العربة التي كانت تقلني أنا وليو و السير بيناديل وسوغا استغرقت أربعة أيام متتالية للوصول إلى الوجهة.
لحسن الحظ، كان هناك عدد من القرى الكبيرة على طول الطريق، لذلك لم نواجه ايّ مشكلة في العثور على نُزل للنوم.
واستعدادًا لأي خطر محتمل، قمت بتوظيف بعض المرتزقة الموثوقين من طرف تيري.
رغم أن البقاء داخل العربة طوال الوقت قد يكون مملًا، إلا أن ليو كان مندمجًا تمامًا في مشاهدة المناظر التي أصبحت بيضاء تدريجيًا، لدرجة أنه لم يتمكن من رفع نظره عن النافذة.
كل شيء كان مثاليًا.
لكن إن كان هناك شيء واحد يفسد هذا السفر المثالي…
“سير بيناديل.”
“نعم؟”
“ألديكَ ايّ مشكلة معي؟”
“بالطبع لا.”
كان السير بيناديل يحاول بشكل غامض رسم خط بيني وبينه.
لا أستطيع تحديد السبب بدقة، لكنه كان يتجنب التقرب مني بشدة.
عندما فكرت في الأمر، أدركت أنه خلال الأيام الماضية، لم أتلقَ أي مساعدة منه عند الصعود إلى العربة.
نظرت إليه بنظرة مريبة، ثم حولت نظري إلى النافذة كما لو أنني فقدت اهتمامي.
على الرغم من أن العربة لم تكن ضيقة، إلا أن ضخامة جسم السير بيناديل جعلت أطراف أقدامنا تكاد تلامس بعضها بينما نجلس مقابل بعضنا البعض.
بمجرد أن وجه رأسه ليتابع نظري إلى الخارج، مددت قدمي قليلًا للأمام.
بطبيعة الحال، كان من المفترض أن تتلامس أطراف أقدامنا، لكن السير بيناديل تفادى الإتصال عن طريق تحريك قدمه برفق دون أن يلتفت إلي.
“أوه، حقًا؟”
شعرت برغبة طفولية في العناد، فقمت هذه المرة برفع قدمي ووجهتها نحو قدمه كما لو أنني لبؤة تصطاد فريستها.
لكن السير بيناديل، مرة أخرى، تفادى هجومي بحركة بسيطة وأنيقة.
ها هو ذا، يتصرف كما لو أنني مرض معدٍ، ويدعي أنه ليس لديه أي مشكلة معي!
“سيدي، لا تتجنبني.”
“هل تقصدين بذلك أن عليَّ أن أتركك تدوسين على قدمي؟”
ليس تمامًا… حسنًا، قد يكون ما فعلته غبيًا بعض الشيء.
تنحنحت، ومددت يدي برقي وكأنني أطلب منه أن يقدم لي المساعدة.
“يدك.”
رغم أن نبرة كلامي بدت وكأنها لتدريب كلب، إلا أن السير بيناديل مد يده بصمت.
“……..؟”
أيها السادة، لا تنخدعوا! هناك مسافة بين يدي و يد السير بيناديل!
كانت يده أعلى من يدي قليلًا، قريبة من أطراف أصابعي ولكنها لا تلامسها.
“هل يعقل أنني متسخة بشيء ما؟”
عندما حاولت الإمساك بيده بقوة، أزاح يده بخفة مرة أخرى ليتجنب أي تلامس معي.
لم أعد أستطيع التحمل.
نظرت إلى ليو، الذي كان يراقبنا بعينين لامعتين ووجه مليء بالفضول بدلًا من النظر إلى الطبيعة خارج النافذة، وقلت له:
“كستناء الفئران ، أغلق أذنيك واغمض عينيك.”
“حاضر!”
لم يسأل ليو عن السبب، بل أغلق أذنيه وأغمض عينيه فورًا.
