مع العناء With the pain - 2
الفصلُ الثّاني
العنوان “كلُّ شيءٍ يُمَكِن أن يَتغَير!”
“فيونااااااا تَعَالي إلى هُنا، أيَتُها الحَقِيرة!”
لَقَدْ سَيطرَ القَلقُ على بَطلَتِنا.
“هاه، مَاذَا حَدثَ يا تُرى؟”
وذَهبَتْ تركُضُ لتَعرِفَ مَاذا جَرى، كَانَتِ الفيكونتيسة فِي غُرفةِ الضِيُوف.
دَخلَت بِهدوءٍ لأنَّهَا كانَتْ قلقةً جدًا وتَتَسَائلُ في دَاخلِها عِن مَا جَعلَ والِدتَها تَصرُخُ بِذلكَ الشكَل.
“ن.. نعم يَا والِدتي، هل نَادَيتِني؟”
فجأةً مَشَتِ الفيكونتيسةُ بِسُرعةٍ نَحو ابَنَتِها وصَفعَتْها بقوةٍ، ممَّا جعلَ فيونا تَسقُطُ أرضًا وترتطِمُ بالبابِ الذي قد أغلقتْهُ بَعدَ دخُولِها..
“أيتُها الحَقيرةُ.. كيفَ تَجرُؤين؟ سَوفَ أقتُلكِ، لَن أدَعَكِ تُفلِتِين.”
وهَجَمتِ الفِيكونتِيسةُ بوحَشِيةٍ على ابنَتِها، وكَانَ المُدرِبُ كُروس يقفُ بُقربِ نافذةِ غرفةِ الضيوفْ وهَرعَ لِيُمسكَ الفيِكونتيسةَ بَعدَ مَا رَآه، لكي يمنعَهَا من ضربِ فيونا.
“اهدَئِي يَا سيدتي، أرجُوكِ، الآنسةُ لَيسَ لَها عِلم بِهذا حَتى، أرجُوكِ، دَعِيها.”
ولكنّ الفيكونتيسةْ كانت تُقاوِمُ مُحاوِلةً دفعَهُ بِكلِّ قُوتِها، لِكَي تُفرغَ جَامَ غَضَبِها على فُيونَا.
“دَعنِي، يَجِبُ أن أضَعَ حَدًا لأفعَالِها، أيتُها الَلعِينةُ تَعَالي، وسَأريكِ، أيَتُها القَبِيحة، أيتُها الحَمقاء!”
وكَانَتِ فيونا جَالسةً عَلى الأرضِيةِ، تَضَعُ يَدَها على خَدِّها الذي تَورمَ إثرَ الصَفعةِ القوية، تشعرُ بالرعبِ الشَدِيد وترتعشُ مِن الخَوف، وبِالكادِ تلتقطُ أنّفاسَها، وكانت تُحاولُ مَنعَ دمُوعِها مِنَ الانهمار.
تَمَكَن السّيدُ كروس مِن مَنعِ الفيكونتيسة مِن ضَربِ ابنَتِها أخيرًا، وبدأ يحادثُها بنبرةٍ مرتفعةٍ قليلًا، كي تُصغِي إلَيه ولا تَتَجاهلَ كلِماته.
“رجاءً، يا سيدتي، لا تَلومِي ابنَتكِ، فَهي لا تَعلمُ عَنّ هذا الأمرِ، ولَقَد جِئتُ لكِ مباشرةً، أستَشيرُكِ عَن هَذا الأمر، لذا فَهِي لا تَعلَمُ حَتى عَن قُدومِي وحَديثيَ هَذا معكِ..
أرجوكِ، لا تُعاقِبيها، وتُحمِليها مَسؤوليةَ هذا، ثمُ إننَي لَم أكُن أعرِفُ أنكِ تَرفُضينَ الأمرَ بِشدة، لِذا أعتذرُ كثيرًا مِنكِ، أرجوكِ اهدَئي، فِي النهاية، فيونا ابنتكِ، وأنتِ والدتها، ولن تُعاقِبيها بَهذا الشكلِ بِسببِ أمرٍ تافهٍ كَهذا، صحيح؟
إذن، إعذرِيني..”
