدم الآن، فستواجهُ متاعِب تافِهة طوالَ العام.
لم تكُن لديها أيُّ رغبةٍ في تحمُل مثلِ هذهِ الإزعاجات، فكُل ما أرادتهُ هوَ إنِهاء هذهِ الحلقة المُتكررة من التراجُع الزمني.
“يا لهُ من أمرٍ مُرهقٍ.”
مُرورها بنفسِ الأحداث مِرارًا و تكرارًا جعلها تُدركُ بِوضوحٍ مؤلِمٍ أنها تعيشُ الزمنَ نفسهُ مرةً بعدَ أُخرى.
“أنتِ تُذكرينني بِأنني أعيشُ نفسَ اللحظة مرّةً أُخرى.”
تحركت فينيا شخصيًا لفتح الباب على مصراعيه، و نادت على الحراس خارجًا.
“هذا أمر. اسحبوا الجميع إلى السجن.”
عندَ رؤية الجو المشحون و تعبير فينيا القاسي، اندفعَ الحراس إلى الغُرفة بسُرعة، كانت الأخبار قد انتشرت بينَ الفُرسان حولَ مصير أولئكَ الذينَ فشلوا في حمايةِ غُرفةِ الإمبراطورة في ليلةِ زِفافها.
كانت كبيرةُ الخدم، ذراعاها مُقيدتان بأيدي الفُرسان، تلتوي ملامِحُ وجهها في حالةٍ من عدمِ التصديق. لقد خدمت القصر خلالَ ثلاثِ فتراتٍ من حُكمِ عرشِ تيسيبانيا. كانت كبيرةُ الخدم في قصر الإمبراطورة تشغلُ منصِبًا رفيعًا لدرجةِ أنَّ حتى السيدات النبيلات كُنَّ يعُامِلنها بِاحترام. و الآن، بعدَ يومين فقط من تنصيبها إمبراطورة، تأتي هذهِ المرأة من دولةٍ مُعاديةٍ لِتطرُدها؟ أي إهانةٍ هذهِ؟
عندما أدركت مِحنتها مُتأخرة، بدأت كبيرةُ الخدم تُناضِلُ بِعُنف.
“لا يُمكن أن يحدثُ هذا! لا يمكُنكِ أن تفعلي بي هذا! يجبُ أن أرى جلالة الملك! جلالتك!”
و أثناءَ نِضالِها اليائِس، تركزَ نظرُها على شخصيةٍ دخلت الغُرفة.
“جلالتك!”
ظهرَ تاتار، مُرتديًا زيًا أبيض بسيطًا مُزينًا بعباءة مُطرزة بالذهب، في قصر الإمبراطورة.
كبيرةُ الخدم، قد أضاءَ وجهها بالأمل، تمكنت من الإفلات من قبضة الفرسان و سقطت عِندَ قدميه.
“جلالتك! أرجوك، أوقِف الإمبراطورة!”
“أوقِف الإمبراطورة؟”
“لقد كرستُ حياتي لهذا القصر! لكنَ الإمبراطورة، التي أساءت فِهمَ ولائي، أنها…”
تلاشى صوتُ كبيرة الخدم عِندما رأت تعبير وجه تاتار، الذي كانَ بارِدًا كما لو كانَ يُشاهدُ مسرحيةً مُملةً. و معَ إدراكها لوجودِ شيءٍ خطأ بشكلٍ فظيعٍ، شحِبَ وجهها.
حوّل تاتار نظرهُ من كبيرة الخدم إلى فينيا.
“كانَ هُناكَ شيءٌ بينَ الهدايا من إمبراطورية فيشنو بدا مُناسِبًا لكِ، فقررتُ إحضاره.”
أمسكَ بِعقدٍ مُرصعٍ بألماسةٍ أكبرَ من تِلك التي كانت فينيا تنوي ارتداءها، و وقفَ وراءها.
رفعت فينيا خُصلةً من شعرها، فوضع هو العقد بعناية حولَ عُنقها النحيل.
“هل أنتِ جاهزة؟”
“نعم.”
“إذن، هيا بنا.”
ألقى تاتار ذراعهُ حولَ كتفِها و استدار مُغادِرًا.
لم يلتفت مرّةً أُخرى إلى كبيرة الخدم، كانت اللحظة التي تمَّ فيها اتِخاذُ القرار بِشأنِ كبيرة الخدم و الخادمات اللاتي تبِعنها.
نادَت كبيرةُ الخدم بصوتٍ عالٍ “جلالتك!”، لكِنهُ مضى قدمًا دونَ تردد.
بينما صعدَ الاثنان إلى العربة، قامَ السحرة بأداء تعويذة النقل، و بينما امتلأت نوافِذُ العربة بِضوءٍ ساطعٍ، ارتكزَ تاتار بذقنه على يده و نظرَ إلى فينيا. كانَ التعبُ باديًا على وجهها بشكلٍ واضِحٍ.
