من المستحيل أن يُحبني - 1
كان نهار أليسا يبدأ دوماً بكابوسٍ مزعج.
“اليوم مجددًا.”
مفزوعةً من نومها، نهضت أليسا من سريرها دون أن تأخذ وقتاً لالتقاط أنفاسها.
ما زالت صرخات الرعب التي سُمعت تطن في أذنيها. ومع ذلك، فإن الكوابيس التي تتكرر كل يوم قد أصبحت شيئاً اعتادت عليه.
كانت خيوط النور الباهتة تتسلل عبر النافذة، رغم أن الشمس لم تشرق بعد. نفضت أليسا شعرها المتناثر عن وجهها، ثم نهضت من السرير.
كانت أيامها تبدأ عادةً قبل بزوغ الفجر بتدريباتها، غير أن اليوم، بدلاً من أن تتناول سيفها، اخدت قلماً وجلست إلى المكتب بجانب سريرها.
كانت الأوراق مكدسةً على المكتب. بينما كانت أليسا تقلب الأوراق المتسخة بالحبر بتعبيرٍ تأملي، عبست وجهها.
كان شعرها يخبئ عينيها وجبهتها، ولكن شفتيها المزمومتين بصرامة أوضحت مشاعرها بجلاء.
ورغم مقامها كدوقة، لم يكن من غير المعتاد لأليسا أن تتعامل مع الأوراق الرسمية.
بيد أن الوثائق التي كانت تعالجها الآن لم تكن ذات صلة بشؤون إقطاعيتها. بل بالأحرى، لم تكن تتعلق برفاهية القرويين أو بقهر الوحوش.
“الحرير…؟ أليس هذا؟ الساتان، المخمل…؟”
أمضت وقتاً طويلاً في محاولة فهم مصطلحات لم تكن مألوفة لها.
كانت الوثائق تتناول أنواعاً مختلفة من السلع الفاخرة، من بينها ثريات كريستالية ونوافير تُزوَّد عادةً للقصر الإمبراطوري فقط.
مقارنةً بفخامة هذه السلع، بدا أن أليسا، التي كانت تقلب في الكتالوج، تبدو في مظهر شاحب.
لم يكن ذلك بسبب شعرها الطويل المتشابك والمهمل فحسب، بل لأن مظهرها، بملابسها المرقعة وحذائها المغطى بالغبار، جعلها تبدو أقرب إلى عامل في الإسطبل منها إلى دوقة. ولكن إقطاعية بينو كانت تعاني من فوضى أكبر من مجرد مظهر حاكمها.
كانت إقطاعية بينو مجرد دوقية بالأسم، أفقر من معظم البارونيات.
كانت الأرض قاحلة، والمناجم قد جفّت منذ زمن بعيد. بالإضافة إلى ذلك، كانت الإقطاعية محاذية لغابة الوحوش، مما فرض عليهم خوض معارك متكررة. كان من العجب أن الدوقية لم تنهار بعد نظراً لفقرها المدقع.
ورغم إدراكها الكامل للظروف المأساوية لأراضيها، فقد راجعت أليسا المواد بعناية.
السبب في قرارها المفاجئ بالنظر في اقتناء مثل هذه الكماليات الباهظة كان مرسوماً إمبراطوريّاً وصل قبل عدة أيام.
عندما وصل الرسول لأول مرة إلى إقطاعية بينو، لم تعر أليسا الأمر اهتماماً كبيراً.
فالإمبراطور كان يرسل في كثير من الأحيان مراسيم تطلب منها توفير الحرس أو الانطلاق في بعثات، فتوقعَت أن يكون الأمر مشابهًا هذه المرة.
ورغم انزعاجها قليلاً من عدم دفع أجورها عن أعمالها كمرتزقة في عدة مناسبات، إلا أنها لم تستطع رفض أوامر الإمبراطور لمجرد أنها لم تتلقَّ أجراً. ولكن، عندما فتحت أليسا الظرف بوجه هادئ وقرأت محتوياته، اتسعت عيناها من الدهشة.
أعلن المرسوم أنها ستُكافَأ، وهو ما يتناقض تماماً مع العديد من المرات التي تم فيها استخدام جيشها دون تعويض. لكن المشكلة كانت أن المكافأة لم تكن مالاً أو حبوباً.
