ساد الهدوء في ملحق عائلة بلانش، لكنه سرعان ما امتلأ بالحركة والضجة مع توافد الرجال الأقوياء الذين كانوا منشغلين بنقل مختلف مستلزمات السفر إلى العربة الضخمة ذات الأربع عجلات ، وقفنَّ مجموعة من الخادمات يراقبن المشهد ويتبادلن الحديث بهمس.
“ما كل هذا؟”
“يقال إن الآنسة ذاهبة في رحلة.”
“ترى… هل ستأخذ إيًّ منا معها؟”
هذا التساؤل الأخير تسبب في في خلق توتر غريب بين الخادمات فمنذ أن بدأت بليندا بالاعتماد المكثف على ماري، تشكلت تدريجيًا طبقات غير مرئية من التراتبية بين الخادمات اللواتي تتقارب أعمارهن.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مدبرة المنزل بالكاد تُرى، إذ لم تكن مهتمة بشؤون القصر، مما جعل الخادمات يدركن أن من تنال ثقة بليندا قد تصبح صاحبة النفوذ الفعلي مكانها.
بدأت عيون الخادمات تلمع بالطموح، فالأعمال في الملحق لم تكن مرهقة كما تصوروا ، الى جانب ذلك كان هناك دافع حفزهنَّ اكثر، فمن تنل ثقة بليندا قد تُدعى إلى “حفلة شاي الغروب”.
حفلة شاي الغروب.
كان هذا المصطلح الذي اخترعته الخادمات للإشارة إلى حفلات الشاي الفاخرة التي كانت بليندا تنظمها في الملحق.
ما جعل هذه الحفلات محط أنظار الخادمات هو أن الضيوف فيها كانوا من العاملين في الملحق.
تعلقت آمال الخادمات بأن يحظين بهذه الدعوة المرموقة ولو لمرة واحدة، ليتذوقن ولو القليل من أجواء تلك الحفلات المميزة.
ومن بين الجميع، كانت ماري هي الأقرب لتحقيق هذا الحلم.
“ماري، الآنسة تطلبك.”
كان اسم ماري يتردد كثيرًا على لسان بليندا في الآونة الأخيرة ، قبل ثلاثة أيام فقط، استدعتها بليندا وطلبت منها الاهتمام بتزيينها بشكل خاص.
توجهت ماري بثقة نحو غرفة بليندا تحت أنظار زميلاتها الممتلئة بالغيرة.
“ماري، اجلسي.”
آه، أخيرًا!
أدركت ماري أن حلمها أصبح حقيقة لقد تمكنت من حضور “حفلة شاي الغروب” التي لطالما تمنينَّ الخادمات أن يُدعَين إليها.
جلست ماري بحذر أمام طاولة الشاي التي أشارت إليها بليندا ، وعلى الرغم من أنها كانت الضيفة الوحيدة هذه المرة، لم تستطع إخفاء حماستها وتناولت أول لقمة من كريم بروليه الذي أُعد خصيصًا لها.
“يبدو أنك تستمتعين بالطعام.”
“نعم، نعم! إنه لذيذ جدًا، يا آنسة.”
كانت ابتسامة ماري بريئة، لكنها كانت تخفي وراءها عقلًا مشغولًا بالتخطيط.
إذا تمكنت من كسب ثقة بليندا وأصبحت تعتمد عليها بالكامل، ستتمكن من الحصول على المزيد من المعلومات السرية التي يمكن أن تمررها لـ شوفيل مقابل مبلغ أكبر من المال كرسوم معلومات.
“عليّ أن أرافق الآنسة في هذه الرحلة وأجعلها تعترف بي أمام الجميع.”
عندما رأت ماري أن الجو أصبح أكثر هدوءًا، فتحت فمها قائلة:
“آنستي، سمعت أنكِ ستذهبين في رحلة هذه المرة إذا كنتِ تفكرين في اختيار خادمة، فأنا…”
لم تكمل حديثها حتى…
طرق، طرق.
سُمع صوت طرق الباب، وعندما أعطت بليندا الإذن بالدخول، دخلنَّ خادمات الملحق واحدة تلو الأخرى.
كان الخادمات يقفن في صف، وبدت على وجوههن علامات الارتباك، كما لو أنهن قد استدعِين فجأة لكن حين رأين ماري تستمتع بحلوى فاخرة، اتسعت أعينهن دهشة.
“آنستي، لقد أحضرتُ جميع خادمات الملحق كما أمرتِ.”
“حسنًا.”