مدَّ يدهُ إلى فيونَا، مَساعدًا إياها عَلى النُهوضِ، لَقَد نَهضَت وطأطأتْ رأسَها، ورُغمَ مُحاولَتِها لحبسِ دُموعِها، إلا أنّ بَعضًا مِنها خَرجَ رغمًا عَنها.. حاولتْ مَسحَ دمُوعِها بيِدها، التِي خُدِشَت إثرَ سُقوطِها على الأرض، بَعدَ تلقي الصفعة..
“سآخذُ الآنسةِ فقَط لِثوانٍ لأهدئها، ثمُ سأغادر، اسّمَحي لِي.”
وَخرَجَ على عَجلٍ، بِدونِ أن يُسمعَ رَدها حتى، وجرَّ فيونا مَعه.
…..
“جعَلَها تجلسُ في الحديقةِ الموجودة أمامَ البابِ الرئيسي، ومسحَ دموعها بيديهِ وابتسمَ ابتسامةً يشوبُها الحُزن وقال لَها بنبرةٍ ناعمة وفيها نغمةٌ حزينةٌ بعضَ الشيء:
“فيونا… أنا آسف، لم أرد التسببَ لكِ بمشاكل. أرجُو أن تغفري لي وأن لا يكونَ هذا الموقفُ سببًا يجعلكِ تكرهينني.”
لقد أخذت نفسًا عميقًا وأجابته بهدوء يَنطوي على الحيرة:
“ماذا حَدث؟ أنا لا أفهَم. لِماذا غَضبت أمي ومَاذا قلتَ لها؟ هل أنا سيئةٌ في الدروس؟ وإذا لم يَكُن الأمرُ كذلك، إذًا مَا الخطب وما الذي جعَل والدتي غاضبة؟ أرجوكَ أن تشرح لي.”
أطلقَ زفيرًا وطأطأ رأسهُ قليلًا، وبدت ملامحُ الخجلِ عليه.
أجابها وهو يتجنبُ النظرَ إلى عينيها:
“ل… لقد أُعجِبتُ بالانسة، أعجبني جمالها الخلاب وأخلاقها الساميةُ وأسلوبُ تعامُلِها الراقي، وبصراحة لقد أحببتكِ حقًا، رغم أنه لم يمضِ سوى وقتٍ قصير على تعرفي عليكِ، إلا أنَّ تلك المدةَ القصيرةَ كانت كفيلةً بجعلي معجبًا بكِ. لذا…
طلبتُ الإذنَ للزواجِ من الانسةِ من والدتِها، ولكنني فورَ أن أعربتُ لها عن رغبتي، صارت تغلي وشعّت عيونها غضبًا واستشاطة، وبدأت تصرخ مناديةً اسمكِ..
أنا… أنا لا أعرفُ ما الخطأ الذي ارتكبتُه، أليسَ من الطبيعيِ لأيِّ شابٍ حينما تُعجِبُهُ فتاةٌ ما، أن يقومَ بطلبِ الإذن من والديها للزواجِ منها؟ لم أكن أتوقعُ أنها ترفضُ أمرَ زواجكِ تمامًا، وقد أوقعتكِ في المشاكل وجعلتها تعتقدُ أن كل هذا الوقت الذي مضى…
كنا فيه منشغلينَ بإقامةِ علاقةٍ عاطفية، رغم أنني أخبرتُها بأنهُ لم يحدث شيءٌ من هذا القبيل، إلا أنها لم تصغي لي أبدًا. أنا… أنا آسفٌ حقًا. يبدو أنهُ ليس من المقدرِ لي الارتباط بكِ.”