“الزواج؟”
كانت أليسا في سن الواحد والعشرين هذا العام. ونظراً لأن معظم النبلاء يتزوجون في التاسعة عشرة، فقد تجاوزت بالفعل السن المعتاد. وكانت “مكافأة” الإمبراطور هي البحث عن زوج للدوقة غير المتزوجة.
عضت أليسا شفتها وهي تسترجع محتويات المرسوم التي أرقتها طويلاً.
استسلمت لفكرة عدم تلقي تعويض مناسب.
كان من النادر أن يدفع من يحتاجون لأليسا أجرها بإنصاف. وبالنظر إلى حالة إقطاعيتها البائسة، فإن تلقي الدفع لم يكن ليحدث فرقاً كبيراً على أي حال.
ومع ذلك، تكمن المشكلة في الشخص الذي اختاره الإمبراطور لأليسا.
كيران ألبرخت، الابن الثاني لكونت ألبرخت.
كان من مستوى أدنى جداً من أن يتزوج دوقة مثل أليسا. ولكن من شهد أليسا وكيران معاً لن يقول أبداً إن كييان أقل منها.
كان كيران وسيمًا و جميلاً.
لم تستطع أليسا أن تجد كلمات أخرى لإضافة إلى هذه الجملة. كانت تخشى أن تؤدي كلماتها غير الكافية إلى تشويه المعنى الحقيقي للكلمة.
حضرت عدة حفلات اجتماعية في العاصمة كمكافأة على قتل الوحوش هناك.
وفي إحدى تلك الحفلات، حيث شعرت بالغربة كما لو كانت ترتدي ملابس غير مناسبة،
رأت كيران.
لم تستطع أن تمنع نفسها.
وجدت أليسا نفسها تحدق فيه، مسحورة للحظة. عرفت أنه من غير العقلاني،
لكنها حتى بين الناس الذين يرتدون ملابس السهرة الفاخرة ويحملون الشمبانيا، كان كيران يبرز.
ابتسامته الرقيقة كزهرة، وحركاته الرشيقة تلمع أكثر من الثريات المعقدة، مما جعلها غير قادرة على تحويل نظرها عنه. في اللحظة التي وجه فيها كيران رأسه نحوها، سرعان ما وجهت أليسا نظرها بعيداً، مصدومة.
كان رجلاً لا تستطيع حتى أن تلتقي به بعينها، فضلاً عن الوصول إليه. والآن، هذا الرجل سيصبح زوجها.
حاولت أليسا رفض الأمر، ولكن الإمبراطور، ربما ظنّاً منه أنها تريد مكافأة مختلفة، دفع الزواج بقوة. وعلى الرغم من أنها ستتزوج بشريك استثنائي، لم تشعر أليسا بأي فرح على الإطلاق.
‘سوف يظن أنني فظيعة.’
كان كيران نجل لكونت نبيل. كيف سيتصور حال إقطاعية بينو المتهالكة بعد حياة الرفاهية التي عاشها في العاصمة؟
لم يكن هناك حاجة للاستفهام الأمر بديهي. مجرد تصور ذلك الوجه الجميل مشوهاً باحتقار جعل أليسا تتمنى الموت.
بعد أن أُرغمت على قبول الزواج، بذلت أليسا قصارى جهدها لتحسين حالة القلعة المتداعية.
كانت الوثائق التي بين يديها ثمرة هذا الجهد، لكنها واجهت تحدياً آخر.
أنواع الأقمشة، أنواع الأطباق، أنواع الزجاجيات، وعدد لا يحصى من الزخارف، كانت الخيارات كثيرة للغاية.
كان من الصعب جداً على أليسا اختيار أشياء لم تعرفها من قبل.
وما زاد الأمر سوءاً أن الأسعار كانت باهظة إلى حد غير معقول. كانت تأمل على الأقل في استبدال الأطباق بشيء أفضل، ولكن حتى طبق واحد كان يكلف ما يعادل مصروف شهر كامل للقلعة.
‘والأدوات الفضية أغلى بكثير…..’
لم يكن هناك جدوى من مناقشة ما إذا كان ينبغي أن تكون من البلاتين أم الفضة.