“كانَ سيكون أسهل لو قتلناها.”
كانَ صوتهُ بارِدًا بِشكلٍ مُبالغٍ فيه، و هوَ يُقررُ مصيرَ شخصٍ خدمهُ طوالَ حياته، لكنهُ لم يكُن دائمًا هكذا.
في البداية، حاولَ حماية تابعيه المُخلصين، الفُرسان، النُبلاء، و الخدم باستِخدام التراجع الزمني. لكن بعدَ حوالي خمسة عشر تراجعًا، بدأ يُشككُ في جدوى كلُّ ذلك. في النهاية، عندما يُعاد الزمن إلى الوراء، لا يتذكر سِوى شخص واحد.
نعم… فقط فينيا، إمبراطورته، هيَ من تسيرُ على نفسِ الخطِ الزمنيّ معه.
“إذا كانَ الأمر مُزعجًا، يُمكنني قتلُها من أجلكِ.”
“توقف عن ذلك. هذه المرة، قد ينتهي التراجع اللانهائي أخيرًا.”
“أمل فارغ.”
حولت فينيا نظرها إلى تاتار، و ألتقت عيناهُما الباردتينِ المليئتينِ بنفسِ الفراغ.
“إذا استسلمتُ حتّى لِهذا الأمل، سأُصبِحُ مجنونةٌ تمامًا، مثلك.”
“أنا عقلاني نسبيًا، إمبراطورة.”
“لهذا أنتَ لستَ طبيعيًا.”
أخذَ تاتار شهيقًا ضيقًا، و أدارَ رأسهُ بسُرعة، بينما خانتهُ شفاهُه المائِلة لِلأسفل لِتُظهرَ تذمره.
“أيُ قِلةِ احترام، أن تقولين عن إمبراطور الإمبراطورية أنهُ مجنون.”
“أنتِ مُبالِغٌ في تصرُّفاتِكِ، نحنُ معًا على نفسِ القارِب.”
فكرت فينيا أنها ليست مُختلفة عنهُ كثيرًا، ألا أنها فقط لم تَصِل بعدُ إلى تلِكَ الدرجة.
لكِن حتى مع المناظِر الجميلة خارِج نافذة العربة، كانت مُهتمة فقط بِمعرفة كيفَ ماتت في المرة السابقة، هل كانَ عُنقها أم ظهرها قد انكسر أولًا عِندما سقطت من العربة؟
“نعم… عدمُ الجنون سيكونُ غريبًا.”
كانَ هُناكَ شيءٌ في قولِها أنهُما مجانين معًا بدا أنهُ أرضاهُ، فأرخى ابتسامتُهُ المائِلة.
—
توقفت العربة، التي كانت تسيرُ بسلاسةٍ فوقَ مسارٍ تمَّ تنظيفُهُ من أصغرِ الحجارة مِن أجلِ الإمبراطور و الإمبراطورة، مع حراسة تاتار دي تيسيبانيا، نزلت فينيا مادريتا فيشنو من العربة و رفعت نظرها إلى المنظر المُهيب للمعبد الكبير المألوف.
كانت القُبةُ الدائِريةُ للمعبد مدعومةً بسبعِ أعمدة.
كانَ مظهرهُ الأبيض اللامِع من الخارج، و الكهَنَة الصامِتون الذينَ يتحركون و كأنَ الصمتَ قانون، يخلقُ جوًا من الجدية و الوقار.
حقًا، إذا تمَّ تجسيدُ دورة التراجعات اللانهائية، لكانت ستبدو تمامًا مثلَ هذا المعبد.
“كلُّ شيءٍ هُنا كما هوَ، لكن بالطبع، كوننا محبوسين في نفس الزمن يجعل ذلك حتميًا” قالت فينيا.
“نعم. إنه مُتطابِقٌ بٍشكلٍ مُقرفٍ” وافق تاتار.
كانَ هُناك استثناءٌ واحِدٌ فقط : عِندما قادَ جيشهُ في لحظةِ غضبٍ لِهدم المعبد، بِخلافِ ذلك، بقي المكان كما هوَ دون تغيير.
ظهرَ كاهن رفيع المستوى بصمت، و قامَ بإلقاء تحيةٍ قصيرةٍ مع انحناءة.
“لِتكُن بركاتُ الآلهة معكما. من فضلِكُما، اتبعاني إلى الداخِل.”
عِند وصولِهما إلى بابٍ ضخمٍ، انحنى الكاهن مرّةً أُخرى.
“سأعودُ قريبًا. من فضلكما، اجعلا نفسيكما مرتاحين في هذهِ الأثناء.”