بمجرد أن تأكدت من ذلك، أمسكت بياقة السير بيناديل بسرعة وشددته نحوي لمنعه من الهرب، وقلت بغضب:
“ما مشكلتك بالضبط؟”
عندما التقت أعيننا عن قرب، تحركت عينيه داخل القناع قليلًا محاولًا تجنبي.
حقًا؟ ألا يفترض أن تخبرني عن السبب وراء هذا التصرف؟
ظللت أنظر إليه بإصرار حتى أعاد عينيه ببطء نحوي واستسلم أخيرًا، وهو يتمتم بنبرة تدل على أنه مجبر:
“…… أن هذا ليس تصرفًا لائقًا.”
“ماذا…؟”
“لم أشعر أنه من اللائق لمس يد سيدة بهذه الطريقة.”
هذا الشخص الذي أمسك بذقني دون استئذان في أول لقاء لنا يتحدث الآن عن اللباقة؟
كانت إجابته سخيفة لدرجة أنني فقدت الرغبة في الرد.
بدأت بتعديل ياقة قميصه التي كدت أجعدها عندما أمسكته، وقلت:
“يمكنك أن تكون وقحًا معي، لا بأس بذلك لذا…”
دفعت صدره برفق ليعود ويستند إلى المقعد، ثم أضفت:
“تجاوز الحدود، كيفما شئت.”
“…….”
لابد أنه فهم قصدي بعد هذا.
ثم وضعت يدي بلطف على كتف ليو الذي كان لا يزال مُغمض العينين ومسدود الأذنين، وأشرت له بأن الأمر انتهى.
فتح ليو عينيه وبدأ ينظر إلينا بعيون متلألئة، ثم سأل بحذر:
“إذًا… من الذي فاز؟”
فاز؟
“في تحدي التحديق! لقد كنتم تتحدون بعضكم بالنظرات، صحيح؟”
آه، هكذا بدت الأمور في نظر ليو.
<حقا…أنتما الأثنان لِما تتصرفان مثل الحمقى؟ لقد رأيت كل شي>
آه….
هكذا اذًا بدأ الأمر بالنسبة لسوغا.
اطلقت تنهيدة ارتياح لأنني لم ازود سوغا بأي قوى سحرية.
وفي الوقت نفسه أجاب السير بيناديل على سؤال ليو.
“لقد خسرت.”
قال ذلك بينما فتح نافذة العربة قليلاً ليبرد وجهه بالهواء البارد، وكأن خسارته كانت مُرّة للغاية بالنسبة له.
***
كانت العاصمة الملكية مونتيو تتميز بفصل شتاء دافئ لدرجة أن رؤية الثلوج فيها أمر نادر للغاية.
وفي ذاكرة ليو، لم يسبق له أن رأى مناظر مغطاة بالثلوج من قبل.
ولهذا السبب، عندما وصلنا إلى غابة شابيرت المغطاة بالثلوج البيضاء في أوائل الشتاء، فتح الطفل فمه باندهاش قائلاً:
“العالم كله أبيض تمامًا!”
وعندما نزل بحذر من العربة ووضع قدمه على الأرض المغطاة بالثلج، أصدر صوتًا يشبه قضم شراب الليمون المثلج.
بسبب هذا الصوت، خفق قلب ليو بشدة، فمشى بحذر على الثلج.
كان يرتدي ثلاث أو أربع طبقات من الملابس، إضافة إلى وشاح من فرو الثعلب الأبيض وقبعة سميكة مصنوعة من الصوف، وحذاءً من الفرو، مما جعله يمشي كالبطريق بتأرجح لطيف.
وبينما كانت بليندا تراقب هذا المشهد الساحر بعينيها المفتوحتين على مصراعيهما لتثبّت تلك الصورة في ذهنها، استيقظت بداخلها روح المزاح فجأة.