وأخذ ينظر إليها نظرةً ملؤها الحزن والإحراج مما حدث.
سكتت لوهلةٍ ثم أشاحت بناظريها وقالت له:
“اه، إذن هكذا الأمر. أنا بصراحةٍ لا أعرفُ سببَ فورانِ والدتي، لكنها هكذا دائمًا تغضبُ من أبسطِ الأمور، لذا أنا من عليها الاعتذارُ نيابةً عن والدتي على الصداعِ الذي سببته لك.”
رفع يديه وقال “اه، لا أبدًا لم يُزعجِني ذلك. أنا فقط… حزينٌ قليلًا لأنها ترفضُ بشدة ارتباطنا.. ربما لأنني لستُ شخصًا جديرًا بكِ؟”
“لا، لا تفكر بتلك الطريقةِ سيد كروس. أنت شخص جيد، ولكنِّ…”
نظر إليها باستغراب وقال “ولكن؟”
تغيرت ملامحُها قليلًا، وكان يبدو عليها الاستياء:
“لا تلقِ بالًا لهذا. فوالدتي هكذا دائمًا تحاولُ فَصليَ عنِ العالمِ الخارجي قدرَ الإمكان.”
استغربَ ونظَر إليها بتعبيرٍ يتسائل ، وأجابها:
“لماذا؟”
ابتسمت ابتسامةً مشوبةً بالوجعِ، وقالت:
“أنا لا أعرفْ، دائمًا ما يقولُ لي والداي أنَّ العالمَ الخارِجيّ خطِر، وأنهُ لا يجبُ أن يراني أحد، أو يعرفَ أنني ابنتُهما، لأنَّ أعداءُهما يترَبصونَ بِهما ويحاولون إيجادَ ثغرةٍ ما، وأنا هي نقطةُ الضعفِ تلك.”
أجاب باستياء:
“ولكن ذلك غيرُ معقول. أن تُعزَلي عن العالمِ أجمع فقط بسببِ أعداءِ والديكِ؟ هذا غَير منطقيٍ البتة!”
“وماذا بِيدي لأفعلهُ في النهاية؟ هُما والداي وهما يعرفانِ مصلحتي.”
نظر إليها باستياءٍ وحزنٍ ولكنه لم يَرُد.
وفجأةً جاءت الفيكونيسةُ وقالت بغضب: “ألا تزالُ هنا؟ ألم أقل لكَ أن تغادرَ وأن لا تَقترِب من ابنَتي أبدًا؟!
ولتضع في اعتباركَ أنهُ إذا ما أخبرتَ أحدًا عن ابنتنا فستتحملُ مسؤوليةَ كُل شيءٍ إذا أصابَها مكروه!”
نظرَ إليها بعبوسٍ وبنظرةٍ حادةٍ وقال بصوتٍ حادٍ ومنخفض: “إن كان هنالك أشخاصٌ سيؤذونَها حقًا فأنتِ أولُ شخصٍ محتملٍ لفعلِ ذلك بسببِ الطريقةِ التي تعاملينها بها.”
وهي الأخرى أجابت بحدة: “ماذا قلت؟!”
لكنه استدارَ مغادرًا المكانَ ولوحَ بيدهِ وقال: “لا شيء، على أي حال أراكِ لاحقًا أيتها الفيكونتيسة.”
وبعد أن غادرَ، أمسكتِ الفيكونتيسة كتفَ فيونا بقوة، ففزعت فيونا وأدارَت ظَهرها لِترى الابتسامةَ الشريرةَ المرسومةَ على وجهِ والدتها، فاقشعرَ جسمُها وادركتْ أنها لن تَنجوُ هذهِ المرة.
جرَّتها الفيكونتيسةُ من شعرِها وأخذتْ تسحَبُها على الممرِ بِكلِ قسوةٍ ورمتْهَا في غرفةٍ بالية، واخذتْ تضرِبُها بقدَمِها مرارًا وتكرارًا، وصرخت فيونا من الألم، لقد شعرتْ أن أضلاعها قد تكسَّرت.