أجابت بليندا ببرود بينما كانت تقطع الفطيرة بطرف السكين، ثم استأنفت حديثها بنبرة رتيبة، كما لو كانت تذكر جدول أعمال بعد الظهر:
“من بينكنّ هناك حشرة صغيرة تنقل كل تفاصيل حياتي إلى هذا اللقيط في القصر الرئيسي، أليس كذلك؟”
“………!”
كادت ماري أن تختنق بما في فمها، وكانت على وشك أن تبصقه.
أما الخادمات، فكانت وجوههن شاحبة كالأموات، الصدمة التي حاولنَّ إخفاءها بدت واضحة على وجوههن، باستثناء بليندا.
على وجه الخصوص، ماري بالكاد استطاعت التنفس.
كانت عينا بليندا البنفسجيتان الحادتان موجهتين مباشرة نحو ماري، وكأنها تعلم أنها هي الجانية.
بينما كانت ماري تحاول كبح الشعور بالغثيان، وقفت فجأة وانحنت باحترام.
كانت تشعر بالدوار، وكأن هذه قد تكون وجبتها الأخيرة.
“لقد فكرت لمدة ثلاثة أيام حول كيفية التعامل مع هذه الحشرة الصغيرة.”
صرير.
بصوت حاد، دفعت بليندا كرسيها للخلف ووقفت.
مرت بجانب ماري المنحنية، وبدأت تمشي ببطء أمام صف الخادمات الواقفات.
“لقد استمتعت بمشاهدة هذه الحشرة تثرثر دون أن تعرف مصيرها، ولكن الأمر بدأ يصبح مملًا الآن.”
تك، تك.
بينما كانت ماري تستمع إلى صوت كعب بليندا الذي يبتعد ثم يقترب، أغمضت عينيها بإحكام.
ثم توقفت بليندا خلف ماري مباشرة.
“هل استمتعتِ بحريتكِ لثلاثة أيام؟”
استدارت بليندا ووقفت أمام إحدى الخادمات، ورفعت ذقنها بطرف مروحتها، وهمست بلطف:
“آه…”
“آنستي! ليس أنا! أنا، أنا لست الجانية! أنا بريئة!”
بدأت ماري تجمع يديها بتوتر، كما لو كانت تصلي.
“لقد نجوت!”
“ليخرج الجميع بأستثناء هذه الحشرة..”
هربت الخادمات المذعورات بسرعة من الغرفة، خوفًا من أن تمتد إليهن نار الحكم الذي أصدرته بليندا.
حتى ماري، التي كانت تحاول التسلل للخروج معهن، توقفت فجأة عند سماع صوت بليندا.
“ماري، إلى أين تذهبين؟”
“نعم؟”
استدعتها بليندا وأوقفتها.
جلست مجددًا أمام طاولة الشاي، وهي تميل فنجان الشاي بأناقة، ثم قالت بنبرة هادئة:
“أنت تعرفين جيدًا ما يجب عليك فعله إذا أردتِ أن تصبحي خادمتي الشخصية.”
نظرت ماري إلى الخادمة المتهمة، تانيا.
كانت تانيا تنظر إليها بخوف، تهز رأسها وكأنها تتوسل.
“ماري، لا! أقسم أنني لم أفعل ذلك!”
أدركت ماري الذكية على الفور أنها أمام مفترق طرق.
إما أن تقف مع تانيا وتدافع عن براءتها، أو…
“إذا ألقيت باللوم على تانيا، فسأخرج من دائرة الشبهات.”
ما إن سيطر هذا التفكير على عقلها حتى تلاشى أي تردد في يد ماري.
صفعة!
دوى صوت قوي في الغرفة مع صدى لطمة حادة.
“كيف تجرؤين على خيانة سيدتك؟ اعترفي فورًا بخطأك واطلبي منها المغفرة!”
بدت تانيا وكأنها لم تصدق أنها تعرضت للضرب، فحدقت بذهول وهي تمسك خدها.
“لماذا… لماذا…”
لم تستطع حتى صياغة كلماتها، بينما أشاحت ماري بنظرها عنها لتراقب رد فعل بليندا.
لكن بليندا لم تظهر أي رضى، بل كانت مشغولة بتقطيع الكعكة أمامها بهدوء.
عندما شددت ماري قبضتها ورفعت يدها مرة أخرى لتضرب تانيا ، قاطعتها بليندا بصوت هادئ:
“توقفي.”
أوقفت كلمات بليندا الهادئة ماري على الفور.
وعندها فقط، وكأنها استعادت وعيها، زحفت تانيا على ركبتيها لتصل إلى قدمي بليندا.