“كستناء الفئران ، هل سبق لك أن أكلت الثلج؟”
“لا، هل يمكن أكل الثلج؟”
“في العاصمة الملكية لا يتساقط الثلج، لذا الناس هناك لا يعلمون، لكن في الحقيقة طعم الثلج شهي ومميز إنه حلو كالسّكر.”
“حقاً؟”
أضاءت عينا ليو وهو ينظر بحماس إلى الساحة البيضاء المليئة بالثلوج أمامه.
كان الثلج يتلألأ تحت أشعة الشمس وكأنه سكر فعلاً.
“انظر، أليس شكله يشبه المثلجات؟”
هز ليو رأسه بسرعة موافقًا.
في اليوم الذي تناول فيه المثلجات لأول مرة، تساءل كيف تُصنع هذه الكريات الثلجية اللذيذة، والآن كشف السر أمامه.
“الملثجات تُصنع من الثلج!”
لحس ليو شفتيه بشغف وهو يجمع الثلج المتراكم على شجرة صنوبر صغيرة في كفه المغطى بالقفازات.
ثم مد لسانه بحذر ولعق الثلج.
في تلك اللحظة، أدرك أنه قد وقع في الفخ.
“…….!”
“هذا غير عادل! هذا اكثر من اللازم!”
“دائمًا ما ابالغ أكثر من ذلك.”
أجابت بليندا ببرود بينما مدت يدها نحو ليو.
بفضل التدريبات الخاصة بالعناق التي كان يقوم بها ليو كل صباح مع بليندا أصبح معتادًا على التلامس الجسدي معها فَـ عبس بشفتيه متذمرًا و أمسك بيد بليندا.
***
كانت مهام حراسة النبلاء مربحة مقارنة بمخاطرها، إلا أن معظم المرتزقة لم يكونوا يتهافتون على قبول مثل هذه الأعمال بسهولة.
كان السبب هو أن المرتزقة عادة ما يتميزون بالطبيعة القتالية، ويفضلون المخاطرة بحياتهم في صيد الوحوش بدلًا من خفض كرامتهم لإرضاء أهواء النبلاء.
وكان قائد فرقة المرتزقة هامر لا يختلف عنهم في ذلك فحتى لو كانت المهمة موصى بها من قبل تيري، لم يكن يرغب في التخلي عن كرامته مقابل المال.
“ليس لدينا مال، لكن كرامتنا ما زالت محفوظة!”
… إلا أن هذا كان مبلغًا كبيرًا للغاية ليُرفض بهذه السهولة.
وهكذا، قبلوا بالمهمة على حساب كرامتهم ولكن على عكس توقعاتهم، لم تكن المهمة صعبة كما ظنوا في الواقع، كانت مرضية للغاية.
فرغم السمعة السيئة للمُوكِّلة، بدت بليندا غير مهتمة بالمرتزقة على الإطلاق، على عكس ما كان متوقعًا، لكنها لم تتجاهلهم تمامًا أيضًا، إذ حرصت على توفير أماكن إقامة ممتازة ووجبات لذيذة من أجل راحتهم.
وما جعل المهمة أكثر روعة هو…
“يا عم هامر، هل زرت البحر من قبل؟ قالت لي السيدة بليندا إن مياه البحر طعمها حلو جدًا.”
كانت رؤيتهم لذلك الفتى الصغير ذو الخطوات البريئة الذي يترك آثارًا لطيفة على الثلج.
كان الطفل، الذي جاء في الرحلة بصفته خادمًا مستقبليًا للمُوكِّلة، يتعامل مع المرتزقة بكل بساطة وقد استطاع ببراءته أن يذيب ملامحهم القاسية.
“حسنًا، الآن بعدما ذكرت ذلك، أظنني سمعت من قبل أن الناس في الموانئ يستخدمون مياه البحر بدلًا من السكر عند صنع الحلويات.”
وبمجرد أن رد عليه أحد المرتزقة، بدأ التعبير الجدي على وجه ليو يذوب تدريجيًا.