وسمعت صوتَ والِدِها الباردِ وهو ينادي زوجتهُ ويأمرها بِتجنبِ إبقاءِ ندبةٍ على جسدها: “لا أفهمُ ما أهميةُ ذلك، ألا بأس إن ضُرِبتُ بتلكَ الطريقة؟ أيعبرُ الوالدانِ عن مَحبَتِهما لأطفالِهما بتلك الطريقة دائمًا؟ ولكن لم أقرأ شيئًا كهذا في عالم الروايات!”
وبعد أن هدأت الفيكونتيسة، أقفلتِ الباب على فيونا في الغرفة المهجورةِ المغطاةِ بالغبار.
كان على فيونا البقاءَ في تلكَ الغرفةِ الموحشة لوحدها، وتصارعُ آلامِها لوحدها.
لقد عانقت قدماها جالسةً في زاويةِ الغرفة، وانهمرتْ دموعُها على وجنَتَيها الرقيقتين، كانَت تحاولُ كتمَ الأنينِ الذي ينامُ في صَدرِها.
وبعد أن هدّأتْ من روعِها قليلًا، أخذَت تفكرُ قليلًا.
وتَذكرت ما قالَهُ السَيدُ كروس “ولكن ذلك غير معقول ، أن تنعَزلي عن العالمِ أجمعْ فقط بسببِ أعداء والديكِ؟ هذا غير منطقي البتة!!”
ثمَّ قالت لنفسها :
“ما الذي كان يقصدهُ السيدُ كروس بذلك؟”
“هل يسيء ُوالدايّ معاملتِي؟؟ ولكنني ابنَتُهما. فلِمَ قد يفعلانِ ذلك؟ فأيُ أهلٍ سيعاملونَ أطفالهما بكل حُب، حتى لو قَسوا بعضَ الشيء عليهم.”
مدّت رأسها على يديها، التي تُعانقُ قدَميها بها، وأكملتْ التفكير:
“همممم، بالرجوعِ إلى الماضي. لقد كانت أمي تحسنُ معاملةَ نيكول، لَم تَكُن تعاملهُ بنفسِ الطريقةِ التي كانتْ تعاملُنِي بها. أي شخصْ سينظرُ إليها كان سيعلمُ جيدًا أنَّها مهووسةٌ به.
ولكنِ الشيءُ الغريبُ كانَ أن نيكول لم يكن يهتمُ بوالدتي أبدًا، وكان يعاملُها بقسوةٍ ولا يسمحُ لها بالاقترابِ منه.”
….
“نيكول، عزيزي، لماذا تَتَجنبُ والدتك؟”
ردَ عَليها بجفاء: “هه، تسألينني وكأنكِ لا تعرفين، شخصٌ مثلكِ لن أعترفَ به كأمٍ لي.”
فردَّت بحنق: “لماذا؟! لقد فعلتُ كل ذلكَ من أجلِك، من أجلكَ وحدك، وأنت تردّ لي ذلك بِتَجاهُلي ومُعامَلتي بجفاءٍ؟ أنا أحُبكَ يا نيكول، يا صَغيري، وقلَبي لا يحتملُ قَسوتكَ هذهِ. أرجوكَ، لا تتصرفْ معي هكذا..”
ولكنه أدارَ وجهه واستمرَّ بالتحدثِ إليها بنبرةٍ وقحة:
“كُفّي عن ازعاجي وعنِ الضحكِ على نفسكِ.”
كانت فيونا تقفُ عندَ البابِ. لقد جاءت لأنَّها أرادتْ التحدثَ مع والدتها. ولكنّ الفيكونتيسة لمحَتْها فجأة وتغيرتْ تعابيرُها.