حتى البرونز عالي الجودة كان مكلفاً للغاية. مهما اجتهدت، لم تستطع أن تخلق المال من العدم.
استمرّت أليسا في قراءة الوثائق بعزيمة حتى وصلت إلى حافة البكاء.
حتى وإن رغبت في استدانة المال، فمن ذا الذي سيُقرض لمثل هذه الإقطاعية البائسة؟
إذ لا النبلاء، ولا حتى التجار، يُحتمل أن يوافقوا على طلبها.
بتعبٍ عميق، رفعت أليسا عينيها لتفحص غرفتها. ورغم أنها كانت أرقى الغرف في القلعة، مخصصة للسيد، إلا أنها بدت قاتمة ومهجورة.
حدّقت بنظرات حزينة بين النوافذ الصغيرة المشوهة والزجاج الثمين الذي كانت تطمح إليه.
حاولت بجدية تزيين القلعة على الرغم من علمها بعوزها المالي، لكن كل جهدها ذهب سدى.
ومع رؤيتها لجهودها تذهب أدراج الرياح، قامت أليسا من مقعدها، وما زالت عيناها تراقبان الغرفة المتداعية.
غداً، سيصل كيران إلى الإقطاعية.
شعرت أليسا وكأن المقصلة قد سُلطت فوق رأسها، فطأطأت برأسها بعمق.
في اليوم التالي، جلست أليسا إلى مكتبها، وقد وُضعت أمامها الوثائق، إلا أن القليل منها فقط كان قد عُولج.
عندما نظرت نحو النافذة، صُدمت لرؤية عربة سوداء حالكة اللون تقف في الخارج.
كما لو أن الفجر قد أتى بعد التواء عنق دجاجة، ها هو كيران قد وصل أخيراً.
بشفتيها المضغوطتين بإحكام، نهضت أليسا بحذر من مقعدها وتقدمت نحو النافذة.
كانت العربة غير المألوفة، والتي تشبه عربات الجنازات، تُشير بوضوح إلى أنها من إقطاعية ألبرخت، موطن كيران.
عندما فتح الباب ونزل رجل ذو شعر فضي من العربة، سمعت أليسا صوتاً يناديها من عتبة الباب.
“دوقة، لقد وصل اللورد ألبرخت.”
كربّة القلعة والشخص الذي سيصبح زوجها قريباً، كان من المفترض أن تخرج أليسا لاستقبال كيران بنفسها، لكنها بقيت في مكانها وكأنها مسمرة.
على الرغم من محاولاتها لإقناع الخادمات بتنظيف وغسل القلعة، ما زالت قلعة بينو تبدو متهالكة وغير مرتبة.
كان من المؤكد أن مزاج كيران، وهو يرى هذه القلعة، سينحدر إلى أسوأ حالاته إذا كان عليه أن يلتقي بأليسا أيضاً.
حتى إذا استثنينا كونها شريكة زواج غير مرغوب فيها، لم تكن أليسا شخصية يستهويها أحد.
حين نظرت أليسا إلى أسفل، رأت يديها الصغيرتين المتصلبتين. حتى عند ضمهما على شكل قبضة، كانت يديها من النوع الذي تفضل عدم النظر إليه.
لم يكن الأمر مقصوراً على يديها فحسب، بل كان كل ما فيها على هذه الشاكلة. لا شيء فيها يستحق الثناء، كل شيء كان قبيحاً ومروعاً.
لم تنظر أليسا في مرآة منذ زمن طويل، ومع ذلك كانت على دراية تامة بشدة بشاعتها.
كان الجميع يتجنبها كما لو أنهم رأوا شيئاً لا ينبغي رؤيته.
حتى الخدم الذين تتعامل معهم يومياً كانوا يتجنبونها. ولم تتلقَ أبداً نظرة طيبة من والديها.
قبيحة ومفزعة. كلمات والدتها المتكررة كانت تتردد في أذنيها.
تمنت أليسا أن يكون كيران في أقصى درجات الراحة، ولم ترغب في أن تزعجه بوجودها.
“اهتم بالزائر على نحو لائق.”
بدلاً من أن تفتح باب غرفتها، اكتفت بقول هذه العبارة وابتعدت عن النافذة.