كانت هذه الزيارة مُجرَّد عرضٍ استعراضيٍّ لإظهارِ الوِحدة بين الإمبراطوريتين، مهزلةُ لِتهدئةِ الاضطرابات عبرَ إظهار إمبراطور و إمبراطورة تيسيبانيا و هُما يُصليان من أجلِ أرواح الذينَ ضاعوا في الحرب. و بالتالي، لم تتضمن الزيارة أي اعترافاتٍ أو تمجيدٍ أو صلواتٍ حقيقيةٍ.
غادرَ الكاهن، و أُغلق البابُ الضخمُ لِغُرفةِ الصلاة بصمت خلفهما. عندَ إشارةٍ من فينيا، ألقى تاتار العباءة التي كانت على كتفِهِ الأيسر و رماها بِلا مُبالاة على الأرض. فعلت فينيا الشيء نفس الشيء معَ الشال الذي كانَ موضوعًا على كتفيها.
سلامُ الإمبراطورية، البركات الإلهية، لم تكُن هذهِ هي أسبابُ قدوِمهما إلى هُنا. كانَ هدفُهُما الحقيقيّ هوَ تأكيدُ وجودِ خيطٍ يتعلقُ بِإنهاء دورة التراجعات، خيطٍ اكتشفوه قبلَ تراجعين في التراجع الخامس و السبعين.
“هل نبدأ؟”
“نعم.”
كما كانَ الحالُ قبل مُغادرتِهما، وقفَ تاتار خلفَ فينيا و فتحَ العُقد الذي حولَ عُنقها. ارتعشت قليلاً بينما لامست أصابِعهُ البارِدة عُنقها الشاحِب.
على القاعدة كانَ تمثال على شكل الشجرة الأسطورية التي حملت الجوهرة “سفيتيانا”. كانَ تمثالًا لشجرةٍ مُلتويةٍ بالكروم، بأرتفاعِ رجُلٍ بالغٍ مُتوسطٍ. كانَ التمثال يبعثُ شعورًا ملموسًا بالقداسة.
بوجهٍ خالٍ من التعبير، مدَّ تاتار يدهُ و انتقى أرفع غُصن، برزت الأوردة على ظهرِ يده.
طقطقة!
معَ صوتٍ حادٍ، تضررَ هذا العملُ الفنيّ الذي ظلَّ محفوظًا عبرَ العصور. رمى تاتار قطع الغُصن المكسور بِلا مُبالاة على الأرض. و عِندما تراجع خطوةً إلى الوراء، ارتجَّ الصوتُ الثقيل، و كشفت قاعدة التمثال عن سُلمٍ يؤدي إلى تحت الأرض.
ابتسامة ساخرة تشكلت على شفتيه.
“الكهنة الذين يدَّعون أنهُم لا ينطقونَ بالكذِب قد نسجوا كذبةً رائِعةً لإمبراطوريتين. أليسَ هذا مُضحكًا، إمبراطورة؟”
خطت فينيا للأمام و سحقت الغُصن المكسور تحت حذائِها. و عِندما مدَّت يدها، أخذها تاتار على الفور، و قادها للأمام.
“إنهُم بشرٌ في النهاية. فكرة أنَّ الذينَ يخدِمون الآلهة يدفنونَ جوهرةً يُقالُ إن الآلهة نفسها قد خلقتها في مكان لم تمُسّهُ يدٌ بشريةٌ هي فكرةٌ سخيفةٌ.”
بفضلِ هذهِ السخافة، اكتشفوا إمكانيةَ إنهاءِ التراجع. أو رُبما، كلُّ هذا قد حدثَ بسببِ هذهِ السخافة نفسها. كانَ الخيطُ الوحيدُ لحل جميع تساؤلاتهم يكمُنُ تحتَ غُرفة الصلاة في المعبد.
لم يكشف الطريقُ المُظلم تحت الأرض عن شيء، لكنهُما تابعا السير دونَ تردد. و في النهاية، وصلا إلى بابٍ ينبعثُ منهُ ضوءٌ خافتٌ.
تقدمَ تاتار و دفعَ الباب الثقيل المصنوع من الرُخام. الكنز، الذي كانَ يحَفظهُ الكهنة الصامِتون في الخفاء، ظهرَ ليكسر الصمت.
الجوهرة، التي كانت تتوهجُ بضوءٍ يُشبهُ الشفق القُطبيّ، شكّلت دائِرةٌ مثاليةٌ رغمَ أنها لم تُلمس بيدٌ بشريةٌ قط. امتلأ المكانُ الصغير بضوء الجوهرة.
كانت هذهِ هي “سفيتيانا”، الجوهرةُ الإلهيةُ التي خلقت المُعجِزات و أشعلت حربَ المئةِ عام، ذروةٌ مِنَ الجمال القاسي و الطمعِ البشريّ، تجسيدٌ في بريقِها الخالِد.