واتَجَهتْ نَحوُها و كانتْ ستفرغُ جامَ غَضبِها عَليها مرةً أخرى. فصرخت فيها قائلة: “ما الذي تفعلينه هنا؟! لقد كنتِ تتنصتينَ على محادثتنا، أيتها الوقحة.”
ورفعت يدها بُغْيَةَ صفعِ فيونا.
فتغيرت تعابيرُ نيكول – أخُ فيونا – الباردة. وبدا عليه الغضبْ ووقفَ أمامَ فيونا لكي يمنعَ والدتَهُ من مدِّ يدِها عليها.
“لا تَلمِسي فيونا، دَعِيها وشأنها. هي لَيست بِدميةٍ تفرغينَ عليها طاقتكِ السلبية.”
فردَّت بامتعاض: “لماذا تدافعُ عن هذا الجرذِ يا نيكول؟ إنها مجردُ قمامةٍ لا تستحقُ اهتمامًا منك، ولدي العزيز.”
“لا أسمح لكِ بإهانتها، إن كنتِ تريدينَ أن تُبقي على خَيطِ الإحترام ِ الوحيدِ بيننا، فلا تمسِّيها بسوءٍ، وإلا لن تريْ منِّي تصرفًا يُعجبكِ!”
وأخذَ بيدِ فيونا وغادرا الغرفة.
“هل أنتِ بخيرٍ يا فيونا؟ لا تهتمي، أخوكِ بجانبكِ، وسوفَ يحميكِ دائمًا.”
امسَكَها من كتِفَيها وهمسَ لها بنبرةٍ لطيفة، كلماتٍ مطمئنةٍ جعلتْ فيونا تشعرُ بالراحة. فابتسمت ابتسامتَها الجميلةَ المعتادةَ وقالت:
“شكرًا لكَ يا بطلي!”
لقد احمرَّ نيكول قليلًا لأنه خَجِل من إطرائها.
….
“نيكول!”
“لقد كان لطيفًا جدًا معي. لقد اشتقتُ إليهِ كثيرًا! أتسائلُ كيفَ غدا شكلُهُ الآن؟ هل أصبح طويلًا؟”
ابتسمتْ وضحكتْ ضحكةً خافتة.
“آملُ أنكَ تعيشُ حياةً سعيدةً.. أتمنى فقط لو أستطيعُ لقائك.”
وخطرت على ذهنِ فيونا ذكرى أخرى قبل ستِّ سنوات.
….
“لماذا؟! لماذا تريدُ المغادرةَ؟ أ تريدُ أن أموتَ من الحزنِ على فراقِكَ؟!”
ضحكَ ضحكةً ساخرةً وقال: “تموتينَ من الحزنِ عليَّ أم على مالكِ وثروتكِ؟ والدتي أنتِ لا يهمكِ وجودي من عدمه. كلُّ ما يهمكِ هو وجودُ وريثِ لكِ فقط..
ثم إنني غيرُ مستعدٍ للعيشِ مع أشخاصٍ مثلكم. لقد سئمتُ من أفعالِكمُ القذرة وسُمعتكم السَيئة في المجتمع. لا أريدُ العيشَ معكم تحتَ سقفٍ واحد.”
بدأت بالبكاء قائلةً: “نيكول، يا لقسوتك، أنتَ تعلمُ أنني أحبكَ كثيرًا. لماذا؟ لماذا!”
تجاهلَها ولم يَرُدْ. وفجأةً نظرَ إلى فيونا التي حاولت الاختباءَ خلفَ الباب. فأصبحت تعابيره لينةً وابتسم ابتسامةً تشوبُها الحزن.
فاقتربَ منها وداعبَ شعرها ثم وضعَ يدهُ على وجهِها وقالَ لها: “فيونا عزيزتي، أنا آسفٌ حقًا. لقد طلبتُ من جدي أن اخذكِ معي ونعيشَ معًا في منزلهِ بعيدًا عن هذهِ العائلةِ التعيسة، ولكن جدي رفضَ بشدة. أنا آسفٌ حقًا. أردت أخذكِ معي.. أنا.. أنا آسف.”