“آنسة! أقسم أنني لم أفعل ذلك! أرجوك، صدقيني! إنه اتهام باطل! الجميع أساء فهم الأمر!”
“اتهام باطل؟”
نظرت بليندا أخيرًا إلى تانيا وبدأ عصير التوت على السكين كأنه دم.
رأت تانيا أن هذه فرصتها الأخيرة، فبدأت تتوسل بيأس.
“نعم، نعم! سأكشف المذنب الحقيقي! وأتعهد بأن أجلب تلك الخائنة التي خانت سيدتي…”
“ألا تستطيعين الصمت؟ كيف تجرؤين على الكذب أمام سيدتك!”
تدخلت ماري فجأة، وأمسكت بكتف تانيا بعنف وسحبتها للخلف.
“اتركيني! أي كذب هذا؟ أنا بريئة! آنسة! أرجوك امنحيني فرصة واحدة فقط، وسأجد الخائنة بنفسي!”
جلست بليندا تراقب المعركة الشرسة التي جرت أمامها ببطء وهدوء.
في تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة دون إذن من بليندا، ودخلت تيري الغرفة على عجل.
“ما الذي يحدث هنا أمام الآنسة!”
“سيدة… سيدة تيري…”
ظهور تيري، التي كانت معروفة بلطفها تجاه الخادمات، جعل تانيا تشعر بالاطمئنان، فرفعت رأسها نحوها ودموعها تملأ عينيها.
كانت تانيا واثقة بأن تيري ستنقذها من هذه التهمة الباطلة.
“سيدتي، لقد سمعت القصة من الخادمات أرجوكِ فكري مجددًا تانيا فتاة مجتهدة وذات سمعة طيبة…”
“إذا قلتُ إنها حشرة فهي حشرة ومع ذلك، هل تقولين إن عليّ أن أضع في الاعتبار اشياء تافهة كهذه وأعيد التفكير؟”
“… أعتذر.”
طنين.
رمت بليندا الشوكة بعصبية ونقرت بلسانها تعبيرًا عن استيائها.
“لم أعد أريد الطعام و لا أريد رؤية هذه الوقحة مرة أخرى، لذا احبسوها في الغرفة ولا تعطوها حتى قطرة ماء وأبلغوا القصر الرئيسي بأنني لن أعيدها لبعض الوقت.”
حاولت تانيا أن تقول شيئًا، لكن تيري هزت رأسها لمنعها من التحدث.
ثم انحنت تيري قليلاً لتجنب إثارة غضب بليندا وساعدت تانيا على مغادرة الغرفة.
تم جرّ تانيا تقريبًا إلى غرفة فارغة ونقلها إليها مباشرة.
أمسكت تانيا بملابس تيري وهي تبكي بشدة، قائلة:
“سيدة تيري، أرجوكِ صدقيني لم أفعل ذلك أنا بريئة أرجوكِ أنقذيني أرجوك!”
“بالطبع، أنا أصدق أنكِ لم تفعلي ذلك، ولكن تانيا… الحقيقة أن هناك شاهدًا رأى ما حدث، والسيدة فكرت في الأمر لعدة أيام.”
“شاهد؟ من هو؟ من الذي تجرأ على…”
“لا يمكنني أن أخبركِ بذلك ولكن السيدة تثق بكلام الشاهد إنها واحدة من الخادمات المقربات إليها.”
في تلك اللحظة، لاحظت تيري ملامح التفكير العميق على وجه تانيا، وأدركت أنها أكثرت الحديث، فبادرت بسرعة لتغيير الموضوع.
“آه، يبدو أنني تحدثت كثيرًا لا تقلقي كثيرًا سأشرح ظروفكِ للسيدة بأفضل طريقة ممكنة.”
“سأحضر لكِ طعامًا لاحقًا، إذا كنتِ بريئة فلا شك أن هناك من لفق لكِ هذه التهمة ، عليكِ الصمود حتى نكشف ذلك الشخص.”
“… شخص لفق لي التهمة.”
كانت تلك الكلمات الأخيرة التي قالتها تيري قبل أن تغادر الغرفة.
صرير.
صوت الباب وهو يُغلق ويتثبت بالقفل تردد في الغرفة، لكن تانيا بقيت جالسة في مكانها لفترة طويلة دون أن تتحرك.
وأخيرًا، همست باسم معين بصوت منخفض مليء بالغضب.
“تلك المرأة… لقد أعمى الطموح بصرها…”
في تلك الغرفة المظلمة، اشتعلت عينا تانيا بنظرة مملوءة بالحقد.