انحنى وكان مستاءً جدًا. فقامت فيونا بالتربيتِ على رأسِهِ وابتسمت بوجههِ وقالت: “لا بأسَ يا أخي. سأبقى هنا. من غيرِ الجيدِ تركُ والدينا هكذا أيضًا. لا تشغل بالك بي، فقط عش حياةً سعيدة. هذا كلُّ ما أتمناه.”
لقد ابتسمَ مجددًا وهو يعتصرُه الاستياءُ من نفسهِ وقلةِ حيلته. فضمَّها إلى صدرِهِ بقوةٍ وقال لها: “أعدكِ.. أعدكِ أنني سأعود بعد بلوغي سن الرشدِ وآخذكِ معي وأخلصكِ من هذا الجحيم، حتى ذلك الوقت انتظريني حسنًا؟”
فقالت له وهيِ تبتسم ابتسامَتها المعهودةَ التي تُدخِلُ البهجةَ لقلبِ كلِّ من يراها: “حسنًا، سأنتظرك بفارغِ الصبر يا أخي العزيز.”
عانقا بعضهما بحرارة. فهو وقت الوداع
ثم رحل، غادر نيكول ليعيشَ في بيتِ جدِّه من الآن فصاعدًا.
…
ابتَسمت وكانَ في ابتسامتِها شيءٌ من الحزنِ والعتاب.
“نيكول، أيها الكاذب، لم تعُد كَما وعدتني. من المفترضِ أنكَ الآن في الثانيةَ والعشرينَ من العمرِ، صحيح؟
هل سأراكَ مرةً أُخرى؟ رُبما نسيتني؟ حسنًا، هذا ليس شيئًا مستبعدًا. فأنا مجردُ عبءٍ ومصدرِ إزعاجٍ كما تقولُ والدتي..
والدتي…”
حدقَتْ بالسقفِ وفكرَت بعُمق.
“هل والداي يكرهانني؟ ألأنني ولدتُ كفتاة؟ أم لأنني مصدرُ إزعاجٍ وقد جَعَلتُ حَياتهُم مجردَ جحيمٍ كما تقول والدتي دائمًا؟.. أنا، أنا حقًا لا أعرف…
لم أرِد أن أصَدقَ أن حَياتي هذه قد تكونُ مُزيفةً، و لمْ أرِد أنّ أصدقَ أنني وحيدة، وأن الجَميعَ يكرهني..
ربما أحاولُ الكذب على نَفسِي لأهونَ مأسَاتي التي أتَجرعُها كل يومٍ، كيفَ لي أن أصمُد؟ أشعرُ أن الصمودَ باتَ صعبًا للغايةِ علي، أريدُ الخلاص!”
رغم أنها كانَت تَبتَسِم، إلا أنّ تلكَ الابتسامةَ كانَت تحاولُ إخفاءَ ألمٍ كبيرٍ، ألمٍّ بِقلبها.
بعد ذلك، غطت في نومٍ عميقٍ من الإرهاقِ والألم…
|في اليوم التالي|
استيقظتْ فيونا على صراخِ والدتها.
“استيقظي. أوَ أعَجبكِ النوم في هذا المكان؟ هيا، انهَضي بسرعة قبل أن أضْرِبك.
وبالمناسبة، لا طعامَ لكِ اليوم، فأنتِ لا تزالِين معاقبة، وعليكِ أنّ تكوني ممتنةً لأنني أخرَجتكِ.”
كانت تنظرُ لِفيونا بازدراءٍ ثم غادرتِ الغرفة.
ذهَبتِ فيونا وقامَت بترتيبِ غُرفتِها، وجلستْ تقرأُ الكتبَ على السريرِ كالعادة، وتنظرُ بصمتٍ إلى الخارجِ من خلالِ نافذةِ غرفتها.
جلَست أمام النافذةِ وسرحَت في أفكارِها المبعثرة.
“لقد مضى 19 عامًا على ولادتي. لم تتغيرِ الحالُ هنا كثيرًا. أتسائل، هل يمكنُ لحياتيَ أن تتغيرَ بعد أنّ مَضى كلُ هذا الوقتِ دون تغيرٍ يُذكَر؟”
فجأة، سمعتْ صراخَ والدتِها وعلى ما يبدو أنها كانت تتشاجر مع الفيكونت.
“كيفَ لَهم أن يصلوا إلى هذا الحدِ بدونِ عِلمك؟!”
“ومَا أدراني؟ لقد اتخذتُ كُلَ احتياطاتي ولكن رُغم َهذا حدثَ ما حدث. لابدَ من وجودِ أحدٍ خلفَ هذا.”
“أ لم تكن تتفاخرُ دائمًا بأنَّكَ ذكي، وأنَّ خططكَ لا مثيلَ لها ولا أحدَ يستطيعُ النيلَ منك؟ هيا، أخبرني ماذا ستفعلُ حيالَ هذهِ المصيبة ها؟”
“اخرسي قليلًا. أليسَ كلُّ هذا بسببكِ؟! أتعرفينَ الشخصَ المباشرَ الذي يواجهنا؟
إنه ابنكِ، ابنكِ يا حضرةَ الفيكونتيسة، بالتعاونِ مع أحدِ الفرسانِ ذوي النفوذِ العالي، وهو يحاولُ الانتقام منكِ الآن..
لقد أخبرتكِ أن هذا الولد لا فائدةَ ترجى منه.”
“لا تتحدث عن ابني بهذا الشكل.”
كانت فيونا تقف خلف الباب وتسترقُ السمع.
“نيكول؟! والفرسان الامبراطوريين؟ ماذا جرى يا ترى؟
ولماذا يبدو والدايَ متوترانِ لهذهِ الدرجة؟ أحدث شيءٌ سيء؟!
هل نيكول بخير؟!!”
فجأة، جاء فارس يركضُ وبيدهِ رسالة، فور رؤيته، اختبأتِ فيونا بالممرِ قربَ بابِ الغرفة.
“سيدي، لقد وصلتكَ رسالة.”
صرخ الفيكونت بوجههِ قائلًا: “وهل ترى أنَّ هذا وقت الرسائل؟!”
فأجابهُ الفارسُ والذعرُ أكل لسانَه، فأخذَ يتلعثمُ بالحديث.
“و… ولكنَّها رسالةٌ مهمةٌ جدًا جدًا جدًا.”
فيونا في قرارةِ نفسها: “هاه ماذا حدث؟ لم يُصِبْ نيكول أي مكروه. صحيح، ماذا يجري بالضبط؟”
“هاتِ الرسالة” وقامَ الفيكونت بفتحها، وحينما فتحها، فتح فمهُ بقدرِ ما يستطيعُ، وسقطتِ الرسالةُ من بينِ يديه.
“ماذا جرى؟، ما بها الرسالة؟” قالت الفيكونتيسةُ باستغراب..
كانت فيونا واقفةً خلفِ البابِ مجددًا وتسترقُ النظرَ إلى ما يحدث، وقد أصابَها القلق.
ظلت الفيكونتيسةُ تحدقُ بزوجها وقالت له: “ما خطبك؟ ما بها الرسالة؟ لماذا لا تجيب؟”
فأخذتِ الرسالةَ من على الأرضِ وقرأتها، وفجأة ، شحبَ وجهُها وبدا عليها الغضب.
وهذا زاد من توتر فيونا.
“ماذا حدث؟ ما الكارثةُ التي تخبئُها الرسالة؟!”
من قوانين الحياة:
-كلُّ شيء يمكن أن يتغير-
يتبع…
تأليف: فاطمة البدوخي